مختصر

التُحفة الاثنى عشرية

شاه عبدالعزيز غلام حكيم الدهلوي
اختصره وهذبه علامة العراق
السيد محمود شكري الألوسي

 

مقدمة بقلم محب الدين الخطيب
مقدمة المختصر : السيد محمود شكري الألوسي
الباب الأول: في ذكر فرق الشيعة، وبيان أحوالهم ، وكيفية حدوثهم وتعداد مكايدهم
الباب الثاني: في بيان أقسام أخبار الشيعة ، وأحوال رجال أسانيدهم ، وطبقات أسلافهم
الباب الثالث: في الإلهيات . اختلاف السنة و الشيعة في معرفة الله بالوجوب العقلي أو الشرعي . ومخالفة الإمامية للكتاب والعترة
الباب الرابع: في النبوة . اعتقادهم أن بعث الأنبياء واجب على الله
الباب الخامس: في الإمامة . اهل السنة يوجبون على الأمة نصب الإمام . والشيعة يوجبونه على الله . ونتائج ذلك
الباب السادس: في بعض عقائد الإمامية المخالفة لعقائد أهل السنة
الباب السابع: في الأحكام الفقهية
الباب الثامن: مطاعنهم في الخلفاء الراشدين والصحابة وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم أجمعين
الباب التاسع: ما اختص به الشيعة ولم يوجد في غيرهم من فرق الإسلام
خاتمة: حملة رسالة الإسلام والأولون، وماكانوا عليه من المحبه والتعاون على الحق والخير، وكيف شوّة المغرضون جمال سيرتهم

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لك اللهم لا أحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك .

اللهم صل على سيدنا محمد ، وعلى آل سيدنا محمد ، وعلى أصحاب سيدنا محمد وعلى أزواج سيدنا محمد ، وسلم تسليماً كثيراً .

     وبعد : فإن الإسلام امتاز على أنظمة الدين والدنيا جميعاً بكماله ، ووفائه بحاجة المجتمع الإنساني ليكون به سعيداً في كل زمان ومكان ، كما أمتاز بحفظ الله له – في أصليه الأصيلين : القرآن الحكيم والحديث النبوي – بما لم يسبق له نظير في كل هداية عرفها البشر ز

    والمسلمون الأولون – الذين تولى الهادي الأعظم e تربيتهم وتوجيههم وإعدادهم لالاضطلاع بمهمة الإسلام العظمى – كانوا المثل الكامل للعمل بالإسلام : في إيمانهم ، وطاعتهم لله ، وأخلاقهم الكريمة ، وسياستهم الحكيمة ، وفتوحهم الرحيمة ، وتكوينهم المجتمع الإسلامي الصالح ، والدولة الإنسانية المثاليّة . وقد كافأهم الله على ذلك بانتشار رسالته على أيديهم ، وذيوع دعوته بين الأمم إقتداء بهم ، واتباعاً لهم .

     ولما تخطت رسالة الإسلام حدود الجزيرة العربية المباركة – فدخلت العراق وإيران شرقاً ، والشم شمالاً ، ومصر وإفريقية غرباً – كان ذلك سعادةً للخيار من أهل البلاد المفتوحة ، وغذاء لعقولهم ، وبهجةً وحبوراً تطمئن بهما قلوبهم . وشجىً للأشرار منهم ، وغصةً في حلوقهم ، ومبعث إحنةٍ وغلٍّ تسمّمت بهما دماؤهم وأرواحهم .

     إن الأخيار من طبقات سالم مولى ابي حذيفة ، وعبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، فالحسن البصري ، وعبد الله بن المبارك ، فمحمد بن إسماعيل البخاري ، وأبي حاتم الرازي ، وابنه عبد الرحمن ، وأندادهم وتلاميذهم ، استقبلوا هداية الإسلام السليمة الأصلية بأرواحهم وعقولهم ، وفتحوا لها أبوابهم وصدورهم ، وأحلوا لغتها محلَّ لغاتهم ، وعملوا بسننها بدلاً من سننهم ، ونسخوا بإيمانها كل ما كانوا – أو كان آباؤهم – عليه من قبل . فساهموا في حفظ كتاب الله وسنة رسوله الأعظم ، وحرصوا على فهمها كما كان يفهمها أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل ومن ائتم بهم وسار على منهاجهم ، حتى صاروا بنعمة الله إخواناً للمسلمين كصالحي المسلمين ، وأئمة المسلمين كسائر أئمة المسلمين .

مربع نص: (1)
 

    وإن الأشرار من طبقة الهرمزان ، وعبد الله بن سبا ، وعبد الله بن يسار ، وأبي بكر الكروس ، ورشيد الهجريّ ، ومحمد بن أبي زينب ، والأحول الخبيث شيطان الطاق ، وجهم بن صفوان ، وتلميذه هشام بن الحكم الذي كان غلاماً لأبي شاكر الديصاني ، وهشام الآخر وهو ابن سالم الجواليقي وكان يقول إن الله جسم ذو ابعاد ثلاثة ، والأحوص أحمد ابن إسحاق القمى الذي اختر لشيعة عصره عيد بابا شجاع الدين    ، وبنوا أعين : زرارة وبكير وحمران وعيسى وعبد الجبار ، والمفضل بن عمر الذي وصفه جعفر الصادق بأنه كافر ومشرك وعده قدماء الشيعة من الغلاة ، ثم جاء شيعة عصرنا ينافحون عنه ويعتذرون له بأن ما كان يعدهُ قدماؤهم غلواً اصبح اليوم من ضروريات التشيع في شكله الحاضر ( أنظر كتابهم تنقيح المقال للمامقاني 3 : 240 – 241 ) وهذا اعترافُ علميٌّ في أهم كتبهم في الجرح والتعديل بأنهم الآن كلهم غلاة كما كان المفضل بن عمر الذي وصفه جعفر الصادق بالكفر والإشراك ، وإعلان منهم بأن المذهب الشيعي استقر الآن على ذلك الغلوّ ، وكل ما كان يعد في السابق غلواً فهو اليوم من ضروريات المذهب .

مربع نص: (1) هو لقب لقبوا به أبا لؤلؤة اللعين قاتل أمير المؤمنين عمر . أنظر ص 208 – 209
 

     إن الأشرار ممن سميناً ، وألوفاً كثيرة مكن أمثالهم ، قد أبغضوا من صميم قلوبهم اصحاب محمد e وأحبابه  وأعوانه على الحق ، لأنهم أطفأو نار المجوسية إلى الأبد ، وأدخلوا إيران في نطاق دولة الإسلام ، وأقاموا المسجد الأقصى على انقاض الهيكل . فهذا ( الذنب ) الذي ارتكبه نحو المجوسية

 
 
هم ودسائسهم جيشاً لجيش ، وجهاداً لجهاد ، ومعركة بعد معركة ، حتى هزمهم الله في كل موقف ، وخذلهم في كل ملحمة . فباتوا ينتظرون الفرص السانحة ، ويترقبون للمسلمين الأولين ما يترقبه المبطلون لأهل الحق في كل زمان ومكان . فلما لم ينالوا منهم شيئاً ، وطالت عليهم خلافة أمير المؤمنين عمر ، واتسعت الفتوح في زمنه ، وانتشرت كلمة الإسلام في آفاق مترامية الأطراف ، تآمروا حينئذ على سفك دم عمر وهو حمو رسول الله أبو أم المؤمنين حفصة ، وصهر عليّ  بن أبي طالب زوج بنته أم كلثوم الكبرى التي ولدت له ابنه زيداً وبنته رقية ، وأم كلثوم بنت عليّهي التي كانت في بيت أمير المؤمنين عمر لما تآمر على قتله الهرمزان وأبو لؤلؤة وغيرهما . ولا يزال الشيعة إلى اليوم مسرورين بما ساء علياً وبنته أم كلثوم وسائر أهل البيت من سفك دم أعدل من حكم في الأرض بعد محمد ( وصاحبه في الغار المجاور لهما في المدفن النبوي الطاهر جواراً لا ينقطع في الدنيا ولا الآخرة . وقد ظن المجوس الذين قتلوا عمر أنهم قد قتلوا الإسلام بقتله ، ولكنهم ما لبثوا أن علموا أنهم باءوا من هذه بمثل الذي باءوا به من تلك ، وحفظ الله رسالته ، وحاط دعوة الحق بعين عنايته وجميل رعايته ، وعادت جيوش الإسلام في خلافة ذي النورين توغل فيما وراء إيران ، وتفتح لكلمة الله آفاقاً أخرى متجاوزة الحد المنيع الذي كانوا يسمونه (( باب الأبواب )) ، فلم تكن على وج الأرض يومئذ – ولا في العصر  التالية إلى يوم القيامة – رايات تخفق بالنصر والعدل والرحمة كهذه الرايات النيرة الظافرة .

     حينئذ أيقن المجوس واليهود أن الإسلام إذا كان إسلاماً محمدياً صحيحاً لا يمكن أن يحارب وجهاً لوجه في معارك شريفة سافرة ، ولا سبيل إلى سحقه باغتيال أئمته وعظمائه . فأزمعوا الرأي أن يظاهروا بالإسلام ، وأن ينخرطوا في سلكه ، وأن يكونوا ( الطابور الخامس 9 في قلعته . ومن ذلك الحين رسموا خطتهم على أن يحتموا بحائط يقاتلون من ورائه الرسالة المحمدية وأهلها الأولين ، فتخيروا اسم (( علي )) ليتخذوه ردءاً لهم . وأول من اختار ذلك لهم يهوديٌّ ابن يهودي من أخبث من ولدتهم نساء اليهود منذ عبدوا العجل في زمن موسى إلى أن إخترعوا الفكرة الصهيونية في الزمن الأخير .

      نقل المامقاني في كتابهم تنقيح المقال ( 2 : 184 ) عن الكشى راس علمائهم في الجرح والتعديل ما نصه : (( وذكر أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً ، وكان يقول – وهو على يهوديته – في يوشع بن نون ( وصى موسى ) ، فقال في إسلامه في علي مثل ذلك  وكان ( أي عبد الله بن سبأ ) أول من شهر القول بإمامة عليّ وأظهر البراءة من أعدائه ( ومراد الكشى من أعداء عليّ إخوانه وأحبابه اصحاب رسول الله  ( ) ، وكاشف مخالفيه وكفرهم . فمن هنا قال من خالف الشيعة : إن أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهود )) . انتهى كلام الكشى إمام الشيعة

 

 

 

ي الجرح والتعديل ومؤرخ الرواية والرواة في نحلتهم ، وما ينبئك مثل خبير .

     وعبد الله بن سبا كان ملعوناً على لسان علي بن أبي طالب سلام الله عليه ، ودعوته كان مرذولة فيما كان بدين الله به كرم الله وجهه ، وقد طارد هذا الملعون وحرق بالنار من وصلت إليهم يده من أصحابه ودعائه ، وهذا هو المنتظر من إمام صالح راشد طالما خطب على منبر الكوفة فقال على رؤوس الشهاد : (( خير هذ الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر )) روي ذلك عنه  من ثمانين وجهاً ورواه البخاري وغيره ، وكان كرم الله وجهه يقول (( لا أوتي باحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري )) . ولما بلغت الجرأة والفجور باثنين من المتسممين بسموم عبد الله بن سبأ – ويقال لهما عجل وسعد ابنا عبد الله – فنالا من أم المؤمنين عائشة سلام الله عليها ، أمر عليٌّ القعقاع بن عمرو رضي الله عنهما بأن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة ، وان يجردهما من ثيابهما ففعل . وكان ذلك بعد وقعة الجمل .

     هذا هو علي في صورته التاريخية الثابتة عنه بأوثق ما ثبتت حقائق الماضي ، وهو غير عليّ في صورته الوهمية الكاذبة التي يصوره بها الشيعة على أنه مراءٍ جبان يمدح إخوانه الصحابة تقيةً ونفاقاً ويضمر لهم البغضاء حسداً وأنانية . إن علياً اسمى من ذلك وأكرم عند الله . وصورته الصادقة هي التي ثبتت برواية الصادقين عن الصادقين من رواة أئمة السنة  العلام الذين يخافون الله واليوم الآخر ويحبون علياً وآله حباً معقولاً سليماً من الآفات ، ويحفظون لهم كل كرامة وفضيلة . والصورة التي يصوره بها كذباً مجوس ههذ الأمة وتلاميذ اليهودي عبد الله بن سبأ صورة متناقضة جمعت بين تاليه عليّ ونعته باحط النعوت وأسوإها . ولم يكن كل شيعة عليّ في زمن عليّ من هذا الطراز ، بل كان فيهم كرام الصحابة وصالح المؤمنون ، والتحق بهم وأندس في صفوفهم الكفرة والحمقى والغلاة وضعاف العقول والكاذبون في إسلامهم ، ومنهم أتي رضوان الله عليه ، وهؤلاء هم الذين عاقوا هذا الإمام الأعظم عن أن يكون كما يحبه لنفسه وما يحبه الله له من نشر دعوة الله في آفاق أخرى لم تصل إليها دعوة الإسلام ، وشغلوه بحمايتهم قتلة عثمان ، وإن كان طالما أعلن لعنتهم على مسمع منهم وهم في كتائب جيشه ، أو في صفوف المصلين تحت منبره في مسجد الكوفة .

     إن هذا الطراز الضال المريب من شيعة عليّ في زمن علي كثيرون وكثيرون ، وهم الذين كان عليّ يشكوهم ويتبرأ منهم ، وكتاب نهج البلاغة ملئ بذمهم والزراية عليهم . وإن موقفهم من ابنه الحسن معروف في التاريخ ، حتى لقد تجرأو على إسالة دمه من جسمه الشريف بغياً عليه ونذالة منهم وكفراً ، وهم الذين أغروا أخاه الحسين ودعوه من بلده إلى بلدهم ، ثم تولوا بأيديهم سفك دمه الطاهر ، وبعد مقتله خرجوا يستقبلون آله بعيون باكية .

     نقل علامة الشيعة في هذا العصر الشيخ هبة الدين الشهرستاني ما رواه الجاحظ عن خزيمة السدي قال : دخلت الكوفة فصادفت منصرف علي بن الحسين بالذرية من كربلاء إلى ابن زياد ، ورأيت نساء الكوفة يومئذٍ قياماً يندبن متهتكات الجيوب ، وسمعت علي بن الحسين وهو يقول بصوت ضئيل – وقد نحل من شدة المرض :

      (( يا أهل الكوفة ، إنكم تبكون علينا ، فمن قتلنا غيركم ؟ ))

ورايت زينب بنت علي عليه السلام ، فلم ار والله خفرة أنطق منها بياناً ، قالت : (( يا اهل الكوفة ، يا أهل الختر والخذل ! فلا رقأت العبرة ، ولا هدأت الرنة . إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم . ألا وهل فيكم إلا الصلف والشنف ، وملق الإماء وغمز الأعداء ؟ وهل أنتم إلا كمرعي على دمنة ، أو كغضة على ملحودة ؟ ألا ساء ما قدمت أنفسكم . إن سخط الله عليكم ، وفي العذاب أنتم خالدون . أتبكون ؟ أي والله فأبكوا ، وإنكم والله أحرياء بالبكاء . فأبكوا كثيراً وأضحكوا قليلاً ، فلقد فزتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً )) .

    ونقل عالمهم المامقاني في تنقيح المقال ( 1 : 38 ) عن إمامهم الكشى بسندٍ رجاله كلهم من الشيعة أن بريداً العجلى قال : كنت أنا وأبو الصباح الكناني عند ابي عبد الله ( أي جعفر الصادق ) فقال : (( كان أصحاب أبي خيراً منكم ، كان أصحاب أبي ورقاً لا شوك فيه ، وأنتم شوك لا ورق فيه )) . فقال أبو الصباح : جعلت فداك ، فنحن اصحاب أبيك ! قال : (( كنتم يومئذ خيراً منكم اليوم )) .

     وبعده في الكتاب نفسه خبر آخر بأن أبا الصباح هذا الذي كان من كبار شيعة الصادق وأبيه الباقر قد عبث بثدي جارية ناهد خرجت له من منزل إمامه الباقر ، فأنبّه على ذلك …

    ونقل المامقاني ( 2 : 8 ) في ترجمة سدير بن حكيم الصـيـرفي عن آخـر كتاب الروضة من ( الكافي ) عن المعلى قال : ذهبت بكتاب عبد السليم بن نعيم وسدير وغير واحد ( أي وغير واحد من شيعة جعفر الصادق ) إلى أبي عبد الله ( وهو جعفر الصادق ) … فضرب بالكتاب الأرض ثم قال: (( أف ، أف ، ما أنا لهؤلاء بإمام )) .

    وفي ميزان الاعتدال للحافظ الذهبي ( 10 : 347 ) أن جعفر الصادق قال لابن السماك : (( إن زرارة بن أعين من أهل النار )) . وزرارة بن أعين هذا ممن يروى عنهم الكليني في الكاف نصيباً كبيراً من الأحاديث التي يكذبونها على آل بيت رسول الله ( ويعتبرونها ديناً .

     ومن أعلامهم أبو بصير الذي كذب على جعفر الصادق فأدعي انه سمع منه قوله (( وإن عندنا لمصحف فاطمة ، مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ، والله ما فيه من قرآنكم هذا حرف واحد )) . ومع أن طائفة كبيرة من دينهم وأحاديث بخاريتهم الذي يسمونه ( الكافي ) مروية عن أبي بصير هذا فإن علماءهم معترفون بأن أبا بصير مطعون في دينه ، لكنهم قالوا : (( إنه ثقة ، والطعن في دينه لايوجب الطعن !)) وعلماء الجرح والتعديل عند الشيعة إذا قالوا في رجل منهم (( إنه ثقة )) لا يريدون من هذا الوصف أنه صادق من أهل العدالة ، بقدر ما يريدون منه أنه معتصب لاتجاهاتهم ، مبعض للصحابة ، مجتهد في النيل منهم ، والافتراء عليهم .

   وإذا تتبعت تراجم أعلام الشيعة في زمن أئمتهم رأيتهم بين كذابين ، وملاحدة ، وشعوبيين ، وفاسدي العقيدة ، ومذمومين من أمتهم ، أو عابثين بأثداء جواري أئمتهم ن وكل ما يخطر ببالك من نقائص . وسبب ذلك أن دينهم من أصله فاسد ، وهل يثمر الدين الفاسد إلا الفساد ؟ .

     قا لشيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 1 ك 3 ) : (( إن أصل هذا المذهب من إحداث الزنادقة المنافقين الذين عاقبهم في حياته علي بن ابي طالب رضي الله عنه ، فحرق منهم طائفة بالنار  وطلب قتل بعضهم ففروا من سيفه البتار ، وتوعد بالجلد طائفة مغيرية فيما عرف عنه من الأخبار )) .

    وأخرج الحافظ ابن عساكر ( 4 : 165 ) أن الحسن المثنى ابن الحسن السبط ابن علي ابن أبي طالب سلام الله عليهم قال لرجل من الرافضة : (( والله لئن أمكننا منكم لنقطعنَّ أيديكم وارجلكم ، ثم لا نقبل منكم توبة )) . فقال له رجل : لم لا تقبل منهم توبة ؟ قال : (( نحن أعلم بهؤلاء منكم . إن هؤلاء إن شاءوا صدقةكم ، وإن شاءو كذبوكم وزعموا أن ذلك يستقيم لهم في ( التقية ) . ويلك! إن التقية هي باب رخصة للمسلم ، إذا اضطر إليها وخاف من ذي سلطان اعطاه غير ما في نفسه يدرا عن ذمة الله . وليست باب فضل ، وإنما الفضل في القيام بأمر الله وقول الحق . ويم الله ما بلغ من التقية أن يجعل بها لعبد من عباد الله أن يضل عباد الله )) .

    بل إن جعفراً الصادق دمغهم بكلمته المشهورة التي رواها عنه محمد بن بابويه القمى في كتاب التوحيد ، وهي قوله (( القدرية مجوس هذه الأمة : أرادوا أن يصفوا الله بعدله ، فأخرجوه عن سلطانه )) . وكم له عليه السلام من كلمات فيهم كوى بها أجسادهم لو أن في أجسادهم حياة وشعوراً .

    والإمام زيد بن علي زيد العابدين ابن الحسين ( عم جعفر الصادق ) من كبار علماء آل البيت وصلحائهم ، رُوي عنه في كتاب ( الحور العين ) لنشوان الحميري ص 185 أن الشيعة لما قالوا له في أبي بكر وعمر (( إن برئت منهما وإلا رفضناك )) فقال لهم رضي الله عنه : الله أكبر ، حدثني أبي أن رسول الله  (  قال لعلي عليه السلام : (( إنه سيكون قوم يدعون حبنا ، لهم نبز يعرفون به ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون )) . اذهبوا فأنتم ( الرافضة ! ) .

     إن الشيعة كاذبون في مودة عليّ وأهل البيت ،  وقد تبرأ منهم عليُّ وبنوه في مواقف لاتحصى . وإن الصالحين من أهل البيت الذين تبغضهم الشيعة وتذمهم أكثر عدداً من الذين تتظاهر بحبهم وبالتشيع الكاذب لهم . ومن صالحي آل البيت الذين يبغضون الشيعة وتبغضهم الشيعة سيدنا الإمام زيد بن علي زين العابدين ابن الحسين السبط رضي الله عنه وعن آبائه . أما أهل السنة فيرون من السنة أن يحبوا آل البيت جميعاً إلا من انحرف منهم عن سنة جدهم  ( ، ويتحرون الأخبار الصادقة عنهم ، ويعرفون لأصحاب النبي (  أقدارهم ، ويضعون الناس كلهم في المواضع التي أمر الله أن يكونوا فيها ، فلا يرفعونهم فوق بشريتهم ، ولا يزعمون لأطفال مولودين يتبولون في حجور أمهاتهم أنهم أعلم من علماء الصحابة وهم في سن الكمال .

    وهنالك ميزانان : يستعمل الشيعة أحدهما ، ويستعمل أهل السنة المحمدية الميزان الآخر . 

فالشيعة أبغضوا أصحاب رسول الله   (الذين قام الإسلام على أكتافهم ، لأن الإسلام قام على أكتافهم ن واخترعوا عداوة كاذبة لاأصل لها بين علي وإخوانه  في الله . وافتروا على الفريقين حكايات في ذلك سودوا بها صفحات السوء من أسفارهم . وبنوا دعوتهم على أن الحب والبغض في الإسلام ليس لرسالة الإسلام نفسها ، بل لأشخاص اخترعوا لهم شخصيات وهمية لا يعرفها التاريخ . ورووا – بالسنة ناس معروفين بالكذب – أقوالاً وصعوها على السنة أولئك النفر من آل البيت لا صحة لها ، ولم تصدر عنهم ، وإن العقل والمنطق يكذبانها . ونقضوا قول علي كرم الله وجهه (( اعرف الرجال بالحق ، ولا تعرف الحق بالرجال )) فسنوا قاعدة (( اعرف الحق بما رواه الكذبة عن رجال مخصوصين ، ولا تنقد ما نسب إليهم كذباً بعرضه على ميزان الحق وقواعد المنطق )) . ولما انتهوا من دعوى أنهم شيعة هذا النفر القليل من آل البيت المكذوب عليهم ، اخترعوا عداوة جديدة بين آل البيت أنفسهم ، فتجاهلوا رقية وأم كلثوم بنتي رسول الله ( لأنهما كانتا زوجتي أمير المؤمنين عثمان الذي بشره النبي   (بالشهادة وشهد له بالجنة . وزعموا أن بعض آل البيت اعداء لبعض ، إلى أن أسقطوا جميع آل البيت إلا ذلك النفر القليل الذي ثبت حق في كتب الشيعة أنه كان يلعنهم ويتبرأ منهم . فميزان الشيعة ميزان ( شخصيات وهمية )  زعموا لها ما ليس للبشر من صفات ، وتعصبوا لما إخترعوه هم من مبادئ وعقائد تخالف مبادئ الإسلام وعقائده ، رغبة منهم في تبديله والقضاء على رسالة الإسلام .

    أما ميزان أهل السنة فهو قول الله عزوجل (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) . فاتباع الرسول فيما جاء به هو الميزان عندهم وعند الأئمة الصالحين من أهل البيت أيضاً ، فيه يعرفون عدالة المسلم وصحة إيمانه ، وكلما كان المسلم اصدق إتباعاً لرسول الله فيما جاء به من الله كان أصح إيماناً وأصدق إسلاماً . ومقياس الاتباع عندهم اتباع كتاب الله على ما فهمه الصحابة من رسول الله ، واتباع سنته الصحيحة التي لم يمحص البشر اقوال رجلٍ في التاريخ وأعماله كما محص أهل السنة أحاديث هذا النبي الكريم وراقبوا أعماله . ولم يتناول التحقيق  الإنساني صدق رواة الخبار أو كذبهم ، واهليتهم لحمل هذه الأمانة أو عدم أهليتهم لذلك ،  كما حقق ذلك أعلام السنة المحمدية .

    هذا ميزان أهل السنة ، وذاك ميزان الشيعة . والتشيع معناه العصبية لأشخاص ، وأقبح العصبيات العصبية لأشخاص موهومين مكذوبً عليهم ومخترعة لهم شخصيات لا تلائم دينهم وأخلاقهم وتقواهم لله عزوجل . وأصل هذا الكتاب ( أعني التحفة الاثني عشرية ) ألف لعرض هذين الميزانين وبيان حقيقتهما للشيعة واهل السنة وللناس جميعاً . وقد ألفه باللغة الفارسية عند انتهاء القرن الثاني عشر الهجري كبير علماء الهند في عصره شاه عبد العزيز الدهلوي ( 1159 – 1239 ) أكبر أنجال الإمام الصالح الناصح شاه ولي الله الدهلوي ( 1114 – 1176 ) وكان شاه عبد العزيز يُعدُّ خليفة أبيه ووارث علومه . وكان رحمه الله مطلعاً على كتب الشيعة متبحراً فيها وقد اختار لهذا الكتاب مع اسمه لقباً هو ( نصيحة المؤمنين ، وفضيحة الشياطين ) ، وذكر غرضه من هذا التأليف فقال :

     (( هذه رسالة في كشف حال الشيعة ، وبيان أصول مذهبهم ، ومآخذه ، وطريق دعوتهم الآخرين إلى مذهبهم . وفي بيان أسلافهم ، ورواة أخبارهم ، وأحاديثهم ، وبيان قليل من عقائدهم في الإلهيات ، والنبوات ، والإمامة ، والمعاد )) .

     وقال : (( إن البلاد التي نحن بها ساكنون راج فيها مذهب الاثنى عشرية حتى قل بيت من أمصارها لم يتمذهب بهذا المذهب . وأكثرهم جهلة في علم التاريخ ، غافلون عن أصولهم وما كان عليه أسلافهم الكرام )) . ثم قال : (( وقد التزمت في هذه الرسالة أن لا أنقل شيئاً من حال مذهب الشيعة وبيان أصولهم والإلزامات الموجهة إليهم إلا من كتبهم الشهيرة المعتبرة ، أو الموافقة لما فيها ، لأحملهم على أن تكون الإلزامات التي يوردونها يزعمهم على أهل السنة والجماعة مطابقة لما في الكتب المعتبرة عند أهل السنة وموافقة لرواياتهم الصحيحة ، وبذلك تنتفي عنا وعنهم تهمة التعصب )) .

مربع نص: (1)
 

   وقال المترجم من الفارسية إلى العربية : (( إن المؤلف حيثما اطلق الكلام جعله على طريقة الشيعة ومذهبهم . وما أورده عن أهل السنة

قيده بهم وعزاه إليهم . ومن هذا القبيل ما ذكره في باب الإمامة ( ص124 ) عن إجتهاد معاوية ، فقد أورده بلسان الشيعة وطريقتهم تنزلاً ليقيم عليهم الحجة فيما بعد . فأصل الكلام في هذه الرسالة على قواعد الشيعة واصولهم ورواياتهم ، لتقوم الحجة عليهم بذلك )) 

    وبعد نحو ربع قرن من تأليف الكتاب بالفارسية وانتشاره في أقطار الهند وغيرها ، شعر مسلمو الهند بحاجتهم إلى ترجمته بالعربية ، واول من اقترح ذلك الحافظ محمد حيدر ، وقد كاشف في ذلك عمدة الأعيان الأمير محمد عبد الغفار خان بهادر ثابت جنك ابن محمد علي خان ، واختاروا لترجمته الحافظ الشيخ غلام محمد الأسلمي لتمكنه من مؤلفات الشيعة ومعرفته بموضوع الكتاب ، فضلاً عن إجادته اللغة الفارسية ، غير أن بيانه العبري لايزيد على ما ينتظر من مثله . وهو يقول في مقدمة ترجمته العربية : (( كان البدء بها في عهد عظيم الدولة بهادر أمير الهند والا جاه )) . وقا لفي خاتمتها : (( اختتمت ( الترجمة العبقرية ، والصولة الحيدرية ) عشاء ليلة الجمعة الخامسة من شهر شعبان سنة 1227 للهجرة في بندر مدراس ) . ثم شكا من الناسخ الذي عهد غليه تبييض الترجمة بأنه (( لم يكن يميز السين من الشين ، فمسخها ، ثم الزمني نصيحها بواسطة من لا يسعني أن أخالف له أمراً ، مستعجلا فيه غاية الاستعجال ، فأديته كأنه وبال )) 

   وبقي الأصل الفارسي وترجمته العربية مخطوطين يتناقلهما الناسخون بالقلم ، ومع ذلك عم انتشارها في مختلف البلاد ، وقد تفضل العالم السلفي الوجيه الكريم الشيخ محمد نصيف عين اعيان جدة فارسل إليّ بالطائرة نسخة مخطوطة من ترجمة الأسلمي ، وهي في مجلد ضخم بلغ 1051 صفحة في كل صفحة 19 سطراً ، ومع أنها كثيرة الأخطاء فضلاً عن عجمة مترجمها فقد نفعتني كثيراً في تصحيح هذا المختصر الذي قام به – في ختام القرن الثالث عشر الهجري – علامة العراق السيد محمود شكرى الألوسي ، وقد أرخ ذلك السيد شهاب الدين الموصلى بقوله : ثم في سنة  1315هـ طبع هذا المختصر طبعاً سقيماً على الحجر في المطبعة المجتبائية بمدينة بومباي بالهند ، فجاء كثير الأخطاء . وقد اقترح عليّ تحقيق هذا المختصر والعناية به والتعليق عليه صديقي العلامة السلفي الشيخ محمد نصيف – بارك الله في حياته – فقمت من ذلك بما ساعدني عليه الوقت ، مستعيناً بالله ، ومتقرباً إليه بهذا العمل الذي أرجو الله أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم .

      ولما علم أخي مؤرخ العراق الأستاذ / السيد عباس العزاوي المحامي في بغداد بقيامي على خدمة هذا المختصر للسيد محمود شكرى الألوسي رحمه الله كتب إليّ يقول :

    إن كثيراً من علمائنا الأفاضل الفوا في كشف حقيقة التشيع بعد شيخ الإسلام ابن تيمية ، واذكر منهم الآن القاضي فضل بن روز بهان فإنه ألف في الرد على ( منهاج الكرامة ) لابن مطهر الحلى الذي هدمه شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابه الشهير ( منهاج السنة النبوية ) .

ومنهم ميرزا مخدوم مؤلف ( النواقض ) .

واختصره السيد البرزنجي بكتاب ( نواقض الروافض ) .

مربع نص: (1)
 

والشيخ علي الهيتي بكتابه ( السيف الباتر ) .

     ولأبي الثناء الشهاب الألوسي الكبير كتاب ( الأجوبة العراقية ، على الأسئلة الإيرانية )  وهو يحتوي الجوبة  وصف شاعر العراق السيد عبد البقي العمري الأسئلة والأجوبة بقوله :

 

مربع نص: (3)
 

مربع نص: (2)

 

ولألوسي الكبير أيضاً كتاب ( نهج السلامة ، إلى مباحث الإمامة       ) .

وله  أيضاً  ( الأجوبة العراقية ، عن الأسئلة اللاهورية       ) ذبَّ فيه عن أصحاب رسول الله(   وأجازه عليه السلطان محمود العثماني بجائزة عظيمة .

وللبندنيجي ( الجوبة على الأسئلة اللاهورية ) أيضاً ، ومثلها للحيدري .

مربع نص: (5)    .
 

مربع نص: (4)

 

ومن الكتب الجيدة في هذا الباب ( الصارم الحديد في الرد على ابن أبي الحديد      ) ورد الشيخ علي السويدي العباسي على الشيعة .

وللشيخ عثمان بن سند كتاب ( الصارم القرضاب في نحر من سبًّ أكابر الأصحاب     ) 

مربع نص: (1)     طبع سنة 1317هـ في القسطنطينية بمطبعة مكتب الصائع . 
(2)      نقل عنه السيد محمود شكرى اللوسي في أوائل هذا الكتاب ( مختصر التحفة الاثنى عشرية ) . قال الأستاذ الكبير السيد محمد بهجة الأثرى في  ( أعلام العراق ) : كتب منه الشهاب الألوسي وهو مريض نحو عشرين كراسة وعاجلته المنية قبل أن يتمه . 
(3)     طبع سنة 1301 هـ بالمطبعة الحميدية في بغداد . 
(4)     أنظر لابن أبي الحديد ص 9 من هذا الكتاب ( مختصر التحفة الاثنى عشرية ) . 
(5)     عثمان بن سند هو مؤلف ( مطالع السعود ) في تاريخ العراق مدة حياة داود باشا . 
أما كتابه ( الصارم القرضاب ) فقد قال عنه الأستاذ السيد محمد بهجة الأثرى في ترجمة ابن سند المنشورة في اول مختصر مطالع السعود : هو كتاب في نحو ألفى بيت أو أكثر من الشعر الجزل الرائع ناقض به عبلاً الخزاعي الشاعر الهجاء ( وكان دعبل من شعراء الرافضة ) فكال له الصاع صاعين في الدفاع عن حياض سادات المسلمين .

 

 

 

 

 

 

 


ومن الكتب في هذا الباب ( حديقة السرائر وشرحها ) لعبد الله البيتوشي الملقب بسيبويه الثاني ، وهو من كبار علماء الأكراد .

     أما السيد محمود شكرى الألوسي فله في الرد على الشيعة غير ( مختصر التحفة الاثنى عشرية ) رسالة عنوانها ( سعادة الدارين ، في شرح حديث الثقلين ) . وهذه أيضاً كان أصلها باللغة الفارسية وهي لمؤلف التحفة الاثنى عشرية شاه عبد العزيز الدهلوي رحمه الله ز وقد عربها السيد محمود شكرى وضم غليها فوائد متعلقة بحديث الثقلين ، ورتبها على مقدمة ومقصد وخاتمة ، فجاءت في 40 صفحة .

      وله أيضاً ( السيوف المشرقة ، مختصر الصواعق المحرقة ، واصله للشيخ محمد خوجه نصر الله الحسيني الصديق الهندي ثم المكي ، اختصره السيد محمود شكرى الألوسي سنة 1303هـ بعد اختصار التحفة الاثنى عشرية ، وهو أكبر منها حجماً بنحو الثلث .

    وله أيضاً كتاب ( صب العذاب ، على  من سب الأصحاب ) ردًّ به على محمد الطباالطبائي المتستر باسم احمد الفاطمي في ارجوزة له تعرض فيها لأبي الثناء الشهاب الألوسي الكبير في أجوبته على الأسئلة اللاهورية ، فنتصر له حفيده السيد محمود شكرى بهذا الكتاب وهو في 115 صفحة .

   وبعد فإن الساهرين على حراسة التشيع لن يضروا الله شيئاً ، فقد تولى الله حفظ هذا الدين ، وادخره لسعادة الإنسانية يوم تنشد الإنسانية سعادتها من أقرب الطرق وأسلمها ، فلا تجد ذلك إلا فيما كان عليه تلاميذ رسول الله  ( ، وتابعوهم ، وتابعو التابعين لهم بإحسان . أما نشاط القوم فيما يصدرونه من كتب بذيئة ككتاب السقيفة والرد على رد السقيفة فستكون له فائدة واحدة وهي تفرع طبقة من شباب الإسلام في أنحاء الوطن الإسلامي الأكبر لدراسة أصل  التشيع وتطوّره ومقاصده وأهدافه  ، وبراءة أهل البيت منه ومن طواغيته ، إلى أن تنجلى الأمور على حقيقتها ، ويبوء  الكذب والباطل وأهلهما بما هم أهل له . والله ولي الصالحين .

 


 

 


الحمد لله  الذي ثبّت أركان الدين بأئمة اهل السنة وأعلامهم ، وجعل خلفاء نبيه أتباعه في الدنيا ويوم يدعى كل أناس بإمامهم . وسلك بهم مسلك السداد ، ومهد لهم طرق الهدى والرشاد . وعصمهم باتباع سنن رسوله عليه الصلاة والسلام ، من الزيغ والضلال والشبه والأوهام . والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب الشريعة الغراء ، الواضحة البيضاء . وعلى آله ائمة الدين ، وصحابته الهادين المهديين .

     وبعد : فيقول المفتقر إلى الله ، الملتجئ إلى ركن فضله وعلاه . خادم  العلوم الدينية ، في مدينة دار السلام المحمدية . محمود شكرى ابن السيد عبد الله الحسيني الألوسي البغدادي ، كان الله تعالى له خير معين وأحسن هادي :

    إن علماء الشيعة لم يزالوا قائمين على ساق المناظرة ، واقفين في ميادين المنافرة والمكابرة . مع كل قليل البضاعة ، ممن ينتمى إلى مذاهب أهل السنة والجماعة . لاسيما في الديار العراقية ، وما والاها من ممالك الدولة العلية العثمانية . حتى اغتر بشبههم من الجهلة الألوف ، وانقاد لزمام دعواهم ممن لم يكن له على معرفة الحق وقوف . فلما رأيت الأمر اتسع خرقه ، والشر تعددت طرقه . شمرت عن ساعد الجد والإجتهاد ، في الذبّ عن مسلك ذوي الرشاد . ورأيت أن أؤلف في هذا الباب ، كتاباً مشتملاً على فصل الخطاب ، به يتميز القشر عن اللبان ، ويتبين الخطأ من الصواب .

مربع نص: (1)
 

    وقد ألف العالم العلامة والنحرير الفهامة الشيخ غلام محمد أسلمي الهندي ، تغمده الله تعالى بغفرانه الأبدى . ترجمة التحفة الاثنى عشرية ، في الرد على فرق الشيعة الإمامية .

 

 

فوجدته كتاباً انكشفت شبه المناظرين بأنوار دلائله ، واندفعت شكوك المعاندين بمسلم براهينه وجلّى مسائله . قد انسد فيه دون الناقد البصير كل باب ، وانهدَّ به ركن الباطل والإرتياب . فلا يستطيع الخصم أن يفوه ببنت شفة حيث أُلجم بلجام الإلزام . ولا يطيق العنود أن يفتح فمه لما حاك عليه من لثام العجز والإفحام . غير أن مؤلفه عليه الرحمة قد أطنب فيه وأطال ، وكرر كثيراً من المسائل والأقوال . بعبارات ليس لها حظ من فصاحة الكلام ، ولا نصيب من السلاسة والانسجام . حيث أنه ممن يتكلم بالهندية ، ولم يمارس التحاطب باللغة العربية . فحداني التوفيق الإلهي إلى تلخيص ذلك الكتاب ، وهداني التأييد الرباني إلى إبراز غواني معانيه بأبهى جلباب . مع ضم ما يؤدي غليه المقام ، مما أفاده العلماء الأعلام . بعبارات سهلة موجزة مشتملة ينتفع بها الخاص والعام ، ويتلقاها بالقبول ذوو الأنصاف من الأنام .

ولما يسر الله تعالى ما طلبته ، واجابني فيما رجـوته ودعوته . سميت الكتاب ( المنحة الإلهية ، تلخيص ترجمة التحفة الاثنى عشرية ) وقدمته لعتاب خليفة الله في ارضه ، ونائب رسوله عليه الصلاة والسلام في إحياء سنته وفرضه . الذي راعي رعاياه بجميل رعايته ، ودبرهم بصائب تدبيره وواسع درايته . وسلك أحسن المسالك في إستقامة أمورهم ، وصيانة نفوسهم ، وحراسة جمهورهم . وخص من بينهم علماء دولته وصلحاء ملته بحسن ملاحظته وفضل محافظته ، تمييزاً لهم بالعناية ، وتخصيصاً بما يجب من الرعاية . ووضعاً للأمور في مواضعها ، وغصابة مواقعها . ألا وهو أمير المؤمنين ، الواجب طاعته على الخلق أجمعين . سلطان البرين وخاقان البحرين ، السلطان ابن السلطان السلطان الغازي عبد الحميد خان ابن السلطان الغازي عبد المجيد خان . اللهم أيده بنصرك  وانصره لتأبيد ذكرك . واطمس شرَّ سويداء قلوب أعدائه وأعدائك ، ودقًّ أعناقهم بسيوف قهرك وسطوتك . اللهم واجعل رايات انعمه منشورة بايدي جنوده ، واحجبهم بحجب حولك وقوتك من لحظات لمعات ابصار عدوه وحسوده . وصبًّ عليهم ميازيب التوفيق آناء ليلك وأطراف نهارك ، فإنهم حماة حرم دينك وحراس أبواب شريعتك وأعظم جنودك وأنصارك . وغرضى من عرض ذلك الكتاب إلى ساحته الرفيعة العتاب ، أن يذرًّ إكسير نظره عليه ، ليحلًّ محل القبول لديه . فهناك إن شاء الله تعالى يحصل الأمل ، وأحظى بما رجوته من قبول العمل وقد رتبته على تسعة أبواب ، وغلى الله الزلفى وحسن المآب .

 

 

الباب الأول

في ذكر فرق الشيعة وبيان أحوالهم

وكيفية حدوثهم وتعداد مكايدهم

 

إعلم أن الشيعة الذين يدعون مشايعة الأمير كرم الله نعالى وجهه ومتابعته ، وحبه الذي افترضه الله تعالى على عباده ، أربع فرق :

الفرقة الأولى : الشيعة الأولى ويسمون (( الشيعة المخلصين )) أيضاً ، وهم عبارة عن الذين كاونا في وقت خلافة الأمير كرم الله وجهه من المهاجرين والأنصار والذين تبعوهم بإحسان ، كلهم عرفو له حقه ، وأحلوه من الفضل محله  ولم ينتقصوا أحداً من إخوانه أصحاب رسول الله ( فضلاً عن إكفاره وسبّه . بيد أن منهم من قاتل معه على تأويل القرآن كما قاتلوا مع رسول الله ( على تنزيله ، فقد كان معه رضي الله تعالى عنه في حرب صفين من أصحاب بيعة الرضوان ثمانمائة صحابي ، وقد استشهد منهم تحت رايته هناك ثلاثمائة . ومنهم من تقاعد عن القتال تورعاً واحتياطاً لشبهة عرضت له ، لكنه مع ذلك كان قائماً بمحبته وتعظيمه ونشر فضائله ، وذلك لا يقصر بكثير عن القتال معه . ومن مشهوري هذا الصنف عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . وقد زالت شبهته بعد ذلك فندم غاية الندم على قعوده وتخلفه عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ، لكن فات ذاك ، وتعذر الاستدراك . وحالت المنية ، دون الأمنية . وهذا يشبه من وجه ماكان مم محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه من التوقف يوم الجمل حتى قال له الأمير كرم الله تعالى وجهه : ويحك أتتوقف وأبوك سابقك ؟ ومنهم من غلب عليه القضاء والقدر فوقع منه ما أدى إلى قتاله ، كطلحة والزبير وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم ، فهم – وإن وقع بينهم وبين الأمير ما وقع يوم الجمل – محبون له عارفون له فضله ، كما أنه رضي الله تعالى عنه في حقهم كذلك ، وليس بين ذلك وبين القتال الواقع في البين تناف ، لأن القتال لم يكن مقصوداً ، بل وقع عن غير قصد ، لمكر من قتله عثمان رضي الله تعالى عنه الذين كانوا بعشائرهم في عسكر الأمير ، إذ غلب على ظنهم من خلوته بطلحة والزبير أنه سيسلمهم إلى أولياء عثمان ، فأطاروا من نيران غدرهم شراراً ، ومكروا مكراً كباراً ، فأوقعوا القتال بين الفريقين ، فوقع ما وقع إن شاء وإن أبي أبو الحسنين فكل من الفريقين كان معذوراً ، وكان أمر الله قدراً مقدوراً . وسياتي تفصيل ذلك كله في باب المطاعن إن شاء الله تعالى (1) قـال الجـد روّح الله تعـالى روحه في كتاب ( نهجة السلامة (2) ) بعد ذلك الكلام على أن القتال لو فرض أنه كان قصداً فهو بشبهة قوية عند المقاتل أوجبت عليه أن يقاتل . فهو بزعمه من الدين ونصرة المسلمين ، وليس من الغي والاستهانة بالأمير في شيء . ومتى كان كذلك فهو لا ينافي المحبة ،  ولا يدنس رداء الصحبة . وقد صرح بعض العلماء أن شكوى الولد على أبيه لدين له عليه قادر على أدائه ومماطل فيه ليس من العقوق ، ولا يخلّ بما للوالد من واجب الحقوق . وإن أبى تعصبك هذا قلنا : إن القوم رضي الله تعالى عنهم كانوا من قبل ما وقع من الشيعة المخلصين الأبرار ، لكن لعدم الإثم وقع منهم ما غسلوه ببرد التوبة وثلج الاستغفار ، ويأبى الله تعالى أن يذهب صحابي إلى ربه ، قبل أن يغسل بالتوبة والاستغفار دون ذنبه . وبنحو هذا يجاب عن اصحاب صفين ، من رؤساء الفرقة الباغية على عليّ أمير المؤمنين . فالمتلوثة سيوفهم في تلك الفتنة من الصحابة أقل قليل ، ولولا عريض الصحبة

 

 


 وعميق المحبة لدلع أفعوان القلم لسانه الطويل . فقف عند مقدارك ، فما أنت وإن بلغت الثرايا إلا دون ثرى نعال أولئك . نعم يلزمك أن تقول : إن الحق فيما وقع كان مع زوج البتول . انتهى ما قال ، عليه رحمة المتعال . وهو كلام موجز يغنى عن المطولات ، ويكفى عن كثير من العبارات .

    هذا واعلم أن ظهور هذا اللقب (1) كان عام سبع وثلاثين من الهجر والله تعالى أعلم .

الفرقة الثانية الشيعة التفضيلية : وهم عبارة عن الذين يفضلون الأمير كرم الله وجهه على سائر الصحابة من غير إكفار واحد منهم ولا سب ولا بغض ، كأبي الأسود الؤلي الذي اشتهر – وهو الأصح بل الصحيح – أنه واضع النحو بأمر باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه ، وكتلميذه أبي سعيد يحيى بن يعمر أحد قراء البصرة ، وكسالم بن أبي حفصة راوي الحديث عن الإمامين الباقر وابنه الصادق رضي الله تعالى عنهما ، وكعبد الرزاق صاحب المصنف في الحديث ، وكأبي يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت صاحب ( إصلاح المنطق ) في اللغة وكخلق آخرين ، ولبعض متأخري الصوفية قدست أسرارهم كالفاضل الجامي كلمات ترشح بالتفضيل ، وانسلاكهم في هذا القبيل ، وكثير من العلماء يصرفها عن ذلك صيانة لأولئك الأجلة عن أن ينسب إليهم الابتداع (2) والانخـزال عن (( الشيعة المخلصين )) من الأتباع . وقد ظهرت هذه الفرقة بعد الأولى بنحو عامين أو ثلاثة ، وصح أن الأمير كرم الله تعالى وجهه أحسَّ أيام خلافته بقوم يفضلونه على الشيخين ، فكان ينهى عن ذلك حتى قال (( لئن سمعت أحداً يفضلني على الشيخين رضي الله تعالى عنهما لأحدّنه حد الفرية )) وهو على ما في ( التحفة ) ثمانون جلدة وقيل عشر ، والله تعالى أعلم .

مربع نص: (1)     أي لقب (( الشيعة )) 
(2)    عبد الرحمن الجامي واقع في الابتداع من ناحية قوله بوحدة الوجود . قبل أن يقع فيه من ناحية نصبه نفسه قاضياً للحكم على سادة الأمة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، رضي الله عنهم والهمنا معرفة اقدار انفسنا .
 

 

 

 


الفرقة الثالثة الشيعة السبئية : ويقال لها (( التبرئية )) وهم عبارة عن الذين يسبون الصحابة ، إلا قليلاً منهم كسلمان الفارسي وأبي ذر والمقداد وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهم ، وينسبونهم – وحاشاهم – إلى الكفر والنفاق ، ويتبرأون منهم ، ومنهم من يزعم والعياذ بالله تعالى ارتداد جميع من حضر غدير خمٍّ يوم قال عليه الصلاة والسلام (( من كنت مولاه فعليّ مولاه )) الحديث ، ولم يف بمقتضاه من بيعة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام بل بايع غيره . وهذه الفرقة حدثت في عهد الأمير رضي الله تعالى عنه بإغراء عبد الله بن سبأ اليهودي الصنعاني كما سيأتي . وليس هو هيان بن بيان ، وزعم ذلك مكابرة وإنكار للمتواتر . ولما ظهرت اظهر الأمير كرم الله تعالى وجهه البراءة منها ، وخطب عدة خطب في قدحها وذمها . وقد روى الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة الزيدي في ىخر كتابه ( طوق الحمامة في مباحث الإمامة ) عن سويد بن غفلة أنه قال : مررت بقوم ينتقصون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، فأخبرت علياً كرم الله وجهه وقلت : لولا أنهم يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترأوا على ذلك ، منهم عبد الله بن سبأ . فقال علي رضي الله تعالى عنه (( نعوذ بالله ، رحمنا الله )) ثم نهض وأخذ بيدي وأدخلني المسجد فصعد المنبر ثم قبض على لحيته وهي بيضاء فجعلت دموعه تتحادر عليها ، وجعل ينظر للقاع حتى اجتمع الناس ، ثم خطب فقال : (( ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله ( ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي المسلمين ، وأنا برئ مما يذكرون ، وعليه معاقب صحبا رسول الله   (بالحب والوفاء والجد في أمر الله ، يأمران وينهيان ويغضبان في أمر الله ، فقبض وهو عنهما راض ، والمسلمون راضون ، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله ( وأمره في حياته وبعد موته ، فقبضا على ذلك رحمهما الله ، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لايحبهما إلا مؤمن فاضل ، ولا يبغضهما إلا شقى مارق . وحبهما قربة ، وبغضهما مروق )) الخ وفي رواية (( لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل )) . ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيره إلى المدائن وقال : لا تساكني في بلدة أبداً . وهذا مما يفتُّ بأعضاد هذه الفرقة أعني الشيعة السبئية لا المخلصين . ولما ظهرت ما ارتضى الشيعة المخلصون بلقب (( الشيعة )) فتركوه تحرزاً عن الالتباس ، وكراهة للاشتراك الاسمي مع أولئك الأرجاس ، ولقبوا أنفسهم بأهل السنة والجماعة . فما وقع في بعض الكتب كتاريخ الواقدي والاستيعاب من أن فلاناً كان من الشيعة مثلاً لا ينافي ما وقع في غيرها من أنه من رؤساء أهل السنة والجماعة ، حيث أن المراد بالشيعة هناك الشيعة الأولى ، وكان أهل السنة منهم . وكيف لا وهم يرون فرضية حبّ أهل البيت ، وعليّ كرم الله تعالى وجهه عمادهم ، ويروون في ذلك عدة أحـاديث منها ما رواه البيهقـي وأبو الشيخ والديلمي أن رسول الله   (قال (( لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ، وتكون عترتي أحب إليه من نفسه )) وعن ابن عباس قال : قال رسول الله (  (( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي )) إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى أو يحصر . وقد نسب افمام الشافعي – وموضعه من أهل السنة موضع الواسطة من العقد – نظم كثير يشهد بما ذكرناه عن أهل السنة ، ويردّ به على من أنكر ذلك من جهلة الشيعة ، كقوله رضي الله تعالى عنه :

مربع نص: يا أهل بيت رسول الله حبكم
يكفيكم من عظيم الفخر أنكم
 
مربع نص: إن فتشوا قلبي رأوا وسطه
العلم والتوحيد في جانب
 
مربع نص: سطرين قد خُطا بلا كاتب
وحب أهل البيت في جانب
 
مربع نص: فرض من الله في القرآن أنزله من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له
 
 
 
 
 

 

 


وقوله :

 

 

 

 

 

وقوله :

مربع نص: إذا ذكروا علياً أو نبيه
يقال تجاوزوا يا قوم عنه
برئت إلى المهيمن من أناس
 
مربع نص: وجاءوا بالروايات العليه
فهذا من حديث الرافضية
يرون الرفض حب الفاطمية
 
 
 

 


 

 

 

مربع نص: يا راكباً قف بالمحصب من منىً
سحراً إذا فاض الحجيجُ إلى منىً
إن كان رفضاً حبُّ آل محمد
 
 

مربع نص: واهتف بساكن خيفها والناهض
فيضاً كما علم الفرات الفائض
فليشهد الثقلان أنى رافضي
 

 

وقوله :

 

 

 

 

 

 

وقوله :

مربع نص: إلام أُلام وحتى متى
ف
 
 
 
 
 
هل زوجت غيره فاطمٌ
   
 
مربع نص: أعاتب في حب هذا الفتى
وفي غيره هل أتى (( هل أتى )) 
   
 
 
 

 

 

 

 

 


إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب الشيعة ، صحت نسبته إليه أم لا . وهذا ابو حنيفة رضي الله تعالى عنه وهو هو بين أهل السنة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان : لولا السَّنَتان لهلك النعمان ، يريد السنتين اللتين صحب فيهما لأخذ العلم الإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه . وقد قال غير واحد أنه أخذ العلم والطريقة من هذا ومن أبيه الإمام محمد الباقر ومن عمه زيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم . وللأعمش وهو أحد مجتهدي أهل السنة سفر كبير في مناقب الأمير كرم الله وجهه . ويكفي في هذا الباب أن معظم طرائق أهل السنة موصولة بأهل البيت ، ولا يكاد ينكر هذا الأمر إلا من ينكر الفرق بين الحي والميت . ومن الشبه من يزعم أنه لا يعد محباً لعلي وسائر أهل البيت رضي الله عنهم من أحب الشيخين واضرابهما من الصحابة الذين لم يبايعوا الأمير كرم الله تعالى وجهه يوم وفاته عليه الصلاة والسلام حيث يزعمون أنهم أعداء الأمير ، وينشدون في ذاك قول من قال :

مربع نص: إذا صافى صديقك من تعادى

 
مربع نص: فقد عاداك وانقطع الكلام

 
 
 

 


مربع نص: عدوُّ صديقي ليس لي بصديق

 
 

مربع نص: صديق صديقي داخل في صداقتي 

 

 

وقوله :

 

 

 

 

ولا يخفى كذب مبناه ، ويشير إلى كذبه الخبر الذي قدمناه عن يحيى بن حمزة المؤيد بالله وكذا غيره من الأخبار ، التي ملئت منها بون الأسفار . ورحم الله تعالى امرءاً أنصف وعرف الحق فاعترف .

الفرقة الرابعة الشيعة الغلاة : وهم عبارة عن القائلين بألوهية الأمير كرم الله تعالى وجهه ، ونحو ذلك من الهذيان . قال الجد روح الله روحه : وعندي أن ابن أبي الحديد في بعض عباراته – وكان يتلون تلون الحرباء – كان من هذه الفرقة ، وكم له في قصائد السبع الشهيرة من هذيان ، كقوله يمدح الأمير كرم الله تعالى وجهه:

 

مربع نص: كعفطة عنز أو قلامة ظافر(1)

 
 

مربع نص: ألا إنما الإسلام لولا حسامه

 

 

 

مربع نص: يجل عن الأعراض والأين والمتى 

 
 

مربع نص: ويكبر عن تشبيهه بالعناصر (2) 

 

 

وقوله :

 

 

 

 

إلى غير ذلك . وأول حدوثهم قيل في عهد الأمير بإغواء ابن سبأ أيضاً ، وقد قتل كرم الله تعالى وجهه من ضح عنده أنه يقول بألوهيته ، فلم ينحسم بذلك عرق ضلالتهم ولم ينصرم حبل جهالتهم ، بل استمر الفساد ، وقوى العناد (( ومن يضلل الله فما له من هاد )) وهذه الفرقة على قلتها بالنسبة إلى الفرق الأخرى انقسمت على مافي ( التحفة ) إلى أربع وعشرين فرقة :

 

 

 

مربع نص: (1)     هذا تكذيب لقول النبي  (( أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده )) ، وقائل البيت قليل أدب يبرأ الإسلام منه . 
(2)      واصرح من ذلك في شرك ابن أبي الحديد ووثنيته قوله يخاطب علياً كرم الله وجهه : 
 
 
          ومنه سرق الطوفى الرافضي قوله في أبي بكر وعلي رضوان الله وسلامه عليهما : 
مربع نص: تقيلت أخلاق الربوبية التي

 
مربع نص: عذرت بها من شك أنك مربوب

 

 

 

 

 


مربع نص: وبين من قيل إنه الله

 
 

  

مربع نص: كم بين من شك في خلافته

 
 

 

 

 

 


الأولى السبئية : أصحاب عبد الله بن سبأ الذين قالوا : إن علياً هو الاله ولما استشهد الأمير كرم الله تعالى وجهه زعم ابن سبأ أنه لم يمت وأن ابن ملجم إنما قتل شيطاناً تصور بصورة عليّ ، وأنه مختف في السحاب وأن الرعد صوته ، والبرق سوطه ، وأنه ينزل إلى الأرض بعد هذا ويملأها عدلاً وينتقم من أعدائه . ولهذا أن هذه الفرقة إذا سمعت صوت الرعد قالوا (( عليك السلام أيها الأمير )) . ولا يخفى أن الأمير لو كان كما زعموا لكان مقتدراً على إهلاك أعدائه بصوت شديد من الرعد وإلقاء الصواعق ، فلأي شيء هذا الانتظار ، مع وجود الاستطاعة والاقتـدار ؟

الثانية المفضلية : أصحاب المفضل الصيرفي وقد زادوا على السبئية بقولهم إن نسبة الأمير لله تعالى كنسبة المسيح ، فمثله كمثله ، فقد وافقوا النصارى في قولهم باتحاد اللاهوت بالناسوت ، وفي زعمهم أن النبوة والرسالة لا تنقطع أبداً ، فمن اتحد به اللاهوت فهو نبي ، فإن دعا الناس إلى الهدى فهو رسول .

 ولذا ترى أن كثيراً منهم أدعى النبوة والرسالة .

الثالثة السريغية : أصحاب السريغ بفتح السين وكسر الراء المهملتين وفي آخره معجمة . ومذهبهم كمذهب المفضلية ، إلا أنهم حصروا حلول اللاهوت في الناسوت في خمسة ، وهم النبيّ والعباس وعلي وجعفر وعقيل .

الرابعة البزيعية : اصحاب بزيع بن يونس الذي قال بألوهية جعفر الصادق وانه ظهر في شخص وإلا فهو في الحقيقة منزه عنه ، وقالوا : إن الأئمة الآخرون لم يكونوا آلهة ولكن أوحى إليهم ، وأثبتوا لهم المعراج .

الخامسة الكاملية : أصحاب أبي كامل ، وهم يقولون إن الأرواح تتناسخ وتنتقل من بدن إلى بدن بعد خراب البدن الأول ، وأن روح الله تعالى كانت في آدم ثم في شيش ثم صارت إلى الأنبياء . وهؤلاء القوم يكفرون جميع الصحابة بتركهم البيعة لعلي ، ويكفرون علياً ايضاً بتركه طلب حقه .

السادسة المغيرية : أصحاب المغيرة بن سعد العجلي ، زعموا أن الله تعالى جسم ، وأن صورته صورة رجل من نور وعلى رأسه تاج من نور وله قلب تنبع منه الحكمة ، وأنه لما أراد خلق العالم تكلم بالاسم الأعظم فطار ووقع تاجاً على رأسه  ثم إنه كتب على كتفه أعمال الدنيا ، فغضب من المعاصي حتى عرق فاجتمع من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم والثاني عذب نير ، ثم أطلع في البحر النير فأبصر ظله فانتزع بعض ظله وخلق منه الشمس والقمر وأفنى باقي ظله وقال : لا ينبغي أن يكون معي إله غيري . ثم إنه خلق الخلق كله من البحرين : الكفر من البحر المظلم ، والايمان من البحر النير ، ثم أرسل إلى الناس محمداً وهم ضلال ، ثم عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال وهي أن يمنعهن علياً من الإمامة فأبين ذلك ، ثم عرضها على الناس فأمر عمر بن الخطاب أبا بكر أن يتحمل منعه من ذلك ، وضمن له أن يعينه على الغدر به ، بشرط أن يجعل الخلافة له من بعده فقبل منه ، وأقدما على المنع متظاهرين عليه . وقوله تعالى (( فحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً )) يعني أبا بكر ، وزعم هؤلاء أن قوله تعالى ( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر ، فلما كفر قال إني برئ منك ) نزلت في حق عمر وأبي بكر ، وهؤلاء يزعمون أن الإمام المنتظر محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وأنه حي لم يمت ، وهو مقيم في جبال حاجر إلى أن يؤمر بخروجه . ومنهم من يقول إن الإمام المنتظر هو المغـيرة ، كذا في (( أبكار الأفكار )) لسيف الدين الآمدي . ولم يكن هذا التفصيل في الأصل . 

السابعة الجناحية : اصحاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ، يزعمون أن الرواح تتناسخ ، وأن روح الإله تعالى كانت في آدم ثم في شيش ، ثم صارت إلى الأنبياء والأئمة ، حتى انتهت إلى عليّ وأولاده الثلاثة من بعده ن ثم صارت إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر وأنه حي لم يمت وأنه يجبل من جبال أصبهان ن وكفروا بالقيامة واستحلوا المحرمات من الخمر والميتة وغيرها . 

الثامنة البيانية : اصحاب بيان بن سمعان التميمي ، زعموا أن الإله تعالى على صورة انسان ، وانه يهلك كله إلا وجهه لقوله (( كل شيء هالك إلا وجهه )) وأن روح الإله تعالى حلت في عليّ ثم بعده في ابنه محمد بن الحنفية ثم بعده في ابنه أبي هاشم ثم بعده في بيان .

التاسعة المنصورية : أصحاب ابي منصور العجلي ، وهؤلاء يقولون : إن الرسالة لاتنقطع ابداً ، والعلم قديم ، وأحكام الشريعة كلها مخترعات العلماء والفقهاء ، ولا جنة ولا نار ، وأن أبا منصور هو الإمام بعد الإمام الباقر رضي الله تعالى عنه .

العاشرة الغمامية : ويقال لها (( الربيعية )) أيضاً ، وهم يعتقدون أن صانع العالم ينزل إلى الأرض في فصل الربيع في حجاب السحاب ، ويطوف حول الدنيا ثم يصعد إلى السماء ، فالأزهار والرياحين والأثمار ونحو ذلك مما يظهر في الربيع بسبب ذلك النزول .

الحادية عشرة الامامية : وهم يقولون : إن الأمير كان شريكاً للنبي عليه الصلاة والسلام في نبوته ورسالته (1) .

الثانية عشر التفويضية : وهم يقولون : إن الله تعالى خلق محمداً وفوض غليه خلق الدنيا ، وأنه الخلاق لها بما فيها . ومنهم من قال مثل هذه المقالة في علي كرم الله وجهه ومنهم من قال باشتركهما في ذلك .

مربع نص: (1) أنظر العقيدة الحادية عشرة في أواخر الباب الرابع من هذا الكتاب .
 

الثالثة عشر الخطابية : اصحاب أبي الخطاب الأسدي ، زعموا أن الأئمة أنبياء ، وأن أبا الخطاب كان نبياً ، وأن الأنبياء فرضوا على الناس طاعته . ثم زادوا وزعموا أن الأئمة آلهة ، وأن أبناء الحسن والحسين ابناء الله وأحباؤه ، وأن جعفراً إله ، وأن أبا الخطاب أفضل منه ومن علي بن أبي طالب ، ويستحـلون

شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم . ثم إفترق هؤلاء بعد قتل أبي الخطاب ، فمنهم من قال : الإمام بعد ابي الخطاب معمر ، وعبدوه كما عبدوا أبا الخطاب ، وزعموا أن الجنة هي ما ينالهم من خير في الدنيا ونعيم فيها ، وأن النار ما يصيبهم فيها من المشاق والهدم ، واستباحوا المحرمات وترك الفرائض . ومنهم من قال : الإمام بعد أبي الخطاب بزيع ، وأن كل مؤمن يوحى إليه ، تمسكاً بقوله تعالى : ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ) أي يوحى من الله . وزعموا أن فيهم خيراً من جبرائيل ، وميكائيل ، وأنهم لا يموتون ، وأن الواحد منهم إذا بلغ النهاية ارتفع إلى الملكوت . ومنهم من قال ك الإمام بعد ابي الخطاب عمر بن بيان العجلي ، إلا أنهم يموتون . كذا في ( أبكار الأفكار ) . 

 الرابعة عشرة المعمرية : اصحاب المعمر ، القائلون بنبوة الإمام جعفر الصادق ، وأن أبا الخطاب بعده نبي ، وأن أحكام الشرع مفوضة إلى المعمر ، وأن المعمر آخر الأنبياء ، وقد اسقط الأحكام ورفع التكاليف . وهم قسم من الخطابية .

الخامسة عشر الغرابية : وهم القائلون إن علياً كان أشبه بمحمد من الغراب بالغراب والذباب بالذباب ، وأن الله تعالى بعث جبرائيل إلى عليّ فغلط وأدي الرسالة إلى محمد ( متشابهته به ، ولذلك يعنون صاحب الريش أي جبرائيل ، وقد قال شاعرهم (( غلط الأمين فجازها عن حيدر )) .

السادسة عشرة الذبابية : وهم قسم من الغرابية إلا أنهم زادوا عليهم بقولهم بنبوة محمد وأنه أشبه بالإله من الذباب بالذباب . قاتلهم الله تعالى .  

السابعة عشر الذمية : وإنما لقبوا ذلك لأنهم يرون ذم محمد ( ، ويزعمون أن علياً إله ، وأنه بعث محمداً ليدعوا إليه فادعى الأمر لنفسه . ونهم من قال بإلهية محمد وعليّ إلا أن منهم من يقدم علياً في أحكام الإلهية ، ومنهم من يقدم محمداً ، ومنهم من قال بإلهية خمسة اشخاص وهم أصحاب العبا ( محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ) وأن خمستهم شيء واحد ، وأن الروح حالة فيهم بالسوية ، ولا فضـل لواحد على لآخر ، ولم يسموا فاطمة بالتأنيث بل (( فاطم )) ولذلك قا ل شاعرهم :

مربع نص: توليت بعد الله في الدين خمسة
    
مربع نص: نبياً وسبطيه وشيخاً وفاطما
   
 
 

 


الثامنة عشرة الاثنينية : وهم فرقة من الذمية الذين يعتقدون إلهية محمد ( بالتفصيل السابق .

التاسعة عشر الخميسية : وهم ايضاً فرقة من الذمية الذين يعتقدون إلهية خمسة أشخاص على ما سبق ، وقد تبعنا في هذا العد صاحب الصل ، وإلا فغيره لم يذكر هاتين الفرقتين بالاستقلال .

العشرون النصيرية : (1) القائلون بحلول الإله في عليّ وأولاده ، ولكن يخصون الحلول بالئمة ، وقد يطلقون لفظ الإله على الأمير مجازاً من باب إطلاق اسم الحال على المحل .

الحادية والعشرون الإسحاقية : وهم يقولون ك لم تخل الأرض ولا تخلو عن نبي وأن الباري حل في عليّ . ووقع الاختلاف بينهم في من حل الإله بعد عليّ .

الثانية والعشرون العلبائية : أصحاب علباء بن اروع الأسدي ، وقيل الأوسى ، وهم قائلون بألوهية الأمير وأنه أفضل من محمد وأن محمد بايع علياً .

الثالثة والعشرون الرزامية : وهم الذين ساقوا الإمامة إلى محمد بن الحنفية ، ثم إلى ابنه ، ثم إلى علي بن عبد الله بن العباس ، ثم ساقوها في ولده أبي المنصور ، ثم ادعوا حلول الإله تعالى في أبي مسلم وأنه لم يقتل ، واستحلوا المحارم ، ومنهم من ادعى الإلهية في المقنَّع .

مربع نص: (1) وهذه الفرقة لها بقية في ديار الشام بين حمص واللاذقية وحلب وفي شمال حلب ويتسمون الآن (( العلويون ))
 

الرابعة والعشرون المقنحية : أصحاب المقنّع الذين يعتقدون أن المقنع إله بعد الإمام الحسين رضي الله تعالى عنه ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

ثم اعلم أن أكثر الفرق الأربع ( الشيعة السبئية ) ، فقد انتشرت في جميع الربع المعمور ، فلا تكاد ترى بلداً إلا وهو بها مغمور ، و (الامامية ) فرقة منها ، وهي أيضاً فرقة كبيرة وطائفة كثيرة ، وقد انقسمت إلى تسع وثلاثين فرقة .

 

 

 

 

 

 

الأولى الحسنية يقولون : إن الحسن المجتبى هو الإمام بعد أبيه عليّ المرتضى ، والإمام من بعده الحسن المثنى بوصية له ، ثم ابنه عبد الله ، ثم ابنه محمد الملقب بالنفس الزكية ، ثم أخوه إبراهيم بن عبد الله ، وهذان خرجا في عهد المنصور الدوانيقي ودعوا الناس إلى متابعتهما فتبعهما خلق كثير . واستشهدوا بعد حربً شديد على يد بعض أمراء الدوانقي رحمة الله عليهما . وقد ظهرت هذه الفرقة ستة مائة وخمس وتسعين .

الثانية النفسية : وهي طائفة من الحسنية يقولون إن النفس الزكية لم يقتل بل غاب واختفى وسيظهر بعد .

الثالثة الحكمية : ويقال لها ( الهشامية ) أيضاً ، وهم أصحاب هشام بن الحكم يقولون بإمامة الحسين بعد أخيه الحسن ، ثم بإمامة أولاده على الترتيب المشهور إلى الصادق ، وقد ظهرت سنة مائة وتسع .

الرابعة السالمية : ويقال لها أيضاً (( الجواليقية )) وهم أصحاب هشام بن سالم الجواليق وهم في الامامية كالحكمية ، وفي الاعتقاد مختلفون : فالحكمية يقولون : إن الله عزوجل جسم طويل عريض عميق متساوى الأبعاد غير مصور بالصور المتعارفة ، وهم يقولون جسم مصور بصورة الانسان ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً . وقد ظهرت سنة مائة وثلاث عشرة .

الخامسة الشيطانية : ويقال لها (( النعمانية )) ايضاً اصحاب محمد بن نعمان الصيرفي الملقب بشيطان الطاق (1) ، وهـم يقولون بالامامة على الترتيب مربع نص: (1) ويسميه الشيعة (( مؤمن الطاق )) و (( مؤمن آل محمد )) وهو الذي اخترع لهم أن الامامة الأشخاص منصوص عليهم بأعيانهم . فقال له الامام زيد : كيف تعرف أنت هذا وأنا  لا أعرفه ولم نذكره لي أبى‍ ‍؟ وشيطان الطاق أيضاً هو الذي زعم في الكتاب الذي ألفه في الامامة أن الله عزوجل لم يقل ( ثاني اثنين إذ هما في الغار ) .
 

المشهور إلى موسى الكاظم وبالتجسيم كالسالمية . وقد ظهرت سنة مائة وثلاث عشرة أيضاً .

السادسة الزرارية : أصحاب زرارة بن أعين الكوفي . وهم في الامامية كالحكمية  وخالفوهم في زعمهم أن صفاته تعالى حادثة لم تكن في الأزل وقد ظهرت سنة مائة وخمس وأربعين . 

السابعة والثامنة والتاسعة البدائية ، والمفوضة ، واليونسية : أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمى ، وكلهم متفقون على إمامة الأئمة الستة بالترتيب المشهور  وزعمت اليونسية منهم أن الله سبحانه على العرش بالمعنى المعروف تحمله الملائكة . والبدائية أن الله سبحانه قد يريد بعض الأشياء ثم يبدو له ويندم لكونه خلاف المصلحة ، وحملت خلافة الثلاثة ومدحهم في الآيات على ذلك . والمفوضة منهم من يزعم أن الله تعالى فوض خلق الدنيا إلى محمد عليه الصلاة والسلام ، ومنهم من يقول : إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه . ومنهم من يقول إلى كليهما . وقد ظهرت البدائية والمفوضة سنة ظهور الزرارية .

العاشر الباقرية : يقول إن الإمام محمد الباقر لم يمت وهو المنتظر .

الحادية عشرة الحاضرية : يقولون : إن الإمام [ بعد ] محمد الباقر ابنه زكريا ، وهو مختف في دبل الحاضر لا يخرج حتى يؤذن له .

الثانية عشر الناووسية : أصحاب عبد الله بن ناووس البصري ، يقولون : إن الإمم جعفر الصادق حي غائب وهو المهدي المنتظر .

الثالثة عشر العمارية : أصحاب عمار يقولون : إن الصادق قد مات والإمام بعده ابنه محمد ، وقد ظهرت سنة مائة وخمس وأربعين .

الرابعة عشر المباركية : من الإسماعيلية أصحاب المبارك ، يعتقدون أن الإمام بن جعفر ابنه الأكبر إسماعيل ثم ابنه محمد وهو خاتم الأئمة والمهدي المنتظر .

الخامسة عشر الباطنية : من الإسماعيلية أيضاً يرسلون الإمامة بعد إسماعيل من جعفر في أولاده بنص السابق على اللاحق ، ويزعمون وجوب العمل بباطن الكتاب دون ظاهرة .

السادسة عشرة القرامطة : من الإسماعيلية أيضاً وهم أصحاب قرمط ، وهو المبارك في قول ، وقال بعض العلماء اسم رجل آخر من أهل سواد الكوفة اخترع ما عليه القرامطة ، وقيل هو اسم أبيه ، وأما المخترع نفسه فاسمه حمدان ، وكان ظهوره سنة سبعين ومائتين . وقيل إن قرمط اسم لقرية من قرى واسط منها حمدان المخترع ، وهو قرمطي واتباعه قرامطة ، وكان ظهوره فيها ، وقيل غير ذلك . ومذهبهم أن اسماعيل بن جعفر خاتم الئمة وهو حي لا يموت ، ويقولون بإباحة المحرمات .

السابعة عشرة الشميطية : اصحاب يحيى بن أبي الشميط يزعمون أن الإمامة تعلقت بعد الصادق بكب من أبنائه الخمسة بهذا الترتيب : ثم محمد ، ثم موسى الكاظم ، ثم عبد الله الأفطح ، ثم إسحاق .

الثامنة عشرة الميمونية : اصحاب عبد الله بن ميمون القداح الأهوازي ، وهم قائلون بإمامة إسماعيل ، ويزعمون أن العمل بظواهر الكتاب والسنة حرام ، ويجحدون المعاد .

التاسعة عشرة الخلفية : أصحاب خلف ، وهم قائلون بإمامة اسماعيل ونفى المعاد كالميمونية ، إلا أنهم يقولون : كل ما في الكتاب والسنة من الصلاة والزكاة ونحوها محمول على المعنى اللغوي لا غير .

العشرون البرقعية : أصحاب محمد بن علي البرقعي ، وهم في الإمامة كمن سمعت آنفاً ، وينكرون أيضاً المعاد ، ويؤولون النصوص بما تهوى أنفسهم ، وينكرون نبوة بعض الأنبياء ، ويوجبون لعنهم والعياذ بالله تعالى .

 

 

الحادية والعشرون الجنابية : اتباع أبي طاهر الجنابي (1) وهم كالقرامطة في الإمامة ، وينكرون المعاد والأحكام بأسرها ، ويوجبون قتل من يعمل بها ولذا قتلوا الحجاج ، وقلعوا الحجر الأسود ، وعدهم غير واحد فرقة من القرامطة ، كما أنهم عدوا القرامطة فرقة من الإسماعيلية .

الثانية والعشرون السبعية : وهم ايضاً من الإسماعيلية ، يقولون : إن الأنبياء الناطقين بالشرائع سبعة : آدم وألو العزم الخمسة والمهدي ، وأن بين كل رسولين سبعة رجال آخرين يقيمون الشريعة السابقة إلى حدوث اللاحقة ، وإسماعيل بن جعفر كان أحد هؤلاء السبعة ، وهم المقيمون للشريعة بين محمد والمهدي المنتظر وهو آخر الرسول بزعمهم . وزعموا أنه لا يخلو الزمان عن واحد من أولئك الرجال .

الثالثة والعشرون المهدوية : زعموا أن الإمامة بعد إسماعيل لابنه محمد الوصى ، ثم لابنه أحمد الوفى ، ثم لابنه محمد التقى . وفي بعض الكتب : قاسم التقى ، ثم لابنه عبيد الله (2) الرضى ، ثم لابنه أبي القاسم عبد الله ، ثم لابنه محمد الذي لقب نفسه بالمهدي ، وقد صار والياً بالمغرب ، واستولى على بلاد إفريقية ، وملك بنوه مصر وما حولها . ثم لابنه أحمد القائم بأمر الله ، ثم لابنه إسماعيل المنصور بقوة الله ، ثم لابنه معد المعز لدين الله ، ثم لابنه المنصور نزار العزيز بالله ، ثم لابنه أبي علي الحاكم بأمر الله ، ثم لأبي الحسن الظاهر بدين الله ، ثم لمعد المستنصر بالله ، وذلك بنص الآباء بترتيب الولادة . وهذا الترتيب إلىهنا مجمع عليه عندهم .

مربع نص: (1)   المعروف أنه أبو سعيد الجنابي ، واسمه الحسن بن أحمد بن الحسن بن بهرام . وجنابة المنسوب إليها بلدة في ساحل فارس على الخليج العربي بين سيراف ومهروبان . 
(2)    نقل الدكتور برناردلويس في كتابه ( أصول الإسماعيلية ) ص 74 من الترجمة العربية على كتاب ( غاية المواليد ) – وهو من كتب الاسماعيليين السرية – غعترافاً لهم بأن عبيد الله لم يكن علوياً ، ثم بسط الدكتور برنارد لويس الكلام في ص 117 وما بعدها على (( الأبوة الروحانية )) أو (( النكاح الروحاني )) عند الإسماعيلية ، واستعمالهم كلمتي (( أب )) و (( ابن )) في غير معناهما الحقيقي . وهو بحث مهم فارجع إليه ، ومنه تعلم أن نسب العبيديين الروحاني لمحمد بن إسماعيل ، وإن كان نسبهم الحقيقي بدمائهم لميمون القداح .
 

 

 

 

 


واختلفوا بعد المنتصر لما أنه نص أولاً على إمامة أخيه نزار ، وثانياً على إمامة ابنه أبي القاسم المستعلى بالله ، فبعضهم تمسك بنص الثاني وقال : إنه ناسخ للأول ، فقال بإمامة المستعلى فسموا المهدوية ( المستعلية ) (1) ثم بإمامة ابنه المنصور الآمر بأحكام الله ، ثم بإمامة أخي المنصور هذا عبد المجيد الحافظ لدين الله ، ثم بإمامة ابنه أبي المنصور محمد الظافر بأمر الله ، ثم بإمامة ابنه أبي القاسم الفائز بنصر الله ، ثم بإمامة ابنه محمد العاضد لدين الله ، وقد خرج على هذا أمراء الشام واستولوا عليه فسجنوه حتى مات وما بقي بعده أحد من أولاد المهدي داعياً للإمامة ز وبعضهم تمسك بالنص الأول وألغى الثاني فقال بإمامة نزار ويقال للقائلين بذلك (( النزارية )) وقد يقال لهم (( الصباحية )) و (( الحميرية )) نسبة للحسن ابن صباح الحميري حيث قام بالدعوة لطفل سماه الهادي زاعماً أنه ابن نزار ، فهو الإماء عندهم بعد أبيه ، ثم ابنه الحسن ، وزعم هذا أنه يجوز للإمام أن يفعل ما شاء ، وأن يسقط التكاليف الشرعية . وقد قال لأصحابه : أنه أوحى إليّ أن اسقط عنكم التكاليف الشرعية ، وأبيح لكم المحرمات ، بشرط أن لا تنازعوا بينكم ولا تعصوا إمامكم . ثم ابنه محمد وكان متخلقاً بأخلاق أبيه  وكذا ابنه علاء الدين محمد ، وأما ابنه جلال الدين حسن ابن محمد بن الحسن فقد كان متصلباً في الإسلام منكراً مذهب آبائه حسن الأخلاق آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر . وأما ابنه علاء الدين فقد صار ملحداً بعد أبيه الحسن ، وكذا ابنه ركن الدين . وقد ظهر في زمن هذا جنكيزخان فحرب مملكته وكان إذذاك بالري وتحصن في قلعة الموت من قلاع طبرستان ، ولم يتم له ذلك ، بل كان آخر أمره من اتباع جنكيزخان ، وقد انطلق معه جين عاد إلى وطنه فمات في الطريق ، ثم خرج ابنه الملقب نفسه بجديد الدولة ن فلما سمع به ملوك التاتار فرقوا جمعه فاختفى في قرى طبرستان حتى مات ، فلم يبق من أولاده أحد مدعياً الإمامة . وهذه الفرقة هي الرابعة والعشرون وكان ظهور المهدوية الجامعة للفرقتين سنة مائتين وتسع وتسعين .

 

 

 

 

 

 

مربع نص: (1) وبسبب ذلك إفترقت الإسماعيلية فرقتين إحداهما يرأسها في زماننا آغاخان ، والأخرى وتسمى (( البهرة )) يراسها طاهر سيف الدين .
 

 

 

الخامسة والعشرون الأفطحية : ويقال لها العمارية أيضاً لأنهم كانوا أصحاب عبد الله بن عمار وهم قائلون بإمامة عبد الله الأفطح أي عريض الرجلين ابن جعفر الصادق شقيق إسماعيل معتقدين موته ورجعته إذ لم يترك ولداً حتى ترسل سلسلة الامامة في نسله .

السادسة والعشرون المفضلية : أصحاب مفضل بن عمرو ويقال لهم القطعية أيضاً لأنهم قاطعون بإمامة موسى الكاظم ، قاطعون بموته .

السابعة والعشرون الممطورية : وهم قائلون بإمامة موسى معتقدون أنه حي وأنه المهدي الموعود ، متمسكين يقول الأمير كرم الله نعالى وجهه : سابعهم قائمهم سمي صاحب التوراة . وقيل لهم : (( ممطورية )) لقول يونس بن عبد الرحمن رئيس القطعية لهم اثناء مناظرة وقعت بينهما (( أنتم أهون عندنا من الكلاب الممطورة )) أي المبلولة بالمطر .

الثامنة والعشرون الموسوية : يقطعون بإمامة موسى ، ويترددون في موته وحياته  ولذا لا يرسلون سلسلة الإمامة بعده في أولاده .

التاسعة والعشرون الرجعية : وهم قائلون بإمامة موسى أيضاً لكنهم يقولون بموته ورجعته . وهذه الفرق الثلاث يقال لها (( الواقفية )) أيضاً لوقفهم الإمامة على موسى الكاظم وعدم إرسالها في أولاده .

الثلاثون الإسحاقية : يعتقدون بإمامة إسحاق بن جعفر ، وكان في العلم والتقوى على جانب عظيم ، وقد روى عنه ثقات المحدثين من أهل السنة كسفيان بن عيينة وغيره .

الحادية والثلاثون الأحمدية : يقولون بإمامة أحمد بن موسى الكاظم بعد وفاة أبيه.

الثانية والثلاثون الإثنا عشرية : وهذه في المتبادرة عند الإطلاق من لفظ الإمامية  وهم قائلون بإمامة على الرضا بعد أبيه موسى الكاظم ، ثم بإمامة ابنه محمد التقى المعروف بالجواد ، ثم بإمامة ابنه على النقى المعروف بالهادي ، ثم بإمامة ابنه الحسن العسكري ثم بإمامة ابنه محمد المهدي معتقدين أنه المهدي المنتظر ، ولم يختلفوا في ترتيب الإمامة على هذا الوجه . نعم إختلفوا في وقت غيبة المهدي وعامها وسنة يوم غاب ، بل قال بعضهم بموته وأنه سيرجع إلى الدنيا إذ عم الجور وفشا ، والعياذ بالله تعالى من الجور بعد الكور ، وقد ظهرت هذه الفرقة سنة مائتين وخمس وخمسين ، وهي قائلة بالبداء (1) ولذا تراها تنادى بأعلى صوت عند زيارة روضة موسى الكاظم : أنت الذي بدا الله فيه ، يعنون ما كان بزعمهم من نصب أخيه إسماعيل إماماً بعد أبيه وموته من قبل أن ينال الإمامة ونصب أبيه إياه إماماً ، وكأنهم تبعوا في ذلك البداية (2) وأنهم قالوا بالبداء بمعنى  وقالت البدائية به بمعنى آخر .

مربع نص: (1) أي إن الله سبحانه يبدو له غير الذي كان أراده ، فيرجع عن إرادته إلى الذي بدأ له من بعد . 
وهي الفرقة السابعة التي تقدم الكلام عليها في ص 16
 

 


   

 

 

 

 

 

من مكايدهم أنهم ينسبون بعض الكتب لكبار علماء السنة مشتملة على مطاعن في الصحابة وبطلان مذهب أهل السنة مثل كتاب ( سر العالمين ) فقد نسبوه إلى الإمام محمد الغزالي عليه الرحمة وشحنوه بالهذيان ، وذكروا في خطبته عن لسان ذلك الإمام وصيته بكتمان هذا السر وحفظ هذه الأمانة ، وما ذكر في هذا الكتاب فهو عقيدتي ، وما ذكر في غيره فهو للمداهنة . فقد يلتبس ذلك على بعض القاصرين . نسأل الله عز وجل العصمة من مثل هذا الزلل .

ومن مكايدهم أنهم يذكرون أحد علماء المعتزلة أو الزيدية أو نحو ذلك ويقولون إنه من متعصبي أهل السنة ، ثم ينقلون عنه ما يدل على بطلان مذهب أهل السنة وتأييد مذهب الإمامية الإثني عشرية ترويحاً لضلالهم ، كالزمخشري صاحب الكشاف الذى كان معتزلياً تفضيلياً ، والأخطب الخوارزمي فإنه زيدي غال ، وابن قتيبة صاحب المعارف الذى هو رافضي عنيد ( 1 ) ، وابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة الذى هو من الغلاة على قول ( 2 ) ومن المعتزلة على قول آخر ، وهشام الكلبي الذى هو من الغلاة ، وكذلك المسعودى صاحب مروج الذهب ، وأبو الفرج الإصفهاني صاحب كتاب الأغاني وغيرهم ، وقصدوا بذلك إلزام أهل السنة بما لهم من الأقوال ، مع أن حالهم لا تخفى حتى على الأطفال .

ومن مكايدهم أنهم يقولون : نحن أتباع أهل البيت الذين قال تعالى فيهم ] إنما يريد اله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ( 3 ) [ وغير الشيعة تابعون لغير أهل البيت ، فلزم كون الشيعة هي الفرقة الناجية ، ويؤكدون ذلك بقوله r  (( أهل بيتى فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق )) والجواب أن هذا كلام قد أختلط فيه الحق بالباطل ، والرائج من القول بالعاطل : فإنا نسلم أن أتباع أهل البيت ناجون وان مقلديهم هم المصيبون . ولكن أين الشيعة الطغام ، من أولئك السادات الكفر والضلال . فهيهات هيهات ، ,قد فات عنهم ما فات . بل الحق الحقيق بالقبول ، وأن أهل السنة هم أتباع بيت الرسول ، وهو السالكون طريقتهم ، والمجيبون دعوتهم . والأئمة الأطهار ، كانوا على ما عليه أهل السنة الأخيار . كيف لا وأبو
------------------------

( 1 ) وهو غير ابن قتينبة السني كما تقدم في الصفحة السابقة .

( 2 ) أنظر ما تقدم عنه في ص 9 وهوامشها .

( 3 ) هذه الأية من سورة الأحزاب نزلت في نساء النبي r وفي مقدمتهن عائشة أو المؤمنين رضي الله عنها .

حنيفة ومالك وغيرهما من العلماء الأعلام ، قد أخذوا العلم عن أولئك الأئمة العظام ، والحمد لله تعالى على ذلك الأنعام .

حنيفة ومالك وغيرهما من العلماء الأعلام ، قد أخذوا العلم عن أولئك العظام ، والحمد لله تعالى على ذلك الأنعام .

 ومن مكايدهم أنهم يؤلفون في الفقه كتاباً وينسبونه إلى أحد أئمة أهل السنة ، ويذكرون فيه بعض المفتريات مما يوجب الطعن على أهل السنة ، كالمختصر المنسوب إلى الإمام مالك الذى صنفه أحد الشيعة فذكر فيه أن مالك العبد يجوز له أن يلوط به لعموم قوله تعالى ] أو ما ملكت أيمانكم [ وقد فات ذلك على صاحب ( الهداية ) فنسب حل المتعة إلى الإمام مالك ، مع أنه كذب وبهتان ، بل قيل إنه يوجب الحد عليها بخلاف الأئمة الثلاثة .

          ومن مكايدهم أنهم يزيدون بعض الأبيات في شعر أحد الأئمة أهل السنة مما يؤدي بتشيعه ، كما فعلوا في ديوان حافظ الشيرازي وديوان مولانا الرومي والشيخ شمس الدين تبريزي قدس سرهم . وقد ألحق بعض الشيعة المتقدمين بما نسب للإمام الشافعي t من الأبيات الثلاثة السابقة ( 1 ) التى أولها :

          يا راكبا قـف بالمحصـب من منـى             وأهتـف بساكـن خيفها والنـاهض

ثلاثة أبيات أخرى تشعر بتشيعه وحاشاه وهي هذه :

ووصية وبنيه لست بباغض
لولاء أهل البيت لست بناقض
قدمتموه على علي ما رضى

 

قف ثم نادى باننى لمحمد
أخبرهم أني من النفر الذى
وقل ابن أدريس بتقديم الذى

والفرق بين تلك الثلاثة وهذه مما لا يخفى على صغار المتعلمين ، إذ هذه الثلاثة في غاية من الركاكة فلا يتصور صدورها عن مثل ذلك الإمام البليغ الذى له اليد الطولى في الغربية . وقد نسبوا له أيضاً أبياتاً آخر غير التى ذكرناها سابقاً مثل قولهم :

وسبطاه والسجاد والباقر المجدى
وفلذته والعسكريان والمهدي

 

شفيعي نبيى والبتول وحيدر
وجعفر والثاوى ببغداد والرضا

          ولا يخفى بطلان نسبة ذلك إلى ذلك الإمام على من تصفح كتب التواريخ ، لأن ولادة الإمام على بن محمد التقى كانت سنة أربع عشرة ومائتين وولادة الإمام حسن العسكرى بعد ذلك بزمن طويل ، ووفاة الإمام الشافعي سنة أربع ومائتين في عهد المأمون العباسى . نعم إن الإمام الشافعي قد ذكر فضائل من ادركه من أئمة أهل البيت ، وهكذا شأن جميع علماء أهل السنة ولله

 

--------------------------------

( 1 ) في ص 8 .

تعالى الحمد كما سبق ( 1 ) .

          ومن مكايدهم أنهم يفترون على النبي r في أنه قال (( لا تسأل شيعة على يوم القيامة عن صغيرة ولا كبيرة ، بل تبدل سيئاتهم بالحسنات )) وأنه r قال (( قال الله تعالى : لا أعذب أحداً والى علياً وإن عصانى )) فاغتر بهذا بعض الجهال فهاموا في أودية الضلال ، مع أنه قال تعالى ] ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره [ فقد كذبوا على النبي المختار ، فليتبوءوا مقعدهم من النار .

          ومن مكايدهم أنهم يقولون : إن فضائل أهل البيت  وما روى في إمامة الأمير متفق عليه عند الفريقين ، بخلاف فضائل الخلفاء الثلاثة فهي مختلف فيها ، فينبغي للعاقل أن يختار ما أتفق عليه بموجب (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) . والجواب أن شبهتهم هذه كشبهة اليهود والنصارى في قولهم : إن نبوة موسى وعيسى متفق عليها عند الفريقين ، بخلاف نبوة محمد r . والذى يزيل هذه الشبهة هو أن الأخذ بالمتفق عليه وترك المختلف فيه إنما يكون بمقتضى العقل لو لم يوجد دليل آخر ، فإن وجد فلا التفات للإتفاق والاختلاف . على أن هذه الشبهة تتقلب عليه ويعود وبالها وبلاؤها على رءوسهم ، كيف لا وقد تقرر عندهم من القواعد أن الروايتين عن الأئمة إن وافقت أحداهما العامة دون الأخرى فالتمسك إنما هو بالمخالفة ولو كانت ضعيفة ، وهذا مصرح به في أصولهم .

          ومن مكايدهم أنهم ينسبون إلى الأمير من الروايات ما هو برئ منه ويحرفون ما ورد عنه ، فمن ذلك ( نهج البلاغة ) الذى ألفه الرضى وقيل أخوة المرتضى ، فقد وقع فيه تحريف كثير وأسقط كثير من العبارات حتى لا يكون به متمسك لأهل السنة ، مع أن ذلك أمر ظاهر ، بل مثل الشمس زاهر .

          ومن مكايدهم أنهم ينظمون بعض الأبيات على لسان اليهود أو النصارى مما يؤذن تحقيقه مذهب التشيع ، فمن ذلك ما ينسبونه إلى أبن فضلون اليهودي :

وما لسواه في الخلافة مطمع
تقدم ، بل فيه الفضائل أجمع
لما كنت إلا مسلماً أتشيع

 

على أمير المؤمنين عزيمة
له النسب العالى وإسلامه الذى
ولو كنت أهوى ملة غير ملتى
------------------------------

( 1 ) ومن هذا الباب إضافتهم إلى أبيات قليلة للفرزدق في الإمام زين العابدين أبياتاً من وزنها ورويها بعضها للحزين الكناني في عبد الله بن عبدالملك بن مروان وهي في حماسة أبي تمام ( 2 : 284 ) ، وبعضها في نقد الشعر لقدامة ( 19 و 27 ) وبعضها في مدح بعض نبي مروان أيضاً أوردها الجاحظ في كتاب الحيوان ( 3 : 152 ساسي ) وفي أول الجزء الثالث من البيان والتبيين . وأنظر الأغاني 14 : 76 – 79 بولاق . أما الأبيات الفرزدق في زين العابدين فهي ستة لا غير في ديوانه الذى أملاه محمد بن حبيب وطبع بالفتوغراف في مونخن بألمانيا سنة 1900 وقد ، بسطت القول فيه بمقال مطول في جريدة ( الأخوان المسلمون ) اليومية بعنوان (( طائرات في أسراب غير أسرابها )) .

وكذا ينسبون إليه هذه الأبيات :

حب  على في الورى جنـة                  فـامـح بها يـارب أوزارى

أن ذميـاً نوى حبه                   حصن في النـار من النـار

إلى غير ذلك ، وسيجئ منه إن شاء الله في آخر الكتاب .

          ومن مكايدهم أنهم يقولون : إن الشيعة أمنون من عذاب يوم القيامة ودخول النار وكل ما في القرآن من الوعيد فهو لغيرهم . ولا يخفى أن عقيدتهم هذه تشبه عقيدة اليهود حيق قالوا
 
] لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ، نحن أبناء الله وأحباؤه [ ويردهم قوله تعالى ] من يعمل سوءاً يجز به [ وغير ذلك من الآيات والأحاديث المتفق على صحتها عند الفريقين .

          ومن مكايدهم أنهم يقولون : إن أهل السنة يختارون مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد ويؤثرونه على مذهب الأئمة الأطهار مع أنهم أحق بالأتباع ، لأنهم تربوا في حجر النبي r ، وأهل البيت أدرى بما فيه ، وأن النبي r قال (( إنى تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بها لن تضلوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتى )) وقال r (( مثل أهل بيتى فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق )) ولأن كمالهم وعلمهم وتقواهم من المتفق عليه عند الفريقين ، فهم بالاتباع أحق ، وبالإقتداء أليق . والجواب أن الإمام نائب النبي وخليفة لا صاحب المذهب ، لأن المذهب طريق الذهاب الذى فتح على بعض الأمة فهم أحكام الشريعة من أصولها ، ولذا احتمل الصواب والخطأ ، والإمام عندكم معصوم عن الخطأ كالنبي فلا يتصور نسبة المذهب إليه ، ومن ثم كان نسبة المذهب إلى الله تعالى والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام من فضول الكلام ، ومعدوداً من جملة الأوهام . بل فقهاء الصحابة رضى الله تعالى عنهم أفضل عند أهل السنة من الأئمة الأربعة ، ومع ذلك لا يعدونهم أصحاب مذاهب ، بل إنما يجعلون أقوالهم وأفعالهم مدارك الفقه ودلائل الحكام ، وواسطة في أخذ شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام . على أن أهل السنة هم المقتدون بالأئمة الأطهار ، فإن أئمة مذاهبهم قد أخذوا العلم من اولئك الأخيار ، فرتبتهم عند أهل السنة رتبة النبي والأصحاب الكبار ، ولكن لا ينسبون أنفسهم إليهم ، ولا يدعون أخذ العلم عنهم كما هو حالهم مع الصحابة . وتحقيق هذا المطلب أن منصب الإٌمام إصلاح العالم في أمر المعاش والمعاد كما هو شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فالأئمة في زمنهم اشتغلوا في ألهم من بيان ما يحصل به الشفاء من الأمراض النفسانية ورفع المهلكات ، وأحالوا الأحكام الشرعية إلى تلاميذهم وأصحابهم . فتوجهوا إلى إقامة تلك الأحكام ، كما توجه الأئمة إلى العبادات والرياضات وتصفية القلوب وتعيين الأذكار وتعليم الأدعية وتهذيب الأخلاق ، وإرشادهم إلى المعارف الإلهية بأخذها من كلام الله تعالى وكلام رسوله r ، ولهذا نقل عنهم دقائق علم الطريقة وغوامض اسرار الحقيقة ، ويشير حديث الثقلين إلى ذلك ، لأن كتاب الله تعالى يكفى في تعليم ظاهر الشريعة ، ولا حاجة لمن له معرفة بالأصول والفقه في فهم الأحكام الشرعية منه إلى إرشاد إمام ، وإنما الحاجة إليه لتعليم الأسرار الإلهية ، ولهذا لم نر أحداً منهم صنف كتاباً في أصول أو فروع باتفاق الفريقين ، بل أنتشرت روايات المسائل والأحكام عنهم في اصحابهم وصارت قواعد الأستنباط مهجورة فلابد لها من يجمعها ويحرزها ويمهد قواعد الاجتهاد ومراسمه ، والشيعة وإن كانوا يدعون ظاهراً أتباع الأئمة ولكنهم في الحقيقة يقلدون في المسائل غير المنصوصة عن الأئمة علماءهم ومجتهديهم كابن عقيل والسيد المرتضى والشيخ الشهيد ويأخذون بأقوالهم ولو كانت مخالفة للروايات الصحيحة عن الأئمة كما سيجئ إن شاء الله تعالى من ذلك في المسائل الفقهية . فإذا جاز عندهم تقليد مجتهديهم فيما يخالف الروايات الثابتة عن الأئمة فإى محذور يلزم من الأصول والقواعد ولا محذور في كثير من المسائل ، ومع ذلك فهما من أتباعه ، وما قاله ابن الأثير الجزرى صاحب ( جامع الأصول ) أن الإمام على الرضا كان مجدداً لمذهب الإمامية في القرن الثالث فمراده أن الإمامية يوصلون إليه مذهبهم المدون في ذلك القرن ويعلمونه مأخذ مذهبهم ، كما ان ابن مسعود من الصحابة وعلقمة من التابعين كانا بانيين لمذهب أبي حنيفة ، وأن نافعاً والزهرى من التابعين وابن عمر من الصحابة كانوا بانين لمذهب مالك ، مع أن ما ذكره ابن الأثير بناه على زعم الإمامية ومعتقدهم بناء على ما صرح به من أنه يذكر مجددى كل مذهب على زعم أصحابه ومعتقدهم والله تعالى أعلم .

          ومن مكايدهم أنهم يذكرون في كتب التواريخ حكايات موضوعة وخرافات شنيعة مما يؤيد عقائدهم الفاسدة ويروج مذاهبهم الكاسدة . فمن ذلك حكاية حليمة السعدية مرضعة النبي r حيث قالوا : إنها قدمت على الحجاج الثقفى في العراق فقال لها الحجاج : جاء بك الله إلى وقد كنت أردت أن أكلفك بالحضور لأنتقم منك . فسألته حليمة عن السبب ، فقال : سمعت أنك تفضلين علياً على أبي بكر وعمر ، فأطرقت رأسها ساعة ثم رفعته وقالت : أيها الحجاج ، والله إنى لا أفضله على أبي بكر وعمر وحدهما إذ أى كمال وفضلهما ! ؟ بل أفضله على آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلاة والسلام . فأشتد إذ ذاك غضب الحجاج وقال : لئن لم تثبتي هذه الدعوى لأقطعنك إرباً إرباً لتكوني عبرة لمن يعتبر . فقالت حليمة : أصغ إلى مقالتى واسمع دليلى وحجتى . فقال لها الحجاج : فيم تفضلين علياً على آدم وقد خلقه الله تعالى بيده ونفخ فيه من روحه وأسكنه الجنة وأمر الملائكة بالسجود له وكرمه بانواع الكرامات ؟ فقالت حليمة بما قال الله تعالى ] وعصى آدم ربه فغوى [ وقد وصف علياً وأثنى عليه في سورة (( هل أتى )) بقوله تعالى ] إنما وليكم الله ورسوله [ الآية ، ولم يسبقه أحد بالتصديق في الصلاة حيث أعطي الفقير خاتمة وهو فيها . فقال الحجاج صدقت ، فبأى دليل تفضلين علياً على نوح ؟

 فقالت : لأن زوجة على فاطمة البتول سيدة نساء العالمين بضعة خير الخلق أجمعين زوجت تحت سدرة المنتهى بشهادة الملائكة المكرمين وإخبار الروح الأمين ، وزوجة نوح كانت كافرة كما نطق به القرآن ! فقال الحجاج : بما تفضلين علياً على إبراهيم خليل الرحمن ؟

 فقالت : إن إبراهيم قال ] رب أرني كيف تحيى الموتى . قال أو لم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي [ وقال على رءوس الأشهاد : لو كشف لي الغطاء ماأزددت يقيناً .

ثم قالت سمعت رسول الله r وكان جالساً وحوله المؤمنون والمنافقون فقال : أيها المؤمنون قد وضع لي المنبر ليلة أسرى بي فجلست عليه وجاء أبي إبراهيم فصعد المنبر وجلس عليه دون درجة واحدة من مجلسى ، وجاء الأنبياء الآخرون أيضاً وسلموا على ، حتى جئ بابن عمى علي ابن أبي طالب راكباً على ناقة من نوق الحنة وفي يده لواء الحمد وكان حوله جماعة وجوههم كالبدر مشرقة منورة فسألتى إبراهيم عن هذا الفتى أهو من النبيين ؟ قلت : ما هو نبي بل هو ابن عمي علي بن أبي طالب ، فسأل إبراهيم : من هؤلاء القوم الحافون من حوله ؟ قلت : أولئك شيعته ومحبوه . فدعا إبراهيم حينئذ : رب أجعلني من شيعة علي ، يدلك على ذلك قوله تعالى ] وإن من شيعته لإبراهيم ، وإذ جاء ربه بقلب سليم [ فقال الحجاج : صدقت . فبم تفضلينه على سليمان .

 فقالت حليمة : إن سليمان طلب من ربه الملك والجاه والدنيا حيث قال ] رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ، إنك أنت الوهاب [ والأمير قد طلق الدنيا حيث قال : إليك عني يا دنيا ، طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها ، حبلك على غاربك ، غرى غيرى ، ولا حاجة لي فيك ))  .

 قال الحجاج : صدقت ، فيم تفضلينه على موسى ؟

          فقالت : إن موسى قد فر من مصر إلى مدين خوفاً من فرعون ، قال تعالى ] فخرج منها خائفاً يترقب [ والأمير قد رقد ليلة الهجرة على فراش رسول الله r بقلب مطمئن ، ولو كان معه شئ من الخوف لما نام . فقال : صدقت . ففيم تفضلينه على عيسى ؟

فقالت : إن عيسى إن عيسى يحبس يوم الحشر في موقف الحساب فيسأله الله تعالى : هل إنه كان السبب في إتخاذ إله غير الله وعبادة غيره سبحانه ليعتذر حينئذ بما يعتذر ؟ يدل على ذلك قوله تعالى ] أأنت قلت للناس أتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى به علم ، وإن كنت قلته فقد عمته ، تعلم ما في نفسى ولا أعلم ما في نفسك ، إنك أنت علام الغيوب . ما قلت لهم إلا ما أمرنتى له ان أعبدوا الله ربي وربكم [ الأية ، والأمير لما قالت السبئية إنه إله غضب عليهم وأجلاهم وهددهم حتى أشتهر في مشارق الأرض ومغاربها وأظهر منهم البراءة فقال : الحجاج : صدقت . وأمر لها بألف درينار وقرر لها وظيفة في كل سنة .

ثم قالت يا حجاج استمع نكتة ولطيفة أخرى . وابن مريم لما أخذها المخاض وقد كانت في بيت المقدس أمرها الله تعالى بخروجها عنه إلى الصحراء ووضع حملها تحت جذع النخلة كي لا يتلوث بيت المقدس بنفاسها . ولما أخذ المخاض أمير المؤمنين فاطمة بنت أسد أوحي إليها الله : أدخلي في الكعبة وشرفي بيتي بولادة هذا المولود الشريف . فأنصف الأن ، من الأفضل والأشرف من هذين المولودين ؟ فدعا الحجاج لحليمة بالخير ، وودعها معززة محترمة . انتهت هذه الحكاية المكذوبة والقصة الأعجوبة . ولا يخفى ما فيها من بطلان حتى على الصبيان ، حيث إن حليمة كما لا يخفى على من تصفح كتب التواريخ والسير لم تدرك زمن الخلفاء الراشدين ، بل قد أختلف المؤرخون في كونها أدركت زمن البعثة وآمنت بالنبي r ، وأيضاً أن الحجاج مشهور بسفك الدماء ظلماً ولا سيما أهل البيت ومن له تعلق بهم لأنه كان من النواصب المظهرين لعداوة الأمير كرم الله تعالى وجهه وذريته الطاهرين رضي الله تعالى عنهم ،و لذا قتل كثيراً من علماء أهل السنة بسبب محبتهم لأولئك الكرام ، وقد أهان كثيراً من الصحابة الكرام وأهان أنس بن خادم رسول الله r ولا يتمكن أحد من الحضور لديه من غير أن يطلي حضوره ، فعلى فرض أن حليمة أدركت زمنه كيف يمكنها الوصول إليه حتى تشد الرحال للحضور بين يديه ؟ ومع ذلك لم ينقل عن أحد رجوع ذلك الظالم عن بغض الأمير الذى يرى ذلك سبباً لنيله الجاه الخطير . ثم إنا إذا رجعنا إلى ما نسبوه إلى حليمة من الشبهات ، وهاتيك الدلائل الواهيات ، وجدناها كسراب بقيمة ، لا يخفى ما فيها من الأمور الشنيعة ، وذلك من وجوه : أما أولاً فلأن تفضيل الأمير على الأنبياء ، ولا سيما على أولى العزم خلاف ما عليه العقلاء من سائر ملل الأنام فضلاً عن ملة الإسلام ، فإن المولى لا يصل إلى مرتبة النبي في كل شريعة من الشرائع ، ونصوص الكتاب تنادى على تفضيل الأنبياء على جميع خلق الله .

وأما ثانياً : فإن تلك الاحتجاجات مبنية على ملاحظة مناقب الامير مع زلات الأنبياء ، ولو لوحظت مع كمالاتهم ومناقبهم لخفيت على الناظرين ، وغابت عن أعين المبصرين . ويلزم عليهم أن الأمير بل وأبا ذر وعماراً وسلمان وغيرهم من الصحابة الكرام أفضل من النبي عليه الصلاة والسلام إذا نظر ما ورد في حقهم من الآيات المشعرة بمدحهم مع ما ورد من معاتباته عليه الصلاة والسلام في عدة مواضع ، ولا يقول ذلك عاقل فضلاً عن فاضل . وأما ثالثاً فلأن آدم أبو البشر وأصل لنوع الإنسان ، فكل ما يحصل لأولاده من الفضائل والأعمال الصالحة فهي عائدة إليه . نعم إن بعض أولى العزم كنبينا ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، فضلوا عليه لخصوصيات أكرمهم الله تعالى بها ذكرها سبحانه في كتابه العزيز وخطابه الوجيز .

وأما رابعاً فلأن الأزواج لا دخل لهن في المفاضلة ، لأن الأمور العارضة لا دخل لها في الفضل الذاتي والكمال الحقيقى ، وإنما المناط الأمور الذاتية والصفات الحقيقية ، فتفضيل زوجة علي كرم الله تعالى وجهه على زوجة نوح عليه الصلاة والسلام غير مستلزم لتفضيل علي عليه . ألا ترى أن زوجة فرعون كانت أفضل من زوجة نوح ولوط ، وكذا زوجة الأمير أفضل من أزواج النبي r ، ولا قائل بالتفضيل .

وأما خامساً فلآن حديث (( لو كشف لي الغطاء ما أزددت يقيناً )) موضوع لا أصل له في كتب الحديث الصحيحة عند الفريقين . وعلى فرض تسليم صحته فهو غير مفيد للتفضيل أيضاً لأن معناه : لو رفعت الأحجبة وسبحات الجلال عن وجه الواجب جل شأنه لا أزداد على اليقين الحاصل لي بوجوده وصفاته الكاملة بملاحظة الآيات على وحدانيته وكمال قدرته وإحاطة علمه . والخليل u كان أعلى كعباً من الأمير في ذلك . وفي تفسير هذه الأية . فراجعه .

وأما سادساً : فلأن عروج الأمير غير ثابت في كتبهم الصحيحة ، بل الثابت خلافة ، فقد روى ابن بابويه القمي في كتاب ( المعراج ) في ضمن حديث طويل عن أبي ذر أن ملائكة السماء قالوا للنبي r : إذا رجعت إلى الأرض فأقرأ على علي منا السلام . وقال أيضاً في الكتاب المذكور : والصحيح أن أمير المؤمنين ما كان ليلة المعراج مع النبي r بل كان في الأرض ، ولكن أرتفعت الأحجبة عن بصره فرأى وهو في الأرض ما رآه النبي r وهو في السماء .

وأما سابعاً : فلأن الأمير كان يعلم أنه صبي ، وعداوة الكفار له ليست بالذات فلا طمع لهم في قتله ومع ذلك فقد أخبره النبي r أن الكفار لن يضروه ، فزيادة إيمانه بذلك القول كانت سبباً لأطمئنانه ، بخلاف موسى فإنه ما كان له شئ من ذلك ، بل كان الغالب على ظنه حسب العادة أن فرعون يقتله بدل القبطي إذا رآه ، وأنه أحس بمشاورة رؤساء القبط على قتله بإخبار العدول ولم يوح إليه ما يزيل خوفه ، ولما تكفل له جل شأنه من مكر فرعون ذهب إليه وقال ما قال مما تعجز عنه الأبطال ، وأقام مع ذلك الكافر أربعين عاماً في بلدة واحدة .

أما ثامناً : فلأن سليمان u - كما صرح به المرتضى في كتابه ( تنزيه الأنبياء والأئمة ) إنما طلب ذلك الملك ليكون معجزة على نبوته ، وشرط المعجزة أن لا يكون للغير قدرة عليها ، ولأنه يمكن أن يكون الله تعالى قد أخبره بان حصول ذلك الملك له يكون أصلح في الدين بكثرة الطاعات والمبرات وفعل الخيرات ، وإذا كان الأمر كذلك فلا منقصة ولا محذور على سليمان u ، ولا مزيه عليه للأمير في تطليقه الدنيا . على أن طلب على أن طلب الملك لا ينافي التطليق ألا ترى إلى الأمير كرم الله وجهه أنه طلب الخلافة بعد ذلك وسعى لها سعيها حتى وقعت حروب كثيرة بسبب ذلك لأن مثل هؤلاء الرجال إنما يطلبون المال والملك للجهاد في الدين وقتال الأعداء سبحانه وقصد استئصالهم وترويج أحكام الشريعة فإن ترك الدنيا مطلقاً ليس بمحمود في الدين المحمدي ولو كان على إطلاقه موجباً للتفضيل يلزم أن يكون الرهبان وأمثالهم أفضل من سليمان ويوسف عليهما السلام معاذ الله تعالى من ذلك وأما تاسعاً فلأن تعزير الأمير للغالين في محبته لا يوجب تفضيله على عيسى u لأن المغالين في محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه قد أظهروا الكفر والفسوق بمرأى منه ومسمع فتمكن من الانتقام منهم فعمل ما عمل به وغلاة عيسى u الذين كانوا قائلين بالتثليث ظهروا بعد أن رفع إلى السماء ولا إشكال في قوله تعالى ] لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار [ لأنه u قد رد عليهم مازعموه  ووبخهم غاية التوبيخ على ما اعتقدوه ومن أين لهم أن عيسى u يسأل والأمير كرم الله تعالى وجهه لا يسأل وقد قال تعالى ] ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي أم هم ضلوا السبيل [ فيجيبون الله تعالى على ما يدل عليه قوله سبحانه : ] قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء [ ولا يلحقهم نقص من ذلك السؤال إذ القصد تبكيت الكفرة وإلزام أهل الضلال . وقد سأل سبحانه الملائكة مثل ذلك مع أنهم معصومون ليسوا بمحل للعتاب ، قال تعالى] ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون[ .

وأما عاشراً فلأن ما ذكر في ولادة عيسى غلط محض وكذب صريح لأن الأصح أن مولده بيت لحم وفلسطين وقيل مصر وقيل دمشق ولم يقل أحد المؤرخين إن مريم قد جاءها المخاض في المسجد الأقصى ولئن سلم ذلك فمن أين علم أنها أخرجت بالوحى ؟ بل إنها لما حملت بعيسى u من غير أب كرهت إظهار الولادة منفردة ولذا تمنت الموت كما قال تعالى : فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً [ وأما القول بأنه قد أوحى إلى فاطمة بنت أسد بأن تضع في الكعبة فقول يضحك الثكلى وتضع منه الحبلى والصحيح في ذلك أن عادة الجاهلية أن يفتح باب الكعبة في البوم الخامس عشر من رجب ويدخلون جميعهم للزيارة وكانت العادة أن النساء يدخلن قبل الرجال بيوم أو يومين وقد كانت فاطمة قريبة الوضع فاتفق أن ولدت هناك لما أصابها من شدة المزاحمة والمجاذبة وقد ورد في كتب الشيعة أن أبا طالب لما يئس من ولادتها لما زادت المدة المعلومة لما عراها من المرض أدخلها الكعبة للاستشفاء فرحمها الله تعالى بالولادة فيها ورووا عن زين العابدين أنه قال : أخبرتني زيدة بنت عجلان الساعدية عن أم عمارة بنت عباد الساعدية أنها قالت : كنت ذات يوم في نساء من العرب إذ أقبل أبو طالب كئيباً فقلت له : ما شأنك ؟ قال إن فاطمة بنت أسد في شدة من الطلق وإنها لا تضع ثم إنه أخذ بيدها وجاء بها إلى الكعبة فدخل بها وقال : اجلسي على اسم الله فجلست وطلقت طلقة فولدت غلاماً نظيفاً فسماه أبو طالب علياً انتهى . على أن ولادة الأمير في الكعبة لو أوجبت تفضيله على عيسى u لأوجبت تفضيله على النبي r ولا قائل بذلك من الفريقين ولأوجبت تفضيل حكيم بن حزام بن خويلد ابن أخي أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها على سائر الأنبياء إذ قد ولد في الكعبة أيضاً وبطلان ذلك غير خفي على أحد والله يبدي الحق ويهدي إلى سواء السبيل .

ومن مكايدهم أنهم يقولون : أهل السنة رووا في كتبهم الصحيحة ما يزري بشأن النبي r من تركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم الغيرة حيث يروون عن عائشة أنها قالت (( رأيت رسول الله r يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون بالدرق والحراب يوم العيد )) . فإن في هذه الرواية إراءة اللعب وتقرير الحبشة عليها في المسجد ونظر زوجة الرسول إلى غير المحارم وأن أهل السنة يروون أن رسول الله r قال (( أتعجبون من غيرة سعد وأنا أغير منه والله أغير منى )) وأدنى الناس لا يرضى برؤية زوجته إلى الأجانب ونظرها إلى لعبهم ولهوهم فضلاً عن سيد الكونين r والجواب أن هذه القصة وقعت قبل نزول آية الحجاب ، وكان النساء من أمهات المؤمنين وغيرهن يخرجن إذ ذاك بلا حجاب ويخدمن الأزواج ولو بحضور الأجانب باتفاق الفريقين حتى روى أن فاطمة رضي الله تعالى كانت تغسل الجراح التي أصابته عليه الصلاة والسلام في غزوة أحد بمحضر سهل وجماعة من الصحابة والشيء قبل تحريمه لا يكون فعله موجباً للطعن فقد صح عند الفريقين أن سيد الشهداء حمزة وأبا طلحة الأنصاري وجماعة من الصحابة y شربوا الخمر قبل تحريمها وسكروا ووقع بينهم ما وقع ورآهم رسول الله r على تلك الحالة وسكت ولم ينكر عليهم . وأيضاً أن عائشة رضي الله تعالى عنها إذ ذاك صبية غير مكلفة فلو نظر مثلها إلى لهو فأي محذور ؟ ولا سيما إذا كانت متسترة وأيضاً أن لهو الحبشة ولعبهم كان لتعلم الحرب والقتال حتى روى أن الملائكة يحضرون مثل هذا اللعب فالنظر إليه ليس بحرام . وأما ما نقل من زجر عمر بن الخطاب الحبشة عن ذلك لما ظن أن فعل ذلك بحضور النبي عليه الصلاة والسلام من سوء الأدب ولهذا قال r له (( دعهم يا عمر )) امتنع عن الإنكار . والعجب من الشيعة أنهم يعدون أمثال ذلك من قلة الغيرة والعياذ بالله تعالى وهم يرون عن الأئمة المعصومين وأهل البيت الطاهرين حكايات تقشعر منها جلود المؤمنين وتمجها أسماع المسلمين فقد ثبت في كتبهم الصحيحة أن أبا عبدالله u قال لأصحابه وشيعته : (( إن خدمة جوارينا لنا ، وفروجهن لكم حلال )) وذكر مقداد صاحب كنز العرفان الذي هو أجل المفسرين عندهم في تفسير قوله تعالى ] هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين [ أن لوط النبي u أراد بذلك الإتيان من غير الطريق المعهود بين الناس ‍ فياويلهم من هذا الإفتراء وسحقاً لهم بسبب هذه المقالة الشنعاء .

ومن مكايدهم أنهم يقولون : إن أهل السنة يجوزون اللعب بالشطرنج مع أن كل لعب ولهم مذموم في الشرع . الجواب أن الأئمة الثلاثة أعني أبا حنيفة ومالكاً وأحمد كلهم قائلون بحرمته مطلقاً ويروون آثاراً على حرمته وللإمام الشافعي فيه قولان : قول أنه مكروه بشرط أن لا يؤخر الصلاة عن الوقت المستحب ولا تترك السنن والآداب لأجله وأن لا يكون اللعب على شيء وأن لا يفوت ما يجب من خدمة الوالدين وتفقد أحوال العيال وعيادة المرضى واتباع الجنائز وأن لا يقع في اللعب نزاع وجدال وأيمان كاذبة وأن لا يكون ما يلعب به مصوراً بصور الحيوانات فإن فقد شيء من هذه الشروط فهو حراماً قطعاً فمن أصر علة فعله مع حرمته فقد ارتكب الكبيرة . والقول الثاني أنه حرام كما عليه الجمهور وقد صح عن الشافعي أن رجع كما نص عليه الغزالي ولكن في شروح المنهاج وفتح الوهاب والأنوار وفتح المعين وغيرهما الفتوى على القول الأولى من كونه مكروهاً بالشروط وحراماً بفقد شرط منها . على أن لو سلمنا أن أهل السنة يجوزون اللعب به فهو من القسم المباح ، إذ فيه تشحيذ الذهن ، وتعليم بمخادعات الحرب وطرق الاحتراز عن مكايد الأعداء ، فحكمه حكم الملاعب المباحة كالمسابقة بالخيل ورمي السهام ، ونحو ذلك . والله أعلم .

ومن مكايدهم أنهم يقولون إن أهل السنة يجوزون التغني ، مع أنه قد ورد النهي عنه في احاديث كثيرة . الجواب أن هذا محض أفتراء ، وكلام أشبه شئ بالهراء . فإن الغناء عند جميع أهل السنة حرام ، قال سيد الطائفة جنيد البغدادى قدس سره : إنه بطالة . وقال الشيخ المرزوقي الفاسي : السماع حرام كالميتة ، اللهم إلا إذا كان فيه تشويق إلى العبادة وترغيب إلى الطاعة وترهيب عن النيران ، وعذاب الله تعالى فهو جائز عند البعض . وإن أردت تحقيق الحق في هذا المقام فأرجع إلى ( روح المعاني ) تفسير جدنا روح الله تعالى روحه عند الكلام على قوله تعالى ] وإذا رأوا تجارة أو لهوا أنفضوا إليها [ الآية . فإنك ترى فيه ما يروى الغليل ويشفى العليل ، على أن الشيخ المقتول من الشيعة ذكر في كتاب ( الدروس ) أنه يجوز الغناء بشروطه في العرس ، وتلك الشروط هي أن يكون المسمع أمرأة ، وأن يكون شعراً في الهجاء . كذا في
( شرح القواعد ) . وهذا مما يقضى منه العجب ويزيد الطرب ، وقد طعنوا أنفسهم وأصابهم سهمهم ، وكفى الله المؤمنين والحمد لله سبحانه في كل حين .

ومكايدهم لا تحصى ولا تعد ، ولا ترسم ولا تحد . والذى ذكرناه عشر من معشار وقطرة من بحار . وقد تركت كثيراً مما ذكر في أصل الكتاب ، استغناء بذكر ذلك في بقية الأبواب .

 

الباب الثاني

في بيان أقسام أخبار الشيعة وأحوال رجال أسانيدهم

وطبقات أسلافهم وما يتبع ذلك

أما أقسام ( أخبارهم ) فأعلم أن أصولها عندهم أربعة : صحيح وحسن وموثق وضعيف .

أما ( الصحيح ) فكل ما أتصل رواته بالمعصوم بواسطة عدل إمامي ، وعلى هذا فلا يكون المرسل والمنقطع داخلاً في الصحيح لعدم أتصالهما وهو ظاهر ، مع إنهم يطلقون عليها لفظ الصحيح ، كما قالوا : روى ابن عمير في الصحيح كذا وكذا . ولا يعتبرون (( العدالة )) في إطلاق الصحيح ، فإنهم يقولون : رواية مجهول الحال صحيحة كالحسين بن الحسن بن أبان فإنه مجهول الحال نص عليه الحلى في ( المنتهى ) مع أنها مأخوذة في تعريفه . وكذا لا يعتبر عندهم كون الراوى إمامياً في إطلاق الصحيح فقد أهملوا قيود التعريف كلها . وأيضاً قد حكموا بصحة حديث من دعا عليه المعصوم بقول أخزاه الله وقاتله الله ، أو لعنه أو حكم بفساد عقيدته أو أظهر البراءة منه . وحكموا ايضاً بصحة روايات المشبهة والمجسمة ومن جوز البداء عليه تعالى ( 1 ) ، مع أن هذه الأمور كلها مكفرة ، ورواية الكافر غير مقبولة فضلاً عن صحتها ، فالعدالة غير معتبرة عندهم وإن ذكروها في تعريف الصحيح ، لأن الكافر لا يكون عدلاً البتة . وحكموا أيضاً بصحة الحديث الذى وجدوه في الرقاع ( 2 ) التى أظهرها ابن بابويه مدعياً أنها من الأئمة . ورووا عن الخطوط التى يزعمون أنها خطوط الأئمة ويرجحون هذا النوع على الروايات الصحيحة الإسناد عندهم . هذا حال حديثهم الصحيح الذى هو أقوى الأقسام الأخرى وأعلاها .

وأما ( الحسن فهو عندهم ما أتصل رواته بواسطة إمامي ممدوح من غير نص على عدالته ، وعلى هذا فلا يكون المرسل والمنقطع داخلين في تعريف الحسن أيضاً أن إطلاقه عليهما شائع عندهم حيث صرح فقهاؤهم بان رواية زرارة في مفسد الحج إذا قضاه في عام آخر حسن ، مع أنها منقطعة . ويطلقون لفظ الحسن على غير الممدوح حيث قال ابن المطهر الحلى طريق الفقيه

-------------------------

( 1 ) أنظر تعريف البداء في ص 16 و 21 .

( 2 ) لما توفى الحسن العسكرى سنة 260 وهو ابن ثلاثين سنة زعمت الشيعة أن له أبناً في سن الطفولة توارى في سرداب بمدينة سامراء وأنه كىبائه معصوم ومصدر تشريع ، والرقاع أوراق كانوا يكتبون فيها الأشئلة الشرعية ويضعونها ليلاً في ثقب شجرة قريبة من السرداب ، ثم يجدون جوابها في الصباح من الطفل صاحب الزمان بزعمهم . والمظنون ان الذين يجيبون على تلك الرقاع أشخاص أدعوا أنهم ( باب ) صاحب الزمان ، أو لهم عثمان بن سعيد العمرى ، ثم أبنه محمد بن عثمان الذى مات سنة 305 ، قتولى البابية بعده الحسين بن روح النوبختى إلى أن توفى سنة 326 ، فأوصى بالبابية إلى علي بن محمد السمرى فكانت له البابية أو السفارة بين الشيعة والسرداب إلى أن مات السمرى سنة 329 ، وبموته قالوا أنه قد وقعت الغيبة الكبرى لصاحب الزمان . والرقاع المزعومة كثيرة ، منها رقاع على بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، فإنه كان يظهر بين حين وآخر رقعة يزعم أنها بخط الطفل صاحب الزمان في جواب سؤاله ، وأنه حصل عليها من طريق الحسين بن روح على يد علي بن جعفر بن الأسود . ومن الرقاع رقاع محمد بن عبد الله بن حعفر الحميرى القمى ، وقد تكلمنا على الرقاع وقيمتها العلمية في مجلة الفتح العدد 844 الصادر في جمادى الأخرة 1366 .

إلى منذر بن جيفر حسن مع أنه لم يمدحه أحد من هذه الفرقة .

          أما ( الموثق ) ويقال له (( القوى )) أيضاً فكل ما دخل في طريقة من نص الأصحاب على توثيقه ، مع فساد عقيدته وسلامة باقي الطريق عن الضعف ، مع أنهم أطلقوا الموثق أيضاً على طريق الضعيف ، كالخبر الذى رواه السكوني عن أبي عبدالله عن أمير المؤمنين ، وكذا أطلقوا القوى على رواية نوح بن دراج وناجيه ابن عمارة الصيداوى وأحمد بن عبدالله جعفر الحميرى مع أنهم إمامية ولكنهم ليسوا بممدوحين ولا مذمومين .

          أما ( الضعيف ) فكل ما أشتمل طريقة على مجروح بالفسق ونحوه أو مجهول الحال .

وأعلم أن العمل بالصحيح واجب عندهم اتفاقاً ، مع أنهم يرون بعض الأخبار الصحيحة ولا يعلمون بموجبها ، كما روى زرارة عن أبي جعفر قال : إن رسول الله r قال (( أطعموا الجدة السدس ولم يفرض الله لها شيئاً )) وهذا خرق موثق . وروى سعيد ابن أبي خلف عن أبي الحسن الكاظم u قال : سألته عن بنات الابن والجدة فقال (( للجدة السدس ، والباقي لبنات الابن )) وهذا خبر صحيح عندهم ، فهم يقولون ما لا يفعلون .

ثم أعلم أن أكثر علماء الشيعة سابقاً بروايات أصحابهم بدون تحقيق وتفتيش ، ولم يكن فيهم من يميز رجال الإسناد ولا من ألف كتاباً في الحرج والتعديل ، حتى صنف الكشى سنة أربعمائة تقريباً كتابا في أسماء الرجال وأحوال الرواة ، وكان مختصراً جداً لم يزد الناظر فيه إلا تحيراً ، لأنه أورد فيه أخباراً متعارضة في الحرج والتعديل ولم يمكنه ترجيح أحدها على الآخر . ثم تكلم الغضائرى في الضعفاء والنجاشي وأبو جعفر الطوسي في الحرج وصنفوا فيه كتابا طويله ، ولكن أهملوا فيها توجيه التعارض بالمدح والقدح ولم يتيسر لهم ترجيح أحد الطرفين ، ولهذا منع صاحب ( الدراية ) تقليدهم في باب الحرج والتعديل . وفي هذا المقام فوائد تتعلق بالرواة تركناها لطولها ، فراجع الأصل ( تتمة ) . أعلم أن الأدلة عندهم أربعة : كتاب ، وخبر ، وإجماع ، وعقل .

أما ( الكتاب ) فهو القرآن المنزل الذى لم يبق حقيقاً بأن يستدل به بزعمهمم الفاسد ، لأنه لاعتماد على كونه قرآناً إلا إذا أخذ بواسطة الإمام المعصوم ، وليس القرآن المأخوذ من الأئمة موجوداً في أيديهم ، والقرآن المعروف غير معتد به عند أئمتهم بزعمهم ، وأنه لا يليق بلاستدلال به لوجهين : الأول لما روى جماعة من الإمامية عن أئمتهم أن القرآن المنزل وقع فيه تحريف في ملماته عن مواضعها ، بل قد اسقط منه بعض السور ( 1 ) وترتيبه هذا أيضاً غير معتد به لكونه متغيراً عن أصله ، وما هو موجود الآن في ايدى المؤمنين هو مصحف عثمان الذى كتبه وأرسل

----------------------

( 1 ) أنظر ص 30 – 32 .

منه سبع نسخ إلى أطراف العالم وألجأ الناس على قبوله وقراءته على ما رتبه وآذى من خالف ذلك ، فلا يصح التمسك به ولا يعتمد على نظمه من العام والخاص والنص ونحوها ، لأنه يجوز أن يكون هذا القرآن الذى بين ايدينا كله أو أكثره منسوخا بالآيات أو السور التى أسقطت منه أو مخصوصاً بها .

 الثاني أن نقله هذا القرآن مثل ناقلي التوراة والأنجيل ، لأن بعضهم كانوا منافقين كالصحابة العظام والعياذ بالله تعالى ، وبعضهم كانوا مداهنين في الدين كعوام الصحابة فإنهم تبعوا رؤساءهم أى بزعمهم طمعاً في زخارف الدنيا ، فارتدوا عن الدين كلهم إلا أربعة أو ستة ، فغيروا خطاب الله تعالى ، فجعلوا مثلا مكان (( من المرافق )) : (( إلى المرافق )) ومكان (( أئمة هي أزكى )) : (( أمة هي أربى من أمة )) فكما أن التوراة والإنجيل لا يعمل بهما أصلاً فكذلك هذا القرآن ، وكما أن التوراة والإنجيل نسخاً بالقرآن المجيد فكذلك القرآن نسخت أشياء كثيرة منه ولا يعلم نواسخها إلا أئمة الثلاثة .

وأما ( الخبر ) فقد مر بيانه ( 1 ) مفصلاً فتذكر . ثم إن ناقل الخبر إما من الشيعة أو غيرهم ولا أعتبار لغيرهم أصلاً لأن الصدر الأول من غيرهم ( 2 ) الذى هو منتهى الأسانيد كانوا مرتدين ومحرفين كتاب الله تعالى ومعادين أهل بيت النبوة . فلا بد أن يكون من الشيعة وبين الشيعة أختلاف كثير في اصل الإمامية وتعيين الأئمة وعددهم ، ولا يمكن إثبات قول من أقوالهم إلا بالخبر ، لأن كتاب الله تعالى لا اعتماد عليه ، ومع ذلك فهو ساكت عن هذه الأمور ، فلو توقف ثبوت الخبر وحجته على ثبوت ذلك القول لزم الدور الصريح وهو محال .

وأما ( الإجماع ) فباطل أيضاً ، لأن كونه حجة ليس بالأصالة بل لكون قول المعصوم في ضمنه ، فمدار حجيته على قول المعصوم لا على نفس الإجماع ، وثبوت عصمة المعصوم وتعيينه إما بخبره أو بخبر معصوم آخر ، فقد جاء الدور الصريح أيضاً إجماع الصدر الأول والثاني – يعني قبل حدوث الاختلاف في الأمة – غير معتبر ، لأنهم أجمعوا على : خلافة ابي بكر وعمر ، وحرمة المتعة ، وتحريف الكتاب ، ومنع ميراث النبي r ، وغضب فدك من البتول ( 3 ) . وبعد حدوث الاختلاف في الأمة وتفرقهم بفرق مختلفة كيف يتصور الإجماع ، ولا سيما في المسائل الخلافية المحتاجة إلى الإستدلال وإقامة الحجة القاطعة .

 

----------------------------

( 1 ) في ص 32 و 47 – 50 .

( 2 ) أى الصحابة .

( 3 ) لو لم يقل النبي r (( نحن معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة )) لكان ميراثه غير منحصر في البتول بل يشاركها فيه عمه r وأزواجه ومنهن بنت ابي بكر وبنت عمر .

وأما ( العقل ) فهو باطل ايضاً لأن التمسك به إما في الشرعيات أو غيرها ، فإن كان في الشرعيات فلا يصح التمسك به عند هذه الفرقة أصلاً ، لأنهم منكرون اصل القياس ولا يقولون بحجيته . وأما غير الشرعيات فيتوقف العقل على تجريجه عن شوائب الوهم والإلف والعادة والاحتراز عن الخطأ في الترتيب والفكر في صورة الأشكال ، وهذه الأمور لا تحصل إلا بإرشاد إمام ، لأن كل فرقة من طوائف بني أدم يثبتون بعقولهم أشياء وينكرون اشياء اخر ، وهم متخالفون فيما بينهم بالأصول والفروع ، ولا يمكن الترجيح بالعقل فقط ، فالتمسك إذن بقول الإمام ، ومع ذلك لا يمكن إثبات الأمور الدينية بالعقل الصرف لأنه عاجز عن معرفتها تفصيلاً بالإجماع . نعم يمكنه معرفتها إذا كان مستمداً من الشريعة .

 وههنا فائدة جليلة لها مناسبة مع هذا المقام ، وهي أن رسول الله r قال (( إني تارك فيكم الثقلين ، فإن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدى أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله وعترتى أهل بيتى )) وهذا الحديث ثابت عند الفريقين أهل السنة والشيعة  ، وقد علم منه أن رسول الله r أمرنا في المقدمات الدينية والأحكام الشرعية بالتمسك بهذين العظيمى والقدر والرجوع إليهما في كل أمر ، فمن كان مذهبه مخالفاً لهما في الأمور الشرعية اعتقاداً وعملاً فهو ضال ، ومذهبه باطل وفاسد لا يعبأ به . ومن جحد بهما فقد غوى ، ووقع في مهاوى الردى .

وليس المتمسك بهذين الحبلين المتينين إلا أهل السنة ، لأن كتاب الله ساقط عند الشيعة عن درجة الاعتبار كما سبق قريباً بيانه ، وقد روى الكلينى ( 1 ) عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله أن القرآن الذى جاء به جبريل إلى محمد r سبعة عشر الف آية ، وروى عن محمد بن نصر عنه أنه قال كان في ] لم يكن [ أسم سبعين رجلاً من قريش باسمائهم وأسماء أبائهم . وروى عن سالم بن سلمة قال : قرأ رجل على أبي عبد الله وأنا اسمعه حروفاً من القرآن ليس مما يقرأه الناس فقال أبو عبد الله : مه ، واكفف عن هذه القراءة وأقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم أقرأ كتاب الله على حده . وروى الكليني وغيره عن الحكم بن عتيبة قال قرأ على بن الحسين (( وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث )) قال : وكان على بن أبي طالب محدثاً . وروى عن محمد بن الجهم الهلالي وغيره عن أبي عبدالله أن ] أمة هي أربى من امة [ ليس كلام الله ، بل محرف عن موضعه والمنزل (( أئمة هي ازكى من ائمتكم )) وقد تقرر عندهم أن (( سورة الولاية )) سقطت ( 2 ) وكذا أكثر ] سورة الأحزاب [ فإنها كانت مثل ] سورة الأنعام [ فأسقط منها فضائل أهل البيت وأحكام إمامتهم . وأسقط لفظ (( ويلك )) قبل قوله تعالى ] لا تحزن إن الله
--------------------------

( 1 ) الكليني عندهم كالبخارى عند المسلمين . فإذا كانت هذه أكاذيب الكليني ورجاله فكيف برواياتهم الأخرى ‍! .

( 2 ) أنظر ص 30 – 32 .

 معنا ( 1 ) [ وكذا اسقط لفظ (( بعلى بن ابي طالب )) بعد قوله تعالى ] وكفى الله المؤمنين القتال [ وكذا لفظ (( آل محمد )) الواقع بعد (( ظلموا )) من قوله تعالى ] وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون [ إلى غير ذلك من الهذيانات والأقوال الترهات .

          وأما المعتزلة الشريفة فهي إجماع أهل اللغة تقال لأقارب الرجل ، والشيعة ينكرون نسبه بعض العترة كرقية وأم كلثوم ابنتى رسول الله r ، ولا يعدون بعضهم داخلاً العترة كالعباس عم رسول الله r وأولاده وكالزبير بن صفية عمة الرسول r بل يبغضون أكثر أولاد فاطمة رضى الله تعالى عنهم ويسبونهم كزيد بن علي بن الحسين الذى كان عالماً كبيراً متقياً واستشهد على يد المروانية وكذا يحيى ابنه وكذا إبراهيم وجعفر ابنى موسى الكاظم ، ولقبوا الثاني بالكذاب مع أنه كان من كبار أولياء الله تعالى وأخذ منه أبو يزيد البسطامي الطريقة ، وأخذه إياها من جعفر الصادق غلط . ولقبوا أيضاً جعفر بن على أخا الإمام الحسن العسكرى بالكذاب ، ويعتقدون أن الحسن بن الحسن المثني وابنه عبدالله المحض وابنه محمداً الملقب بالنفس الزكية ارتدوا وحاشاهم من كل سوء . وكذلك يعتقدون في إبراهيم بن عبدالله وزكريا بن محمد الباقر ومحمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن ومحمد بن القاسم بن الحسن ويحيى بن عمر الذى كان من أحفاد زيد بن على بن الحسين ، وكذلك يعتقدون في جماعة حسنيين وحسينيين كانوا قائلين بإمامة زيد بن على بن الحسين ، إلى غير ذلك من الأمور الشنيعة التى يعتقدونها في حق العترة المطهرة مما هو مذكور في الأصل ، نعوذ بالله من جميع ذلك ، ونبرأ إليه جل شأنه من سلوك هاتيك المسالك . فقد بان لك أن الدين عند هذه الطائفة الشنيعة قد أنهدم بجميع أركانه وانقض ما تشيد من محكم بنيانه ، حيث أن كتاب الله تعالى قد سبق لك واعتقادهم فيه وعدم اعتمادهم على ظاهره وخافيه ، ولا يمكنهم أيضاً التمسك بالعترة المطهرة بناء على زعمهم الفاسد من أن بعضهم كانوا كفرة ، وسيأتى إن شاء الله تعالى في الأبواب الآتية بيان مخالفتهم للثقلين في كل مسألة من العقائد والفروع بحيث لا يبقى لهم مجال للإنكار ، ولا يجدون سبيلاً للفرار . والله يحق الحق وهو يهدي السبيل .

وأما أحوال رجال أسانيدهم وطبقات أسلافهم ، فأعلم أن أسلاف الشيعة وأصول الضلالات كانوا عدة طبقات :

 

 

 

-----------------------

( 1 ) بل زعم شيطان الطاق الذى يسمونه (( مؤمن آل محمد )) أن الآية كلها ليست من القرآن . أنظر ( الفصل ) لابن حزم 4 : 181 وتعليقنا على ( العواصم من القواصم ) ص 69 .

الطبقة الأولى : هم الذين استفادوا هذا المذهب بلا واسطة ، من رئيس المضلين إبليس اللعين وهؤلاء كانوا منافقين ، جهروا بكلمة الإسلام وأضمروا في بطونهم عداوة أهله ، وتوصلوا بذلك النفاق إلى الدخول في زمرة المسلمين والتمكن من إغوائهم وإيقاع المخالفة والبغض والعناد فيما بينهم ، ومقتداهم على الإطلاق ( عبدالله بن سبأ اليهودي الصنعاني ) الذى كان شراً من أبليس وأعرف منه في الإضلال والتضليل ، وأقدم منه في المخادعة والغرور بل شيخه في المكر والشرور ، وقد مارس زماناً في اليهودية فنون الإغواء والإضلال وسعي مجتهداً في طرق الزور والاحتيال فأضل كثيراً من الناس واستزل جماً غفيراً فأطفأ منهم النبراس ، وطفق يغير عقائد العوام ويموه عليهم الضلالات والأوهام ، فأظهر أولاً محبة كاملة لأهل البيت النبوي ، وحرض الناس على ذلك الأمر العلي ، ثم بين وجوب لزوم جانب الخليفة الحق وأن يؤثر على غيره ، وأن ما عداه من البغاة ، فأستحسنه جم من العوام غفير ، وقبله ناس من الجهلة كثيرون ، فأيقنوا بصلاحه واعتقدوا بإرشاده ونصحه . ثم فرع على ذلك فروعاً فاسدة وجزيئات كاسدة فقال : إن الأمير كرم الله وجهه هو وصى رسول الله r وأفضل الناس بعده وأقربهم إليه ، وأحتج على ذلك بالآيات الواردة في فضائله والآثار المروية في مناقبه ، وضم إليها من موضوعاته وزاد عليها من كلماته وعباراته . فلما رأى أن ذلك الأمر قد أستقر في أذهان أتباعه واستحكمت هذه العقيدة في نفوس أشياعه ألقى إلى بعض هؤلاء ممن يعتمد عليه أن الأمير وصى رسول الله r ، وأن النبي عليه الصلاة والسلام أستخلفه بنص صريح ، وهو قوله تعالى ] إنما وليكم الله ورسوله والذين أمنوا [ الآية ، ولكن الصحابة قد ضيعوا وصيته r وغلبوا الأمير بالمكر والزور وظلموه فعصوا الله ورسوله في ذلك وأرتدوا عن الدين – إلا القليل منهم – محبة في الدنيا وطمعاً في زخارفها . وأستدل على ذلك بما وقع بين فاطمة رضي الله تعالى عنها وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنه في مسألة فدك ( 1 ) إلى أن أنتهى الأمر إلى الصلح ثم أوصى أتباعه بكتمان هذا الأمر وعدم نسبته إليه وقال : لا تظهروا للناس أنكم أتباعي لأن غرضي إظهار الحق والهداية إلى الطريق المستقيم دون الجاه والشهرة عند الناس . فمن تلك الوسوسة ظهر القيل والقال ووقع بين المسلمين التفرق والجدال ، وأنتشر سب الصحابة الكرام وذاع الطعن فيهم من أولئك الطغام ، حتى إن الأمير كرم الله تعالى وجهه قد خطب فوق المنبر خطباً في ذم هؤلاء القوم وأظهر البراءة منهم وأوعد بعضهم بالضرب والجلد . فلما رأى ابن سبأ أن سهمه هذا أيضاً قد اصاب هدفاً وأختلت بذلك عقائد أكثر المسلمين أختار أخص الخواص من أتباعه وألقى إليهم أمراً أدهى من الأول وأمر ، وذلك بعد أن    

----------------------

( 1 ) أنظر لمسألة فدك وميراث الرسول r تعليقاتنا على كتاب ( العواصم من القواصم ) ص 48 – 50 .

أخذ عليهم ميثاقاً غليظاً أن الأمير كرم الله تعالى وجهه يصدر منه مالا يقدر عليه البشر من قلب العيان ، والأخبار المغيبات ، وإحياء الموتى ، وبيان الحقائق الإلهية والكونية ، وفصاحة الكلام ، والتقوى ، والشجاعة ، الكرم ، إلى غير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، فهل تعلمون منشأ هذه الأمور ؟ فلما أظهروا العجز عن ذلك قال لهم : إن هذه كلها من خواص الألوهية التى تظهر في بعض المظاهر ويتجلى اللاهوت في كسوة مثل أنا حي لا يموت أنا باعث من في القبور أنا مقيم الساعة ونحوها مما صدر عنه رضي الله تعالى عنه في غلبة الحال كما هو شأن أولياء الله ( 1 ) فلما وصلت هذه المقالة إلى حضرة الأمير كرم الله تعالى وجهه أهدر دماء تلك الطائفة وتوعدهم بالإحراق في النار وأستتابهم فأجلاهم إلى المدائن ، فلما وصلوا إليها أشاعوا تلك المقالة الشنيعة . وأرسل ابن سبأ بعض أتباعه إلى العراق وأذربيجان ، ولما لم يستأصلهم الأمير كرم الله تعالى وجهه بسبب أشتغاله بما هو أهم من ذلك من محاربة البغاة ومهمات الخلافة راج مذهبه واشتهر وذاع وأنتشر ، فقد بدأ أولاً بتفضيل الأمير ، وثانياُ بتكفير الصحابة ، وثالثاً بألوهية الأمير ودعا الناس على حسب أستعدادهم ، وربط رقاب كل من كان أتباعه من حبال الغواية ، فهو قدوة لجميع الفرق الرافضة ، وإن كان أكثر أتباعه وأشياعه من تلك الفرق يذكرونه بالسوء لكونه قائلاً بألوهية الأمير ويعتقدون أنه مقتدى الغلاة فقط ، ولذا ترى أخلاق اليهود وطبائعهم موجودة في جميع فرق الشيعة ، وذلك مثل الكذب ، والبهتان ، وسب أصحاب الرسول وكبار أئمة الدين وحملة كلام الله وكلام الرسول ، وحمل كلام الله والأحاديث على غير ظاهرها ، وكتم عداوة أهل الحق في القلب ، وإظهار التملق خوفاً وطمعاً ، وأتخاذ النفاق شعاراً ودثاراً ، وعد التقية من أركان الدين ، ووضع الرقاع ونسبتها إلى النبي والأئمة ( 2 ) ، وإبطال الحق وإحقاق الباطل لأغراض دنيوية . وهذا الذى ذكر قطرة من بحر وذرة من جبل . وإذا تفكرت في سورة البقرة وحفظت ما ذكر الله تعالى فيها من صفات اليهود الذميمة ترى جميعها مطابقة لصفات هذه الفرقة مطابقة النعل بالنعل .

 

 

--------------------------

( 1 ) لم يثبت بالطرق العلمية والتاريخية صدور هذه الكلمات عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه . ولم ينقلها عنه راو تقبل روايته . وأولياء الله هم القائمون بنصر الله لأن الولاية هي النصرة . والذى يدعى صفات الله يعد من أعداء الله لا من أوليائه ، وسخافات الشطح لم تكن معروفة في عصر الصحابة ولا صدرت عن أحد منهم .

( 2 ) أنظر لمسألة الرقاع ص 48 .

الطبقة الثانية :  : جماعة ممن ضعف إيمانهم من أهل النفاق ، وهم قتلة عثمان ( 1 ) واتباع عبد الله بن سبأ الذين كانوا يسبون الصحابة الكرام ، وهم الذين أنخرطوا في عسكر الأمير وعدوا أنفسهم من شيعته خوفاً من عاقبة ما صدر منهم من تلك الجنابة العظمى ، وبعض منهم تشبثوا بأذيال الأمير طمعاً في المناصب العالية ورفعة المراتب فحصل لهم بذلك مزيد الأمنية وكمال الطمأنينة ، ومع ذلك فقد أظهروا للأمير كرم الله تعالى وجهه ما أنطووا عليه من اللؤم والخبائث فلم يجيبوا لدعوته وأصروا على مخالفته ، وظهرت منهم الخيانة على ما نصبوا عليه ، وأستطالت أيديهم على عباد الله وأكل أموالهم ، وأطالوا ألسنتهم في الطعن على الصحابة . وهذه الفرقة هم رؤساء الرافض وأسلافهم ومسلمو الثبوت عندهم . فإنهم وضعوا بناء دينهم وإيمانهم في تلك الطبقة على رواية هؤلاء الفساق المنافقين ومنقولاتهم ، فلذا كثرت روايات هذه الفرقة عن الأمير كرم الله تعالى وجهه بواسطة هؤلاء الرجال . وقد ذكر المؤرخون سبب دخول أولئك المنافقين في هذا الباب ، وقالوا إنهم قبل وقوع التحكيم كانوا مغلوبين لكثرة الشيعة الأولى في عسكر الأمير وتغلبهم ( 2 ) ولما وقع التحكيم ( 3 ) وحصل اليأس من انتظام أمور الخلافة وكادت المدة المعينة للخلافة تتم وتنقرض وتخلفها نوبة العضوض رجع الشيعة الأولى من دومة الجندل التى كانت محل التحكيم إلى أوطانهم لحصول اليأس من نصرة الدين وشرعوا بتأييده بترويج أحكام الشرعية والإرشاد ورواية الأحاديث وتفسير القرآن المجيد ، كما أن الأمير كرم الله تعالى وجهه دخل الكوفة وأشتغل بمثل هذه الأمور ، ولم يبق في ركاب الأمير إذ ذاك من الشيعة الأولى إلا القليل ممن كانت له في دار الكوفة . فلما رأت هاتيك الفرقة الضالة المجال في إظهار ضلالتهم أظهروا ما كانوا يخفونه من إساءة الأدب في حق الأمير وسب أصحابه وأتباعه الأحياء منهم والأموات . ومع هذا كان لهم طمع في المناصب أيضاً لأن العراق وخراسان وفارس والبلاد الأخرى الواقعة في تلك الأطراف كانت باقية بعد في تصرف الأمير وحكومته ، والأمير كرم الله تعالى وجهه عاملهم ، كما عاملوه ، كما وقع ذلك لموسى u ، ولنبينا عليه الصلاة والسلام .مع المنافقين . ولما كانت الروايات من أهل السنة في هذا الباب غير معتد بها مزيد عداوتهم لفرق الشيعة على زعمهم ، وجب النقل من كتب الشيعة المعتبرة مما صنفه الإمامية والزيدية . وقد سبق في اول الكتاب عند

 

-----------------------

( 1 ) أنظر لقتلة عثمان تعليقنا على ( العواصم من القواصم ) ص 58 ، 59 ، 111 ، 128 ، 132 ، 146 ، 150 – 159 ، 164 – 166 ، 168 ، 170 .

( 2 ) تقدم وصفة الشيعة الأولى في أول الكتاب ص 3 .

( 3 ) أصدق تقرير لوقائع التحكيم ما رواه الدارقطني من حديث أبي يوسف الفلوسى عن ألأسود بن شيبان عن عبدالله بن مضارب عن حضين بن المنذر أحد اصحاب على كرم الله تعالى وجهه ، أنظره في ( العواصم من القواصم ) ص 178 – 179 . وأنظر الفصل كله بتعليقاته من ص 172 إلى 181 وفيه تصحيح تاريخ الإسلام . 

ذكر الفرقة السبيئة ( 1 ) خطبة منقولة عن الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة لزيدى المذكورة في آخر كتابه المسمى ( طوق الحمامة في مباحث الإمامة ) فلا حاجة بنا إلى إعادتها . ولما نعى الأمير بخبر قتل محمد بن أبي بكر في مصر كتب كتاباً إلى عبد الله بن عباس ، فإنه كان حينئذ عامل البصرة ، وهو كما هو مذكور في كتاب ( نهج البلاغة ) الذى هو عند الشيعة أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى ( 2 ) :

          (( أما بعد فإن مصر قد أفتتحت ، ومحمد ابن أبي بكر قد أستشهد ، فعند الله يحتسبه ولداً ناصحاً وعاملاً كادحاً وسيفاً قاطعاً وركناً دافعاً . وكنت قد حثثت الناس على لحاقه ، وأمرتهم بغياثة قبل الوقعة ، ودعوتهم سراً وجهراً وعوداً وبدءاً ، فمنهم الآتى كارهاً ومنهم المتعلل كاذباً ، ومنهم القاعد خاذلاً . أسأل الله تعالى أن يجعل لى منهم فرجاً عاجلاً . فوالله لولا طمعى عند لقاء العدو في الشهادة ، وتوطيني نفسى على المنية ، لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً ولا ألتقى بهم أبداً )) .

          وكذا لما اخبر بقدوم سفيان بن عوف الذى كان من بنى غامد وأمير أمراء معاوية وركبانه ببلد الأنبار وقتلهم أهله ، خطب خطبة مندرجة فيها هذه العبارة المشيرة للإرشاد وهي : (( والله يميت القلب ويجلب الهم ما نرى من إجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم ، فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى : يغار عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ، ويعصى الله وترضون . فإذا أمرتكم بالمسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارة القيظ أمهلنا حتى ينسلخ عنا الحر . وإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام البرد فلتم هذه صبارة القر أمهلنا حتى ينسلخ عنا البرد . كل هذا فراراً من الحر والقر ، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر ، يا أشباه الرجال ولا رجال ، لكم حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال ، لوددت أنى لم أركم ولم أعرفكم ، معرفة والله جرت ندماً ، وأعقبت سدماً )) . وأيضاً يقول في هذه الخطبة : قاتلكم الله ، لقد ملأتم قلبي قيحاً ، وشحنتم صدرى غيظاً ، وجرعتموني نغب التهمام انفاساً . فأفسدتم على رأيي بالخذلان والعصيان ، حتى قالت قريش : إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب . لله أبوهم ، وهل أحد أشد لها مراساً وأقدم فيها مقاماً منى ، حتى لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا ذا ذرفت على الستين ، ولكن لا أرى لمن لا يطاع )) .

--------------------------

( 1 ) في ص 6 .

( 2 ) بل إن النصوص المأثورة عن علمائهم ودعاتهم ، والروايات التى أخترعوها وأثبتوها في كتبهم تدل على أنهم ينفون صحة كتاب الله تعالى ، فلم يبق لهم إلا نهج البلاغة الذى في ألفه لهم الشريف الرضى وأعانه عليه أخوه المرتضى ، وطريقتهما في تأليفه أن يعمدا إلى الخطبة القصيرة المأثورة عن أمير المؤمنين فيزيد أن عليها من هوى الشيعة ما تواتيهما عليه القريحة من ذم إخوانه الصحابة أو غير ذلك من أهوائهم . وإن الصحيح من كلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة قد يبلغ عشره أو نصف عشره . والباقى من كلام الرضى والمرتضى .

ويقول في خطبة أخرى : (( أيها الناس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم كلامكم يوهى الصم الصلاب ، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء . تقولون في المجالس كيت وكيت ، فإذا حضر القتال قلتم حيدى حياد ( 1 ) . ما عزت دعوة من دعاكم ، ولا أسترح قلب من قاساكم . أعاليل بأضاليل )) إلخ .

ويقول : (( المغرور والله من غررتموه ، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب . ومن رمى بكم فقد رمى بافوق ناصل . أصبحت والله لا أصدق قولكم ، ولا اطمع في نصركم ، ولا أوعد العدو
بكم )) .

وأيضاً يقول في خطبة أخرى إذ استنفر الناس إلى أهل الشام : (( أف لكم ، لقد سئمت عتابكم ، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً ، وبالذل من العز خلفاً ؟ إذا دعوتكم إلى جهاد أعدائكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة ، ومن الذهول في سكرة ، يرتج عليكم حواري فتعمون ، وكأن قلوبكم مألوسة ( 2 ) فانتم لا تعقلون ، ما أنتم لى بثقة سجيس الليالى ، وما أنتم بركن يمال بكم ، ولا زوافر عز يفتقر إليكم ، وما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها ، فكلما جمعت من جانب أنتشرت من جانب آخر ، وبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم ، تكادون ولا تكيدون ، وتنقص أطرافكم ولا تمتعضون ، ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون )) .

وأيضاً يقول في خطبة أخرى (( منيت بمن لا يطيع إذا أمرت ، ولا يجيب إذا دعوت . لا أبالكم ، ما تنظرون بنصركم ربكم ؟ لا دين يجمعكم ولا حمية تحشمكم . أقوم فيكم مستصرخاً ، وأناديكم متغوثاً ، فلا تسمعون لى قولاً ، ولا تطيعون لى أمراً ، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة ، فما يدرك بكم ثأر ، ولا يبلغ منكم مرام . دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر ، وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر . ثم خرج إلى منكم جنيد متدائب ضعيف ] كأنما يساقون إلى الموت وهو ينظرون [ .

وايضاً يقول في ذم هؤلاء الفرقة : كم أدار يكم كما تدارى البكار العمدة ( 3 ) والثياب المتداعية إن حيضت من جانب تهتكت من جانب آخر ، وكلما أطل عليكم منسر من ناسر الشام ( 4 ) أغلق كل رجل منكم بابه وأنحجر أنحجار الضبة في جحرها والضبع في وجارها لكثير في الباحات ، قليل تحت الرايات .

   وهذه الخطبة كلها ذكرها الرضى في نهج البلاغة ، وغيره من الإمامية أيضاً رووها في كتبهم .

----------------------

( 1 ) (( حيدى حياد )) كلمة تقولها العرب عند الفرار .

( 2 ) أى مصابة بالألس ، وهو الذهول واختلاط العقل .

( 3 ) البكار جمع البكر : الفتى من الأبل . والعمدة بكسر الميم : التى ورم داخل سنامها من الركوب وظاهرة سليم .

( 4 ) أى جيش من جيوشهم .

          وقال على بن موسى بن طاوس سبط محمد بن الحسن الطوسى شيخ الطائفة : إن امير المؤمنين كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة ، فما أجابه إلا رجلان ، فيتنفس الصعداء وقال : أين يقعان ! ثم قال ابن طاوس : إن هؤلاء خذلوه مع أعتقادهم فرض طاعته وأنه صاحب الحق ،وأن الذين ينازعونه على الباطل . وكان u يداريهم ولكن لا تجديه المداراة نفعاً . وقد سمع قوماً من هؤلاء ينالون منه في مسجد الكوفة ويستخفون به فاخذ بعضادتى الباب وأنشد متمثلاً :

          هنيئاً مريئـاً غيـر داء مخامـر             لعزة من أعراضنا ما أستحلت

فيئس منهم كلهم ، ودعا على هؤلاء الذين يدعون أنهم شيعة بقوله (( قاتلكم الله وقبحاً لكم وترحاً )) ونحوها . وكذا حلف على ان لا يصدق قولهم أبداً . ووصفهم في مواضيع كثيرة بالعصيان لأوامره وعدم أستماعهم وقبولهم لكلامه ، وأظهر البراءة من رؤيتهم . وهؤلاء لم يكن لهم وظيفة سوى الحط على حضرة الأمير كرم الله تعالى وجهه وذمهم له وحاشاه . وقد علم أيضاً أن شيعة ذلك الوقت كانوا كلهم مشتركين الأحوال ، وداخلين في هذه المساوئ إلا رجلين منهم ، فإذا كان حال الصدر الأول والقرن الأفضل الذين هم قدوة لمن خلفهم من بعدهم وأسوة لأتباعهم ما سمعت ذكره ، فكيف بأتباعهم ! فويل لهم ما يكسبون …

الطبقة الثالثة : هم الذى تبعوا السيد المجتبى السبط الأكبر وقرة عين التبول الإمام الحسن رضي الله تعالى عنه ، بعد شهادة الأمير كرم الله تعالى وجهه ، وبايعه منهم قدر أربعين ألفاً على الموت ، ورغبوه في قتال معاوية وخرجوا إلى خارج الكوفة ، وكان قصدهم إيقاعه في ورطة الهلاك ، وقد أزعجوه في اثناء الطريق بطلب وظائفهم منه ، وظهر منهم في حقه من سوء الأدب ما ظهر ، كما فعل المختار الثقفى من جر مصلاه من تحت قدمه المباركة ، وهو الذى كان يعد نفسه من اخص شيعته ، وكطعن آخر بالسنان فخذ الإمام رضي الله تعالى عنه حتى تألم منه ألماً شديداً . فلما قامت الحرب على ساق وتحققت المقاتلة ، رغبوا إلى معاوية لدنياه ، وتركوا نصرة الإمام ، مع أنهم كانوا يدعون أنهم من شيعته المخصوصين ، وشيعة أبيه ، وأنهم احدثوا مذهب التشيع وأسسوه . ذكر ذلك السيد المرتضى في كتابه ( تنزيه الأنبياء والأئمة ) عند ذكر عذر الإمام الحسن عن صلح معاوية وخلع نفسه من الخلافة وتفويضها إليه . وذكر أيضاً نقلاً عن كتاب ( الفصول ) للإمامية أن رؤساء هذه الجماعة كانوا يكاتبون معاوية خفياً على الخروج للمحاربة مع الإمام ، بل بعضهم أراد الفتك به رضي الله تعالى عنه . فلما تحققت هذه الأمور عنده رضي بالصلح مع معاوية وخلع الخلافة عن نفسه .

الطبقة الرابعة : هم أكثر أهل الكوفة الذين طلبوا حضرة البسط الأصغر وريحانة سيد البشر الإمام الحسين رضي الله تعالى عنه ، وكتبوا إليه كتباً عديدة في توجيه إلى طرفهم ، فلما قرب من ديارهم مع الأهل والأقارب والأصحاب وأخذت الأعداء تؤجج نيران الحرب في مقابلته ، تركه أولئك الكذابون وتقاعدوا عن نصرته وإعانته ، مع كثرة عدد الأعداء وقوة شوكتهم . بل رجع اكثرهم مع الأعداء خوفاً وطمعاً ، وصاروا سبباً لشهادته وشهادة كثير ممن معه وآذوه أكثر مما آذى المشركون الأنبياء ، حتى مات الأطفال والصبيان الرضع من شدة العطش ، وأعروا ذوات الخدر والمستورات بالحجب من بيت النبوة وأطافوهم في البلاد والقرى والبوادى ، وقد نشا ذلك من غدرهم وعدم وفائهم ومخادعتهم ] وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون [ .

الطبقة الخامسة : هو الذين كانوا في زمن استيلاء المختار على العراق والبلاد الأخر من تلك الأقطار ، وكانوا معرضين عن الإمام السجاد لمافقته المختار ، وينطقون بكلمة محمد بن الحنفية ويعتقدون إمامته ، مع أنه لم يكن من أولاد الرسول ولم يقم دليل على إمامته . وهذه الفرقة قد خرجت في آخر الأمر على الدين وحادت عن جادة المسلمين بما قالوا من نبوة المختار ونزول الوحي إليه .

الطبقة السادسة : هم الذين حملوا زيداً الشهيد على الخروج ، وتعهدوا بنصرته وإعانته ، فلما جد الآمر وحان القتال أنكروا إمامته بسبب أنه لم يتبرأ من الخلفاء الثلاثة ، فتركوه في أيدى العداء ودخلوا به الكوفة فأستشهد وعاد رزء الحسين ، وكنا بواحد فصرنا باثنين ، ولبئس ما صنعوا معه ، ولو فرضنا أنه لم يكن إماماً أفلم يكن من أولاد الإمام ، مع أن من علم صحة نسبه وإن كان من العصاة يجب على الأمة إعانته ونصرته ولا سيما إذا كان على الحق ، ولم يلزمه من عدم التبرى ذنب ولم تلحقه منه نقيصة . وقد نقل الكشى روايات صحيحة عن الأئمة الأطهار تدل على أن نسب الخلفاء الثلاثة لا يحتاج إليه في النجاة ودخول الجنة ، وقد كان مظلوماً وإعانة المظلوم واجبة وفرض عين مع القدرة عليها .

الطبقة السابعة : هم الذين كانوا يدعون صحة الإئمة والأخذ عنهم ، مع أن الأئمة كانوا يكفرونهم ويكذبونهم . ولنذكر لك نبذة يسيرة من عقائد أسلافهم حيث أن هذا الكتاب لا يسع على سبيل الاستقصاء ، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله . فنقول : إن منهم من كان يعتقد أن الله تعالى جسم دو أبعاد ثلاثة ، كالهشامين ( 1 )

 

--------------------------

( 1 ) هما هشام بن الحكم مولى كندة أتفق الشيعة الأثنا عشرية على وثاقته مع ما ترى من كفر وإلحاد ، وهشام بن يالم الجواليقى مولى بشر بن مروان يقول عنه علماء الحرج والتعديل من الشيعة : إنه ثقة ثقة .

وشيطان الطاق ( 1 ) والميثمى ( 3 ) ، وذكر ذلك الكليني في الكافى . ومنهم من أثبت له صورة جل شانه كهشام بن الحكم وشيطان الطاق .

ومنهم من أعتقد أن الله تعالى مجوف من الرأس إلى السرة ، ومنها إلى القدم مصمت ، كهشام بن سالم والمثيمى . ومنهم من أعتقد أنه عز أسمه لم يكن عالماً في الأزل كزرارة بن أعين وبكير أعين ( 3 ) وسليمان الجعفرى ومحمد بن مسلم الطلحان وغيرهم . ومنهم من أثبت له تعالى مكاناً وحيزاً وجهه وهو الأكثرون منهم .

ومنهم من كفر بالله تعالى فلم يعتقد بالصانع القديم ولا بالأنبياء . ولا بالبعث والمعاد كديك الجن الشاعر وغيره .

ومنهم من كان من النصارى ويعلن بذلك جهاراً ويتربي بزيهم ، ومع ذلك لم يترك صحبة قومة كزكريا بن أبراهيم النصراني ( 4 ) الذى روى عنه شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسى في كتابه
( التهذيب ) ومنهم من قال في حقهم اٌلإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : يروون عنا الأكاديب ويفترون علينا أهل البيت كالتبيان ( 5 ) المكنى بأبي أحمد .

ومنهم من حذر الأئمة الناس منهم وهم نقلة الأخبار ورواة الآثار عن الأئمة العظام ، روى الكلينى عن إبراهيم بن محمد الخراز ومحمد بن الحسين قالا دخلنا على أبي الحسن الرضا فقلنا : إن هشام بن سالم والمثيمى وصاحب الطاق يقولون إن الله تعالى أجوف من الرأس إلى السرة والباقة مصمت ! فخر لله ساجداً ثم قال (( سبحانك ، ما عرفوك ولا وحدوك ، فمن أجل ذلك وصفوك )) وقد دعا الإمام الصداق على هؤلاء المذكورين وعلى زرارة بن أعين فقال : أخزاهم الله . وروى الكلينى أيضاً عن على بن حمزة قال قلت لأبي عبد الله u : سمعت هشام بن الحكم يروى عنكم أن الله جسم صمدى نورى معرفته ضرورية يمن بها على من يشاء من عباده . فقال : سبحان من لا يعلم أحد كيف هو ، ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ، ولا يحد ولا يحسن ولا يحيط به شئ ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد .

ومنهم من كان منكراً لموت الإمام الصادق معتقدين بانه هو المهدى الموعود به وينكرون إمامة الأئمة الباقين . وأكثر رواة الإمامية كانوا واقفيه كما لا يخفى على من راجع أسماء رجالهم حيث يقولون في مواضع شتى : إن فلاناً كان من الواقفيه . فهاتان الفرقتان منكرتان لعدد الأئمة          

--------------------------

( 1 ) تقدم ذكره في هامش ص 16 و 53 .

( 2 ) هو على بن مثيم أحد علمائهم في الكلام ويزعمون أنه اعرفهم باخبار الأئمة كان معاصراً للمأمون والمعتصم وسيأتى بعض كفره وإلحاده .

( 3 ) كانا حفيدين لقسيس نصراني أسمه سنسن في بلد الروم .

( 4 ) هو زكريا بن إبراهيم الحيرى الكوفي .

( 5 ) هو بنان التبان .. كان يقول في تفسير آية ] وهو الذى في السماء إله وفي  الأرض إله [ إن إله الأرض غير إله السماء .

وتعيين أشخاصهم ، ومنكر الإمامة عند الشيعة كمنكر النبوة كافر ، ومع هذا يروى علماء الشيعة في صحاحهم .

ومنهم من لم يعلم إمام وقته وقضى عمره في التردد والتحير ، فدخل في هذا الوعيد (( من مات ولم يعرف إمام زمنه مات ميتة جاهلية )) كالحسن بن سماعة [ بن مهران ] وابن فضال وعمرو بن سعيد وغيرهم من رواة الأخبار .

ومنهم من أخترع الكذب وأصر على ذلك كأبي عمرو بن خرقة البصري ( 1 ) .

      ومنهم من طرده الإمام جعفر الصادق عن مجلسه ثم لم يجوز له مجيئه إليه كابن مسكان ( 2 )

ومنهم من أقر بكذبه كابي بصير ( 3 ) .

ومنهم من كان من البدائية الغالية كدرام بن الحكم وزياد ابن الصلت وابن هلال الجهمي وزرارة بن سالم .

ومنهم من كان يكذب بعضهم بعضاً في الرواية كالهاشمين وصاحب الطاق والمثيمى .

وأعلم أن جميع فرق الشيعة أخذ علومهم من أهل البيت ، وتنسب كل فرقة منهم إلى إمام أو أبن إمام ، ويروون عنهم أصول مذاهبهم وفروعه ، ومع ذلك يكذب بعضهم بعضاً ويضل أحدهم الآخر مع ما بينهم من التناقض في الأعتقادات ولا سيما في ألإمامة ، فذلك أوضح دليل واقوى برهان على كذب تلك الفرق كلها . وذلك لأن هذه الروايات المختلفة والأخبار المتناقضة لا يمكن ورودها من بيت واحد وإلا يلزم كذب بعضهم ، وقد قال تعالى ] لإنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً [ وقد علم ايضاً من التواريخ وغيرها أن أهل البيت ولا سيما الأطهار من خيار خلق الله تعالى بعد النبيين وأفضل سائر عبداه المخلصين والمقتفين لآثار جدهم سيد المرسلين ، فلا يمكن صدور الكذب عنهم ، فعلم أنهم بريئون مما ترونه عنهم تلك الفرق المضلة بعضهم بعضاً ، بل قد وضعها كل فرقة من هذه الفرق ترويحاً لمذهبهم . ولذا وقع فيها التخالف . قال تعالى ] ولو كان من عند الله لوجدوا فيه أختلافاً كثيراً [ .

 

 

---------------------

( 1 ) هو محمد بن محمد بن النضر السكوني البصري عدة نحريرهم عبد النبي في كتابه (( حاوى الأقوال )) مرة في الضعفاء . ومرة في الثقات . ولما كان رجال الجرح والتعديل منهم لا يبالون بكذب رواتهم فغنهم يسكتون عن إعلان ضعف الضعيف بسبب كذبه لأن الكذب ليس عندهم من اسباب الحرج .

( 2 ) هو عبدالله بن مسكان الكوفي مولى عنزه . زعموا أنه كان لا يدخل على الإمام جعفر الصادق شفقة أن لا يوافيه حق إجلاله ! .

( 3 ) في رجالهم أكثر من واحد كنيتهم  (( أبو بصير )) منهم عبدالله بن محمد الأسدى وليث ابن البخترى المرادى . وقد قال علماؤهم في الحرج والتعديل : كان الإمام جعفر الصادق يتضجر من أبي بصير ليث بن البخترى ويتبرم ، وإصحابه مختلفون في شأنه . قال ابن الغضائرى الشيعي : وعندي أن الطعن وقع على دين ليث لأعلى حديثه ، وهو عندى ثقة ، قالوا : إن الطعن في دينه لا يوجب الطعن ! .

وأما الاختلاف الواقع عند أهل السنة فليس كذلك لوجهين :

الأول : أنه أختلاف اجتهادي ، فإنهم يعلمون من زمن الصحابة إلى زمن الفقهاء الأربعة أن كل عالم مجتهد ويجوز للمجتهد العمل برأيه المستنبط من دلائل الشرع فيما ليس فيه نص . وأختلاف الأراء طبيعي لنوع الإنسان ، وليس ذلك أختلاف الرواية حتى يدل على الكذب والآفتراء .

الثاني : أن أختلافهم كان في فروع الفقه لا في أصول الدين ، وأختلاف الفروع للأجتهاد جائز فلا يكون دليلاً لبطلان المذهب ، وذلك كاختلاف المجتهدين من الإمامية في المسائل الفقهية كطهارة الخمر ونجاسته وتجويز الوضوء بماء الورد وعدمه .

ولننبهك على كيفية أخذ الشيعة من أهل البيت ، فأعلم أن الغلاة – وهم اقدم من جميع الفرق الشيعية واضلهم – قد أخذوا مذهبهم عن عبدالله بن سبا حيث موه عليهم قصداً لإضلالهم أنه أخذ ذلك عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ، وزعمت المختارية والكيسانية أنهم قد أخذوه عن الأمير والمحسنين وعن محمد بن على وعن ابي هاشم ابنه ، والزيدية عن الأمير والحسنين ، وزين العابدين وزيد بن على ويحيى بن زيد ، والباقرية عن خمسة أعنى الأمير إلى الباقر ، والناووسية عن هؤلاء الخمسة والإمام الصادق ، والمباركة عن هؤلاء الستة وإسماعيل بن جعفر ، والقرامطة عن هؤلاء السبعة ومحمد بن إسماعيل ، والشميطية عن هؤلاء الثمانية ومحمد بن جعفر وموسى وعبد الله وإسحاق أبناء جعفر ، والمهدية عن أثنين وعشرين وهم كانوا يعتقدون أن جميع سلاطين مصر والمغرب الذين خلوا من نسل محمد الملقب بالمهدي ( 1 ) أئمة معصومون ، ويزعمون ان العلم المحيط بجميع الأشياء كان حاصلاً لهم ، وهؤلاء السلاطين أيضاً كانوا يدعون ذلك كما تشهد لذلك تواريخ مصر والمغرب . والنزارية عن ثمانية عشر أولهم أمير المؤمنين وآخرهم المستنصر بالله ، والإمامية الأثنا عشرية عن أثنى عشر أولهم الأمير وأخرهم الإمام محمد المهدي ( 2 ) ولا حد لعلمائهم في الكثرة ، وقدمائهم المشاهير سليم بن قيس الهلالي ، أبان [ بن تغلب ] وهشام بن سالم ، وصاحب الطاق ، أبو الأحوص [ داود ابن أسد ، وعلى بن منصور ، وعلى بن جعفر ، وبيان بن سمعان المكنى بأبي أحمد المشهور بالجزرى ، وابن أبي عمير [ محمد بن زياد الأزدى ] ، وعبد بن المغيرة [ البجلى ] ، والنصرى [ وأسمه الحارث بن المغيرة ] ، وأبو البصير ( 3 ) ، ومحمد بن حكيم ، ومحمد بن فرج الرخجي ، وإبراهيم [ بن سليمان ] الخزاز ،

-----------------------------

( 1 ) انظر في هامش ص 18 تحقيق الدكتور برنارد لويس في كتابه (( أصول الإسماعيلية )) عن النكاح الروحاني والأبوة الروحانية وأن العبيديين سلالة المهدى ينتسبون إلى إسماعيل بالأبوة الروحانية ، لا بأبوة الدم الحقيقية .

( 2 ) الذى زعموا انه أختفى صغيراص في سرداب سامراء ويدعون الله بأن يعجل فرجه .

( 3 ) أنظر هامش ص 65 .

ومحمد بن الحسين ، وسليمان [ بن جعفر ] الجعفرى ، ومحمد بن مسلم [ الطحان ] ، وبكير بن أعين ، وزرارة بن أعين وعلي وهؤلاء الثلاثة بنو فضال وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي ، يونس بن عبد الرحمن القمي ، أيوب بن نوح [ النخعى ] ، وحسن بن العباس بن الحريش [ الرازى ] ، وأحمد بن أسحاق ، وجابر الجعفى ( 1 ) ، ومحمد بن جمهور العمى ، والحسين بن سعيد [ الأهوازى ] ، وعبدالله وعبيد الله ومحمد وعمران وعبد الأعلى كلهم بنو علي بن أبي شعبة وأولادهم وجدهم .

وأما المصنفون من الأثني عشرية فصاحب ( معالم الأصول ) فخر المحققين [ محمد بن الحسن ابن مطهر الحلى ] ، ومحمد بن على الطرازى ، ومحمد بن عمر الجعابى ، وابو الفتح محمد بن على الكراجكى و [ إبراهيم بن على ] الكفعمى ، وجلال الدين حسن بن أحمد شيخ الشيخ المقتول ، ومحمد بن الحسن الصفار ، وأمان بن بشر البغال ، وعبيد بن عبد الرحمن الخشعى ، وفضل بن شاذان القمى ، ومحمد بن يعقوب الكلينى الرازى ، وعلى [ بن الحسين ] بن بابويه القمى ، والحسين أبنه ايضاً .

وهذا القمى غير القمى الذى أستشهد به الإمام البخارى في رواية حديث (( الشفاء في ثلاث : شرطه محجم ، وشربة عسل ، وكية بنار )) وذلك في كتاب الطب من صحيحه وقال : رواة القمى عن ليث عن مجاهد في سند الحديث . لأن بابويه القمى الرافضي من أهل القرن الرابع وليث من أهل القرن الثاني فلا يمكن أن يرى ليثاً ويروى عنه ، ولو حملنا كلمة (( رواه عن ليث )) على الإرسال بالواسطة دون الإتصال مع خلاف دأب البخارى ومتعارفه فكيف نستشهد به مع أنه متأخر عن البخارى بزمن طويل . ولنعم ما قيل في تاريخ ولادة البخارى رضي الله تعالى عنه ومدة عمره:

جمع الصحيح مكمل التحرير
فيها (( حميد 62 )) وأنقضى في (( نور 256 ))

 

كان البخارى حافظاً ومحدثاً
ميلاده (( صدق 194 )) ومدة عمره

وهذه جملة وقعت في البين لا تخلو عن فائدة :

ولنرجع إلى عد بقية مصنفيهم فمنهم : عبيد الله بن علي الحلبي ، وعلى بن مهزيار الهوازي ، وسلار [ حمزة بن عبدالعزيز اليلمى الطبرستاني ] ، وعلى بن إبراهيم [ بن هاشم ] القمى ، وابن براج [ عبدالعزيز بن تحرير ] ، وابن زهرة [ حمزة بن علي ] ، وابن أدريس المفترى على الشافعي المشهور ، والذى جرأه على ذلك مشاركته له في الكنية ، ومعين الدين المصرى ،
------------------------

( 1 ) أنظر أقوال ائمة السنة عنه في مقالتنا (( تسامح أهل السنة في الرواية عمن يخالفونهم في العقيدة )) بمجلة الأزهر م 24 ج 3 ربيع الأول 1372 ص 306 – 307 .

وابن جنيد ، وحمزة أبو الصلاح ، وابن المشرعة الواسطى وابن عقيل والغضائرى والكشى والنجاشى والملاحيدر العاملى والبرقى ومحمد بن جرير الطبرى الآملى ( 1 ) وابن هشام الديلمى ، ورجب بن محمد بن رجب البرسى ، إلى غير ذلك مما هو مذكور في ( الترجمة العبقرية ) وكذا إن أردت أسماء كتبهم فراجعها . وأعلم أن جميع فنونهم في الكلام والعقائد والتفسير ونحوها مستعدة من كتب غيرهم والمعتمد من كتب أخبارهم الأصول الأربعة : أحدها ( الكافى ) المشهور بالكليني ، وثانيها ( من لا يحضر الفقيه ) وثالثها ( التهذيب ) ورابعها ( الاستبصار ) . وصرح علماؤهم بان العمل بكل ما في هذه الأربعة واجب ، وكذلك صرحوا بأن العمل برواية الإمامى الذى يكون دونه أصحاب الأخبار ايضاً واجب بهذا الشرط كما نص على ذلك أبو جعفر الطوسى والشريف المرتضى وفخر الدين الملقب بالمحقق الحلى ، مع أنه يوجد في تلك الكتب الأربعة من رواية المجسمة كالهشامين وصاحب الطاق ( 2 ) ، ورواية من أعتقد أن الله تعالى لم يكن عالماً في ألزل كزرارة
( 3 ) وأمثاله كالأحولين ( 4 ) وسليمان الجعفرى ، ورواية من كان فاسد المذهب ولم يكن معتقداً بإمام أصلاً كبنى فضال وابن مهران وغيرهم ، ورواية بعض الوضاعين الذين لم يخف حالهم على الشيعة كجعفر الأودى وابن عياش [ أحمد بن محمد الجوهرى ] وكتاب ( الكافي ) مملوء من رواية ابن عياش وهو بإجماع هذه الفرقة كان وضاعاً كذاباً . والعجيب من الشريف مع علمه بهذه الأمور كان يقول : إن إخبار فرقتنا وصلت إلى حد التواتر ، وأعجب من ذلك أن جمعاً من ثقاتهم رووا خبراص وحكموا عليه بالصحة ، وأخرين كذلك حكموا عليه بأنه موضوع مفترى ، وهذه الأخبار كلها في صحاحهم كما ان ابن بابويه حكم بوضع ما روى في تحريف القرآن وآياته ، ومع ذلك فتلك الروايات ثابتة في ( الكافى ) باسانيد صحيحة بزعمهم ، إلى غير ذلك من المفاسد ، والله سبحانه يحق الحق وهو يهدى السبيل .

--------------------------

( 1 ) يلتبس على كثيرين اسم الإمام محمد بن جرير الطبرى الآملى باسم محمد بن جرير بن رستم الطبرى ، فالأول من أئمة السنة والثاني من الروافض ، وممن وقع في هذا الخطأ الحافظ أحمد بن على السليمانى ، ولعل السيد الألوسى أعتمد عليه فتابعه في خطاه .

( 2 ) تقدم التعريف بالهاشمين في ص 63 ، وصاحب الطاق في ص 15 – 16 و 53 .

( 3 ) هو زرارة بن اعين أخو بكير . أنظر ص 16 و 63 .

( 4 ) المعروفون بالأحوال من رجال الشيعة كثيرون منهم ابو سعيد الأحول ، وبكر ابن عيسى أبو زيد ألحول ، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول الصيرفى مولى بجيلة ، وجعفر ابن يحيى بن سعيد الأحول ، وحبيب الأحول الخثعمى ، والحسين بن عبدالملك الأحول . بل ان الخبيث عدو الله شيطان الطاق كان يلقب بالأحول أيضاً .

 

الباب الثالث

في الألهيات – وفيها مطالب

          الأول أن النظر في معرفة الله تعالى واجب بالاتفاق ، ولكنه قد وقع الاختلاف في ان هذا الوجوب الوجوب هل هو عقلى أو شرعي ، فذهب الإمامية إلى الأول قائلين ما معناه : إنه فرض على كل مكلف بحكم العقل مع قطع النظر عن حكم الله تعالى ، وذلك بان يحكم العقل على كل مكلف أن يتفكر في صفات الله تعالى ويعرفه بتلك الصفات وجوباً . وذهب إلى الثاني أهل السنة قائلين : إن الوجوب شرعي ، بمعنى أن النظر في المقدمة غير واجب بدون حكم الله تعالى ، وليس للعقل حكم في امر من أمور الدين .

ومذهب الإمامية مخالف أيضاً للكتاب والعترة : أما مخالفته للكتاب فلأنه قال : سبحانه
] إن الحكم إلا لله [ وقال ] ألا له الحكم [ وقال ] لا معقب لحكمه [ وقال تعالى ] يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد [ وقال تعالى ] وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً [ إذ لو كان أمراً واجباً بحكم العقل لوقع العذاب بترك ذلك الواجب قبل بعثة الرسل ، واللازم باطل فكذا الملزوم . وأما مخالفته للعترة فلأنه قد روى الكلينى في الكافى عن الإمام أبي عبدالله u أنه قال : ليس لله على خلقه أن يعرفوه ، ولا للخلق على الله تعالى أن يعرفهم . فلو كانت المعرفة واجبة بحكم العقل لكانت معرفته تعالى واجبة على الخلق قبل تعريفه جل شأنه وهو خلاف قول الصادق .

واعلم أن تحقيق هذه المسالة وبيان الاختلاف الواقع فيها يتوقف على تحقيق مسألة الحسن والقبح والاختلاف الواقع فيها ، فلابد حينئذ من بيان ذلك .

فكل من الحسن والقبح يطلقان على ثلاثة معان : أحدهما كمال الشيء كالعلم ونقصانه الجهل .

وثانيهما ملائمة الطبع كالعدل والعطاء ومنافرته كالظلم والمنع ويقال لهما بهذا المعنى مصلحة ومفسدة .

وثالثهما أستحقاق المدح والثواب والذم والعقاب عاجلاً وأجلاً . ولا نزاع لأحد في كونهما عقليين بالمعنيين الأولين ، وإنما النزاع في كونهما عقليين أو شرعيين بالمعنى الثالث فقط ، فقالت الأشاعرة : إن الحسن والقبح بهذا المعنى لا غير ، بمعنى أن الشرع مالم يرد بأن هذا الفعل حسن أى مستحق فاعله للمدح والثواب ، وذلك الفعل قبيح مستبدأ فاعله للذم والعقاب عاجلاً أو أجلاً ، لا يوصفان بالحسن والقبح ، إذ يحكم العقل مستبدأ على الأفعال بهما بهذا المعنى في خطاب الله ، لعدم كون الجهة المحسنة والمقبحة في افعال العباد عندهم مطلقاً ، لا لذاتها ولا لصفاتها ولا لاعتبارات فيها ، بل كل ما أمر به الشارع فهو حسن وكل ما نهى عنه فهو قبيح ، حتى لو أنعكس الحكم لا نعكس الحال كما في النسخ من الوجوب إلى الحرمة ، فليس للعقل حكم في حسن الفعال وقبحها ، وفي كون الفعل سبباً للثواب والعقاب ، بل إنما الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع فالأمر والنهي أمارة موجبة للحسن والقبح لا غير ، وتمسكوا على ذلك بوجوه .

الأول أن الأفعال كلها سواء ليس شئ منها في نفسه يقتضى مدح فاعله وثوابه ولا ذم فاعله وعقابه ، لأن أقتضاءها لما ذكر إما أن يكون لذواتها ، أو لصفاتها ، أو لأعتبارات فيها انفراد وأجثماعاً ، تعيناً أو إطلاقاً . فهذه ثمانية أحتمالات حاضرة كلها باطلة : أما بطلان الأول فلأن فعلاً واحداً قد يتصف بالحسن والقبح معاً باعتبارين كلطم اليتيم ظلماً أو تأديباً والقتل حداً أو سفكاً . فلو كان هذا الاتصاف لذات الفعل فقط – كما هو المفروض في هذا الاحتمال – فإن كانت الذات مقتضية لهما معاً لزم صدور الأثرين المتضادين من مؤثر واحد واجتماع النقيضين ، أو لأحدهما مطلقاً لزم تخلف المعلول عن العلة الموجبة في الآخر ، وبالاطلاق تخلفهما جميعاً ورجحان بلا مرجح في الأقتضاء ، واللوازم كلها باطلة . وأما بطلان الثاني فلأنه إن كانت تلك الصفات لازمة للذات لزم إجتماع النقيضين مطلقاً ، والصدور والتخلف إن كانت العلة الموجبة لهما صفة واحدة فهو ظاهر ، وإن كانت من العرض المفارق فلأن عروضها إما لذات الفعل أو لصفة أخرى لها ، ولا سبيل إلى الثاني لبطلان الشبه ، وكذا إلى الأول لبطلان قيام العرض بالعرض ، أو لمجموعهما فينقل الكلام إلى عروض تلك الصفة الآخرى ، فحينئذ يلزم هاهنا ما يلزم ثمة . وأما بطلان الثالث فلأن الاعتبارات أمر عدمى ولا يكفى في العلية وجود المنشأ ، والحسن والقبح بالمعنى فيه من الوجوديات ، ولا يكون علة الوجودى اللاوجودى ، مع أن تضاف إليه تلك الإعتبارات أفعال أيضاً فحسنها وقبحها إن كان بالمعنى المتنازع فيه لزم الدور والتسلسل ، أو بمعنى غيره فلا يلزم سراية الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه باعتباره في المضاف للتباين . وأما بطلان الاحتمالات الباقية فظاهر ، إذ فساد أجزاء المجموع كلها يستلزم فساده وفساد المعينات طرأ فساد المطلق ولا محالة بالضرورة . فقد تبين من هذا البيان أن الأفعال في نفسها لا أقتضاء لها ما ذكر مطلقاً ( 1 ) وإنما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها ، كما أن الأعيان كانت في العدم فأختصاصها وتشخصاتها في الوجود بانحاء الحقائق والعوارض لا لذواتها ولا لعوارضها ولا لاعتبارات فيها بل لجاعلها وإرادته الأزلية المرجحة فقط ، على أن تعلق الثواب والعقاب بالأفعال أمر مجهول غير معقول المعنى .

الثاني : أن الثواب والعقاب ليسا بواجبين على الله تعالى ، بل هما تفضل ورحمة وعدل

----------------------------

( 1 ) أى لا تقتضى مدح فاعلها أو ذمه مطلقاً .

وحكمة ، فلو كانت الافعال تقتضى الحسن والقبح لذاتها أو لجهة واتعبار فيها لكانا واجبين وقد بين بطلان اللازم .

الثالث : أن العبد غير مستبد في إيجاد فعله ، بل أفعاله مخلوقة لله تعالى كما بينت ، فلا يحكم العقل بالاستقلال على ترتب الثواب والعقاب عليها .

الرابع : أنه لو كان حسن الفعل وقبحه عقليين للزم تعذيب تارك الواجب ومرتكب الحرام سواء ورد به الشرع أم لا ، واللازم باطل لقوله تعالى ] وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ ولقوله تعالى ] وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في امها رسولاً يتلو عليهم آياتنا [ وكذا عدم الحجة للناس على الله تعالى ، وكذا لزم عدم بقاء العذر قبل بعث الأنبياء ، ولزم اللغو أيضاً في سؤال الرب والملائكة عبادة الكفار في الاخرة تبكيتا وإفحاماً عن مجئ الرسل . واللوازم كلها باطلة بقوله تعالى ] رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ ،
] ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى [ ] ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين [ ، ] يا معشر الجن والإنس ألو يأتكم رسل منكم يقضون عليكم آياتى وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا [ الآية ] كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم ياتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير [ الآية ] وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى [ الآية . على أن قوله تعالى ] ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها
غافلون
[ بعد قوله ] يا معشر الجن والإنس [ الآية يدل بالصراحة على ان أهل القرى قبل إرسال الرسل يكونون غافلين وإهلاكهم تعذيباً يكون ظلماً ، فلو كان حسن الأفعال وقبحها عقليين وكان النظر في معرفته واجباً عقلاً لما صح ذلك القول أصلاً كما لا يخفى . ولا يمكن تعميم الرسل في هذه الآية حتى يشمل العقل ايضاً بالضرورة ، ألا ترى أن التلاوة والقصة لأيات الله لا يصح إسنادها إلى العقل أصلاً ومع هذا فإن (( الرسول )) في اللغة هو المبلغ لكلام أو كتاب من أحد إلى آخر ، وفي الشرع هو إنسان بعثه الله تعالى إلى الخلق ليدعوهم إليه بشريعة مجددة ، وهما معناه الحقيقى – اللغوى والمفهوم الشرعي – ولم يثبت أصلاً استعماله في العقل لا لغة ولا شرعاً حتى يقال بعموم المجاز ، وإنما هو أختراع بعض المتكلمين من المعتزلة لتأييد مذهبهم . وأيضاً كان العقل للكفار حاصلاً في الدنيا ، فكيف يصح أعتذارهم بعدم إرسال الرسل في الآخرة .

فثبت بهذه الوجوه أن الحسن والقبح ليسا إلا شرعيين ، ولا يستقبل العقل في إدراكهما بدون الشرع قطعاً . قالت المعتزلة ومن تبعهم : إن الحسن والقبح عقليان بمعنى أن الأفعال في نفسها – مع قطع النظر عن الشرع – فيها جهة حسن أو قبح تقتضى مدح فاعله وثوابه أو ذمه وعقابه ، لكن تلك الجهة قد تدرك بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار ، وقد تدرك بالنظر كسحن الصدق الضار وقبح الكذب النافع مثلاً ، وقد لا يدركها العقل بنفسه – لا بالضرورة – بالنظر إلا إذا ورد الشرع به ، فإذن يعلم أن فيها جهة محسنة أو مقبحة كما في صوم اليوم الآخر من رمضان وصوم يوم العيد فإدراك الحسن والقبح في هذا القسم موقوف على كشف الشرع عنهما بالأمر والنهي ، وأما انكشافهما بالقسمين الأولين فهو محض حكم العقل بدون توقفه على الشرع . ثم أختلفوا بينهم فقال المتقدمون منهم : إن حسن الأفعال وقبحها لذواتها فقط ، وقال بعض المتأخرين منهم : إنما لصفة زائدة على الذات دونها ، وبعضهم قالوا : إن جهة القبح في القبيح مقتضية لقبحه دون الحسن ، إذ لا حاجة إلى صفة توجب الحسن بل يكفيه أنتفاء صفة موجبة للقبح ، وقال الجبائي وأتباعه : ليس حسن الأفعال وقبحها لذواتها ولا لصفات حقيقية بل لاعتبارات وأوصاف إضافية تختلف بحسب الاعتبار كما في لطم اليتيم للتأديب أو الظلم . وقال بعض اتباع المعتزلة إنهما للمطلق الأعم ، وأستدلوا على ذلك بوجوه : ( الأول ) أن حسن مثل العدل والإحسان وقبح مثل الظلم والكفران مما اتفق عليه العقلاء حتى الكفار كالبراهمة والدهرية وغيرهما حتى أنهم يستقبحون ذبح الحيوانات بانه إيلام ، فلولا أنه ذاتى للفعل بحيث يعلم بالعقل لما كان كذلك . وأجيب عنه بأن هذا غير متنازع فيه ، لأنه من قسم الحسن والقبح اللذين هما بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته وهو ليس بمتنازع فيه ، والمتنازع فيه هو بمعنى تعلق الثواب والمدح والعقاب والذم وهو غير لازم من الدليل ، فالتقريب غير تام .

( الثاني ) أن من تساوى في تحصيل غرضه الصدق والكذب بحيث لا مرجح بينهما ولا علم باستقرار الشرع على تحسين الصدق وتقبيح الكذب فإنه يؤثر الصدق قطعاً بلا تردد وتوقف ، فلولا أن حسنه مركوز في عقله لما أختاره كذلك . وكذا إنقاذ من اشرف على الهلاك حيث لا يتصور للمنقذ نفع ولا غرض ولو مدحاً وثناء كالمجنون والصبي وليس ثمة من يراه . والجواب عنه بأن إيثار الصدق فيه لتقرر كونه ملائماً في النفوس لغرضه العامة ومصلحة العالم وكون الكذب عكس ذلك ، ولا يلزم من فرض التساوى تحققه ، فإيثاره الصدق لملائمته تلك المصلحة لا لكونه حسنا في نفسه ، فلو فرضنا الاستواء من كل وجه فإيثار الصدق قطعا ممنوع ، وإنما القطع بذلك عند الفرض والتقدير بتوهم أنه قطع عند وقوع المقدر المفروض ، والفرق بينهما بين . وأما إنقاذ الهالك فلرقة الجنسية المجبولة في الطبيعة ، فكأنه يتصور تلك الحالة لنفسه فيجره استحسان ذلك الفعل من غيره في حق نفسه إلى أستحسانه من نفسه في حق غيره ، وبالجملة لا نسلم أن إيثار الصدق عند من لم يعلم استقرار الشرائع على حسنها إنما هو لحسنهما عند الله تعالى على ما هو المتنازع فيه بل لأمر آخر .

( الثالث ) أنه لو كانا شرعيين لكانت الصلاة والزنا متساويين في نفس الأمر قبل بعثة الرسول فجعل أحدهما واجباً والآخر حراماً ليس أولى من العكس ، بل ترجيح من غير مرجح ومناف لحكمه الآمر وهو حكيم قطعاً . والجواب عنه بان الأفعال قد بين سابقاً تساويها في نفس الأمر بعدم الأقتضاء قبل ورود الشرع بدليل واضح ، فبطلان اللازم ممنوع ، ثم جعل بعضها واجب وبعضها حرام لحكم ومصالح من الآمر الحكيم ، فالأولوية ترجع إلى تلك الحكم والمصالح بعد ورود الشرع بالوجوب ، لا للأفعال مطلقاً من عدم أقتضائها تلك الأولوية ، والإرادة الأزلية مرجحة بعض الأفعال ببعض الصفات وبعضها ببعض ، كما أنها مرجحة لتخصيص الأعيان بالحقائق والعوارض المخصوصة من غير أقتضاء ذواتها لها ، وإنما يلزم المنافاة لحكمة الآمر الحكيم إذا لم يكن في ذلك التخصيص مراعاة للمصلحة والحكمة وهو باطل بالاتفاق ، فالترجيح بعير مرجح ، والمنافاة للحكمة ممنوع ايضاً لما ذكرنا .

( الرابع ) أنه لو كانا شرعيين لكان إرسال الرسل بلاء وفتنة لا رحمة ، لأنهم كانوا قبل ذلك في رفاهية لعدم صحة المؤاخذة بشئ مما يستلذه الإنسان ، ثم بعد مجئ الرسل صاروا ببعض تلك الأفاعيل في عذاب ابدى ، فأية فائدة في إرسال الرسل إلى التضييق وعذاب عبادة فصار بلاء ، هذا خلف ، لأنه رحمة يمن الله به على عباده في كثير من مواضع تنزيله . والجواب عنه اولا بالنقض بأنه لو تم دليلكم فكانا عقليين لكان العقل ايضاً بلاء وقتنة لا نعمة ورحمة ولو باعتبار بعض الأفعال كالشرك وكفران النعمة ، لأن المجنون والصبي في رفاهية لعدم صحة مؤاخذتهم بشئ مما يفعلونه ، ثم بعد حصول العقل لهم يصيرون في عذاب أبدى ببعض تلك الافاعيل ، فأية فائدة في إعطائهم إلا افهلاك والتعذيب ، فصار العقل بلاء على الإنسان ، هذا خلف ، لأن الله تعالى يمن بإعطائه على عباده في تنزيله حيث قال ] والله أخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ و ] قل هو الذى أنشاكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون [ و ] علم الإنسان مالم يعلم [ وغيرها من الأيات ، فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا عن ذلك .

ثانياً بالمعارضة بأنه لو لم يكونا شرعيين لكان إرسال الرسل عبثاً باعتبار بعض الأفعال الذى هو أعظم قدراً وأشد خطرا ، وكان الأنبياء يدعون الناس أولاً إلى فعله وتركه لأن العقل مستبداص في إدراك حسن بعض الأفعال كالإيمان وقبح بعضها كالكفر بالضرورة أو بالنظر على هذا التقدير لا محالة ، والعاقل يمكنه العمل بما يقتصيه عقله بل يجب فلا فائدة معتداً بها في إرسال الرسل إلا في بعض الأفعال التعبدية .

ثالثاً : بمنع بطلان اللازم كو إرسال الرسل بلاء وفتنة وهو باعتبار مشاق التكاليف لا ينافى كونه رحمة من وجه آخر باعتبار تهذيب النفس وإصلاح المعاد والمعاش بما قال الله تعالى ] وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن [ لأن تلك الكلمات وهي الخصال الثلاثون المحمودة المذكورة في سورة براءة والمؤمنين والأحزاب مع كونها رحمة وقع البلاء بها وبما قال الله تعالى ] وبلوناهم بالحسنات والسيئات [ أى بالنعم والنقم ] لعلهم يرجعون [ إذ لو كان المنافاة بين البلاء والحسن لما صح أبتلاؤهم بالحسنات .

ورابعاً بمنع الملازمة لأن ماذكر من صيرورة بعض العباد بعذاب أبدى بعد مجئ الرسل إنما هو لتركهم اتباعهم دون الإرسال وهو شرط لتحقيق نفس الترك لا موجب له ، وإذا وجد الترك صار نقمة وبلاء عليهم لا الإرسال ، إذ لا يلزم أن يتصف الإرسال بصفة مشروطة بل هو باق على صفة الرحمة التى هي محط أمتنانه تعالى به على عباده ، ومع هذا يرد عليهم قوله تعالى لنبيه r ] وكذلك أوحينا إليك روحاً من امرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان [ يعنى قبل الوحي ، ولو كان الأفعال وقبحها بالمعنى المتنازع فيه مدركا بالعقل قبل ورود الشرع لكان الرسول أحق وأولى بإدراكه ، وما كان يصح نفى درايته عنه بالعقل قبل الوحي لأنه أعقل الناس ، إذ الإيمان بمعنى الشرائع وهي مستلزمة للحسن والقبح المتنازع فيه بحيث لا يوجدان بذلك إلا معها بالضرورة ، ونفي دراية الملزوم مستلزمة لنفي دراية اللازم المساوى ، فقد تبين للمنصف مما ذكرنا فساد شبهاتهم التى اتخذوها دلائل ، وأن الحسن والقبح بذلك المعنى ليسا إلا شرعيين وهو المطلوب .

ولما ثبت كون الأفعال وقبحها شرعيا وكان شكر المنعم من جملة تلك الأفعال ولا يمكن شكره إلا بمعرفته ولا تحصل المعرفة إلا بالنظر صار في معرفة المنعم واجباً شرعياً عند من قال بشرعية الحسن والقبح وهو الحق  أو عقلياً عند من قال بعقلية الحسن والقبح .

واعلم أن علماء الأصول أختلفوا في اول ما يجب على المكلف . فقال الإمام الأشعري : هي معرفة الله تعالى إذ يتفرغ وجوب الواجبات وحرمة المنهيات . وقال المعتزلة والأستاذ منا : هو النظر فيها إذ هي موقوفة عليه ، ومقدمة الواجب المطلق أيضاً واجبة ، وقيل هي الجزء الأول من النظر أى الحركة من المطالب إلى المبادئ . وقال إمام الحرمين والقاضي أبو بكر وابن فورك : هو المقصد إلى النظر لتوقف الأفعال الاختيارية وأجزائها على القصد ، والنظر فعل اختياري .

ثم أعلم أن النظر في معرفة الله تعالى واجب شرعاً عند الأشاعرة لقوله تعالى ] فأنظروا إلى آثار رحمة الله [ و ] قل أنظروا ماذا في السماوات والأرض [ ولقوله r (( تفكروا في آلاء الله )) والأمر هاهنا للوجوب لقوله r حين نزلت آية ] إن في خلق السماوات والأرض وأختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب [ الآية : (( ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكر فيها )) فإنه r أوعد بترك الفكر في دلائل معرفة الله تعالى ، ولا وعيد على ترك غير الواجب . وأيضاً أن معرفة الله تعالى واجبة إجماعاً ، وهي لا تتم إلا بالنظر وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب أيضاً كوجوبه . وعند المعتزلة واجب عقلا لأن شكر المنعم واجب عقلاً عندهم وهو موقوف على معرفة الله المنعم ، ومقدمة الواجب المطلق واجبة أيضاً هذا بناء على قولهم بكون الحسن والقبح عقليين كما عرفت آنفاً .

وأحتجت المعتزلة على كونه واجباً عقلاً بانه لو لم يجب النظر إلا بالشرع يلزم منه إفحام الأنبياء وعجزهم عن إثبات نبوتهم في مقام المناظرة ، إذ يجوز للمكلف حينئذ أن يقول إذا أمره النبي بالنظر في معجزة وغيرها مما تتوقف عليه نبوته ليظهر له صدق دعواه : لا أنظر مالم يجب النظر على ، ولا يجب النظر على ما لم يثبت الشرع عندى ، إذ المفروض عدم الوجوب غلا به ، ولا يثبت الشرع على الآخر وهو دور محال ، ويكون كلامه هذا حقا لا قدرة للنبي على دفعه ، وهو معنى إفحامه . وأجيب عنه أولاً بالنقض بان ما ذكرتم مشترك بين الوجوب الشرعي والعقلي معاً ، فما هو جوابكم فهو جوابنا . وبيان الآشتراك أن النظر لو وجب بالعقل لوجب بالنظر لأن وجوبه ليس معلوماً بالضرورة بل بالنظر فيه والاستدلال عليه بمقدمات مفتقرة إلى أنظار دقيقة من ان المعرفة واجبة وأنها لا تتم إلا بالنظر وان مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فيصح للمكلف ان يقول حيئذ أيضاً : لا أنظر اصلا مالم يجب على النظر ، ولا يجب مالم انظر فيلزم الدور المحذور . لا يقال قد يكون وجوب النظر فطرى القياس بأن يضع النبي للمكلف مقدمات ينساق ذهنه إليها بلا تكليف وتفيده العلم بذلك ضرورة ، لأنا نقول : كونه فطرى القياس مع توقفه على ما ذكرتموه من المقدمات الدقيقة الأنظار باطل قطعا ، ولو سلمناه بأن يكون هناك دليل آخر ولكن لا يجوز للمكلف أن لا يصغي إلى كلام النبي الذى أراد به التنبيه ولا يستمع به ولا ياثم بترك النظر والاستماع ، إذ لم يثبت بعد وجوب شئ أصلاً فلا يمكن الدعوة وإثبات النبوة وهو المراد بالإفحام . وثانياً بالحل بأن قوله (( لا يجب النظر على مالم يثبت الشرع عندى )) إنما يصح إذا كان الوجوب المستفاد من العلم بثبوت الشرع ولكنه لا يتوقف ، كذلك العلم بالوجوب متوقف على نفس الوجوب ، لأن العلم بثبوت شئ فرع لثبوته في نفسه فإنه إذا لم يثبت في نفسه كان اعتقاد ثبوته جهلاً مركباً لا علماً ، قد توقف الوجوب على العلم بالوجوب لزم الدور ، وأن لا يجب شئ على الكافر أيضاً ، فليس الوجوب في نفس الأمر موقوفاً على العلم بالوجوب بل تقول : الوجوب في نفس الأمر يتوقف على ثبوت الشرع في نفس الآمر ،و الشرع ثابت في نفس الامر علم مكلف ثبوته ونظر فيه اولاً ، وكذلك الوجوب ، ولا يلزم من هذا تكليف الغافل لأن الغافل إنما هو من لم يتصور التكليف لا من لم يصدق به ، فإن قال المكلف : وما أعرف الوجوب في نفس الأمر ، وما لم أعرفه لم أنظر ، قلنا : ماذا تريد بالوجوب ؟ فإن قال : أريد به ما يكون ترك ما اتصف به إثماً وفعله ثواباً ، قلنا له : فقد ثبت الشرع حيث قلت بالثواب و الإثم فبطل قولك ما أعرف الوجوب بقولك ، فأندفع الإفحام . وإن قال : أردت به ما يكون ترك ما أتصف به قبيحاً لا يستحسنه العقلاء ، ويترتب عليه المفسدة ، قلنا له : فأنت تعرف الوجوب إذا رجعت إلى عقلك وتأملت فيه به ، إذ يعرف كل عاقل قبح ترك ما اتصف به ومفسدته ، فبطل قولك (( لم أنظر مالم أعرف الوجوب )) وأندفع الإفحام . وليس فيه لزوم القول بالحسن والقبح العقليين لأنهما ليسا هاهنا بالمعنى المتنازع فيه بل بالمعنى المتفق عليه كما لا يخفى ، وإذا عرفت ما حققنا عرفت أن ما قال الأشاعرة هو الحق .

ثم أعلم ان الماتريدية من اهل السنة وافقوا أهل الأعتزال في هاتين المسألتين ، وكذا الروافض مقتفون على آثارهم في ذلك ، ولكن الفرق بين الماتريدية وبين هاتين الفرقتين الضالتين أن الماتريدية لا يستلزم عندهم كون الحسن والقبح عقلياً حكماً من الله تعالى في العبد ، بل يصير موجبا لاستحقاق الحكم من الحكيم الذى لا يرجح المرجوح ، فالحاكم هو الله تعالى فقط ، والكاشف هو الشرع ، فما لم يحكم الله تعالى بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ليس هناك حكم أصلاً فلا يعاقب أهل زمان الفترة لترك الأحكام ، بخلاف المعتزلة والإمامية خذلهم الله تعالى ، فإن كلا من الحسن والقبح يوجب الحكم عندهم من الله تعالى ، فلولا الشرع وكانت الأفعال بإيجاد الله تعالى لوجبت كما فصلت في الشريعة .

الثاني منها ( 1 ) أن الله تعالى حي بالحياة وعالم بالعلم وقادر بالقدرة ، وعلى هذا القياس صفته ثابتة له كما تطلق الأسماء على الذات . وقال الإمامية كلهم : ليس لله تعالى صفات أصلاً ، ولكن تطلق على ذاته تعالى الأسماء المشتقة من تلك الصفات فيجوز أن يقال إن الله تعالى حي وسميع وبصير وقدير وقوى ونحو ذلك ، ويمتنع أن يقال أن له حياة وعلماً وقدرة وسمعاً وبصراً ونحوها ، وأنت خبير أن عقيدتهم هذه مع كونها خلاف المعقول لأن إطلاق المشتق على ذات لا يصح بدون قيام مبدئه بها ، إذ الضارب إنما يطلق على ذات قام الضرب بها ، وبدون قيامه لا

-----------------------

( 1 ) أى من مطالب الإلهيات التى تقدم أولها في ص 70 .

يحمل المشتق ولا يطلق مخالفة للثقلين أيضاً ( 1 ) أما الكتاب فيثبت في آياته الكثيرة هذه الصفات له تعالى كقوله تعالى ] ولا يحيطون بشئ من علمه [ وقوله تعالى ] أنزله بعلمه [ وقوله تعالى ] وسعت كل شئ رحمة وعلماً [ وقوله تعالى ] يريدن أن يبدلوا كلام الله [ - وأما المعتزلة فلما ذكر في نهج البلاغة في خطب الأمير في اكثر المواضع من هذه الصفات مثل (( عزت قدرته ، ووسع سمعه الأصوات )) وعن الأئمة الآخرين مروى بالتواتر إثبات هذه الصفات له تعالى.

          الثالث منها صفاته تعالى الذاتية قديمة لم يزل موصوفاً بها ، قال زرارة بن أعين وبكير ابن أعين وسليمان ومحمد بن مسلم الذين هم كانوا قدوة الإمامية ورواة أخبارهم : إن الله تعالى لم يكن عالماً في الأزل ولا سميعاً ولا بصيراً حتى خلق لنفسه علماً وسمعاً وبصراً كما خلقها لبعض المخلوقات فصار عالماً وسميعاً وبصيراً ، ومخالفة هذه العقيدة لكتاب الله أظهر من الشمس ، فإنه وقع في كثير من مواضعه ] وكان الله عليماً حكيماً – وعزيزاً حكيماً – وسميعاً بصيراً [ ونحوها.

وأما مخالفتها للعترة الطاهرة فلما رواه الكلينى عن أبي جعفر u أنه قال : كان الله ولم يكن شئ غيره ولم يزل عالماً .

وروى الكلينى وجمع آخرون من الإمامية عليهم السلام أنهم كانوا يقولون : إن الله سبحانه لم يزل عالماً سميعاً بصيراً .

ومع هذا يرد عليهم أن يكون الله محلاً للحوادث وهو باطل بالضرورة .

الرابع منها أن الله تعالى قادر على كل شئ ، خالف الشيخ أبو جعفر الطوسى والشريف المرتضى وجمع كثير من الإمامية في ذلك ، فإنهم قالوا : إن الله لا يقدر على عين مقدور العبد . ويكذبهم قوله تعالى ] والله على كل شئ قدير [ وهو كاف لتكذيبهم .

الخامس منها أن الله تعالى عالم بكل شئ قبل وجوده ، وهذا هو معنى التقدير ، يعنى أن كل شئ في علمه مقدر وكل شئ عنده بمقدار ، بأن يكون كذا وكذا ويوجد في وقته على وقفه . قالت الشيطانية – وهم أتباع شيطان الطاق ( 2 ) - : إنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل كونها ، وجماعة من الأثني عشرية من متقدميهم ومتأخريهم منهم المقداد ( 3 ) صاحب ( كنز العرفان ) قالوا : إن الله لا يعرف الجزئيات قبل وقوعها . وهذه العقيدة مخالفة للقرآن ، قال تعالى ] لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ وقال ] والله بكل
---------------------------

( 1 ) أى كتاب الله وما عليه أهل بيت رسوله .

( 2 ) أنظر ص 16 .

( 3 ) ابن عبدالله السيورى من القرن التاسع مترجم في روضات الجنات .

شئ عليم [ وقال ] قد أحاط بكل شئ علماً [ وقال ] ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها [ وقال ] إنا كل شئ خلقناه [ وقال ] جعل الله الكعبة البيت الحرام – إلى قوله – ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض [ يعنى أن الله جعل الكعبة والشهر الحرام والهدى والقلائد شعائره ليجلب إليكم مصالحكم ويدفع عنكم مضاربكم ، وتلك المصالح معلومة له قبل وقوعها . وقال ] ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتاب مبين [ وأخبر بوقعة الروم وفارس قبل وقوعها بقوله : ] آلم غلبت الروم في ادنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون [ وقد أخبر الله رسوله بالوقائع الجزئية الماضية والآتية والحاضرة في زمن الوحى وأخباراً كثيرة في التنزيل ، ومن يطلع عليها لا يشك فيها أصلاً ، وفيه كثير من الإخبار بأحوال الجنة والنار ومكالمتهم كقوله تعالى ] ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار – إلى قوله – ونادى أصحاب النار أصحاب الحنة [ وقد وصل بالتواتر عن النبي r وأهل البيت أنهم أخبروا بالوقائع والفتن الأتية ، وظاهر أن علمهم كان مأخوذاً من وحي الله وإلهامه .

وما يتمسك هؤلاء القائلون من القرآن المجيد بالآيات الدالة على حدوث علم الله عند حدوث الأشياء كقوله ] ويعلم الصابرين [ وأمثال ذلك ، أ, الدالة على الأختيار كقوله ] وليبلوكم قبل آتكم – ليبلوكم أيكم أحسن عملاً [ ففاسد ، إذ المراد من هذا العلم كشف حالهم وتمييزها في الخارج لا المعنى الحقيقى .

وأما المخالفة للعترة فلما روى أهل السنة والشيعة عن أمير المؤمنين أنه قال (( والله لم يجهل ولم يتعلم ، أحاط بالأشياء علماً فلم يزدد بكونها علماً ، علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بها بعد تكوينها )) وروى على ابن إبراهيم ( 1 ) القمى من الأثنى عشرية عن منصور بن حازم عن ابي عبد الله u قال : سألته هل يكون شئ اليوم لم يكن في علم الله بالأمس ؟ قال : لا ، من قال هذا فأخزاه الله . قلت : أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله بالأمس ؟ قال : بلى ، قبل أن يخلق الخلق . إلى غير ذلك من صحاح الأخبار .

السادس منها أن القرآن المجيد هو كلام الله ولم يتطرق إليه تحريف ولا تبديل ولا تغيير ولا زيادة ولا نقصان قط ولم يكن لهذه الأمور إليه من سبيل أبداً . وقالت الأثنا عشرية ما هو موجود اليوم في أيدى المسلمين محرف ومبدل ومزاد فيه ومحذوف منه ، وقد تقدم في ذلك ( 2 ) وقد خالفوا في عقيدتهم هذه قول الله تعالى ] لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ وقال تعالى ] إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ وكل ما يكون الله حافظاً له كيـف

-----------------------
( 1 ) ابن هاشم . له ترجمة في تنقيح المقال .

( 2 ) في ص 30 .

يمكن تبديله وتغييره ؟ أيضاً تبليغ القرآن كما كان ينزل كان واجباً على النبي r لقوله تعالى ] يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته [ ومعلوم باليقين أن من كان أسلم في عهده u أشتغل أولاً بتعليم القرآن ثم بتعليمه حتى حفظه في عهده ألوف من الرجال ، ثم من بعد ذلك المسلمون في جميع البلاد والقرى مشغولون بتلاوته آناء الليل وأطراف النهار في الصلاة وخارجها ، لعلمهم بأنها أعظم القربات ، ويعلمونه للأطفال قبل تعليم كل شئ ، فإذا كان كذلك فكيف يتصور في القرآن تغيير وتبديل لا يشعر به المشتغلون فيه ! أما مخالفة هذه العقيدة للعترة ففي كل روايات الإمامية مذكور أن أئمة أهل البيت كلهم يقرأون هذا القرآن ويتمسكون بعامه وخاصه ويوردونه أستشهاداً ويفسرونه والتفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكرى إنما هو لهذا القرآن ، ويعلمونه أولادهم وخدامهم وأهلهم ويأمرونهم بتلاوته في الصلاة ، ومن ثمة قد أنكر شيخهم ابن بابويه في كتاب أعتقاداته هذه العقيدة وتبرأ منها .

          السابع : منها أن الله تعالى مريد وإرادته أزلية ، وما أراد وجوده في الأزل وجعله معيناً في وقته فيما لا يزال لا يمكن التقدم والتأخر فيه أبداً ، فكل شئ يوجد البتة في وقته بوفق تلك الإرادة ، ويعتقد الإمامية أن إرادته تعالى حادثة . وأيضاً يقولون إن إرادته ليست عامة لجميع الكائنات ، فإن كثيراً من الموجودات يوجد بلا إرادته كالشرور والمعاصي والفسوق والكفر ونحوها ، وهذه العقدية يردها آيات كثيرة من الكتاب ، منها قوله تعالى ] ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم [ أى فلو أراد إيمانهم لزم التناقض ، وقوله ] ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً [ الآية . وقوله ] إن كان الله يريد أن يغويكم [ وقوله ] إنما يريد الله أن يعذبهم في الدنيا [ وقوله ] وإذا أردنا أن نهلك قرية [ الآية وقوله ] من يشإ الله يضلله [ وقوله ] وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه [ وغيرها من الآيات . وكذلك يكذب هذه العقيدة أقوال العترة أيضاً : روى الكلينى عن محمد بن أبي بصير قال : قلت لأبي الحسن الرضا إن بعض أصحابنا يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة ، فقال لى : أكتب (( بسم الله الرحمن الرحيم . قال على بن الحسين قال الله تعالى بمشيئتى كنت أنت )) إلى آخر الحديث . وروى الكلينى عن سليمان بن خالد عن أبي عبدالله u : إن الله تعالى إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة من نور وفتح مسامع قلبه ، ووكل به ملكاً يسدده ، وإذا أراد الله بعبد سوءاً نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطاناً يضله ، ثم تلا قوله تعالى ] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً [ وروى الكلينى وصاحب المحاسن ( 1 ) عن على إبراهيم الهاشمي قال : سمعت أبا الحسن موسى u يقول : لا يكون شئ إلا ما شاء اله وأراد العبد . وروى الكلينى عن الفتح بن يزيد الجرجانى ( 2 ) عن أبي الحسن ما ينص على أن إرادة العبد لا تغلب إرادة الله سواء كانت إرادة عزم أو إرادة حتم .

وأيضاً روى الكلينى عن ثابت بن عبد الله عن أبي عبد الله u ما ينص على أن الله تعالى يريد صلالة بعض عباده إرداة حتم ، وروى عن ثابت عن سعيد مثل ذلك . ولهذا الأصل فروع كثيرة : منها ما يقول الإمامية قاطبة أن البارى لا يأمر إلا بما يريده ولا ينهي إلا عما لا يريده .

          وهذا أيضاً مخالف للثقلين : أما الكتاب فقوله تعالى ] ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله أنبعاثهم فثبطهم وقيل أقعدوا مع القاعدين [ فعلم أن إرادة خروج هذه الجماعة لم تكن له تعالى لأن الكراهة ضد الإرادة وهم كانوا مأمورين بالخروج بلا شبهة وإلا فلا وجه للملائمة والعتاب عليهم ، وقوله تعالى ] يريد الله أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة [ وقد كانوا مأمورين بالإيمان . ويوجد في القرآن ما يدل على عدم مشيئته تعالى بإيمان الكفار من الآيات قدر مائة أو أزيد ، ومع ذلك كانوا مأمورين بالإيمان . وأما العترة فقد تواتر عنهم بروايات الشيعة ما يضاد ذلك بحيث لا مجال فيه للتأويل ولا للإنكار ، فمن ذلك ما روى البرقى في المحاسن والكلينى في الكافى عن على بن إبراهيم وقد سبق نقله قريباً ( 3 ) .

          ومنها ما رواه الكلينى عن الحسن بن عبد الرحمن الحمانى عن أبي الحسن موسى بن جعفر أنه قال : إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته .

ومنها ما رواه الكلينى وغيره عن عبدالله بن سنان عن أبي عبد الله أنه قال : أمر الله ولم يشأ وشاه ولم يأمر ، أمر إبليس بالسجود لآدم وشاء أن لا يسجد ولو شاء لسجد ، ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل ولو لم يشأ لم يأكل .

ومن تلك الفروع قول الإمامية ، إنه لا يقع بعض مراد الله تعالى ويقع مرادات الشيطان وغيره من الكفار ، وأهل السنة يقولون : لا تتحرك ذرة إلا بإذن الله ولا تتقدم إرادة احد مخالفة لإرادة الله تعالى ، ولا يقع مراد غيره بدون إرادته أصلاً بل ما يشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ] وما تشائون إلا أن يشاء الله [ . ومذهب الإمامية مأخوذ من زندقة المجوس ، فإنهم قائلون بالأثنين أحدهما خالق الشرور ويسمونه أهرمن والآخر خالق الخيرات ويسمونه يزدان ، ويسندون إليهما توزيعاُ وقائع العالم ، وقد يعتقدون ان أحدهما غالب على الآخر مغلوب ، تعالى الله عن ذلك

-----------------------------

( 1 ) هو البرقى . أنظر ص 94 .

( 2 ) له ترجمة في تنقيح المقال وكتبهم الأخرى في الرجال .

( 3 ) في ص 84 . وأنظر ص 94 .

علواً كبيراً . ومنها ما يقول هؤلاء المذكورون أن الله تعالى يردي شيئاً يعلم أنه لا يقع . وهذا الاعتقاد الشنيع مستلزم للسفه في حضرته تعالى عما يقول الظالمون . ومنها ما يقولون : إن الله تعالى يريد أن يهدى بعض عباده ويضله الشيطان واعوانه من أشرار بنى آدم ، ولا تتقدم إرادة الله بإزاء أولئك الملاعين ! ويكذبهم في هذا نص القرآن ] من يهد الله فما له من مضل [ .

ومن اقوال العترة رواية الكلينى عن ثابت بن سعيد عن أبي عبدالله u قال : يا ثابت مالكم والناس ، كفوا عن الناس ولا تدعوا أحداً إلى أمركم ، والله لو أن أهل السماوات وأهل الأرض أجتمعوا على أن يهدوا عبدا يريد الله ضلاله ما أستطاعوا أن يهدوه ، ولو أن أهل السماوات والأرض أجتمعوا على أن يضلوا عبداً يريد الله هدايته ما أستطاعوا أن يضلوه .

          الثامن : منها ان الله تعالى لن يرضى بكفر أحد من عباده وضلالته ، لقوله تعالى ] ولا يرضى لعباده الكفر [ قال الأثنا عشرية : يرضى الله عن ضلالة غير الشيعة ، وكان الأئمة راضين بضلالة غيرهم أيضاً . وروى صاحب ( المحاسن ) عن الإمام موسى الكاظم أنه قال لأصحابه : لا تعلموا هذا الخلق أصول دينهم وراضوا لهم بما رضى الله لهم من الضلال ! ولو صحت هذه الرواية لكانت لأهل السنة بشارة عظيمة حاصلة في أيديهم ، فإنهم يعيشون بحسب ما رضى الله والحمد لله على ذلك وثبت لهم رضوان الله تعالى الذى هو غاية المنى لأهل الدين بشهادة الأئمة . أما علماء الشيعة ، فلابد لهم أن يكذبوا هذه الرواية لأنها مخالفة لأدلتهم القطعية واصولهم الشرعية ، إذ هي مناقصة لغرض الإمامة لوجوب الأصلح واللطف وهادمه لأساس بنيان قاعدتهم المقررة أن الله تعالى لا يريد الشرور والقبائح والكفر والمعاصى إذ الرضا فرع الإرادة وأخص منها ، فنفيها نفية .

          التاسع : منها أن الله تعالى لا يجب عليه شئ كما هو مذهب أهل السنة ، خلافاً للشيعة فإنهم قاطبة متفقة كلمتهم بوجوب كثير من الأشياء عليه تعالى بحكم عقولهم ، وليس هذا بملائم لمرتبة الربوبية والألوهية اصلاً ، وأية قدرة للعبد أن يوجب على مالكه الحقيقى شيئاً ، فكل ما اعطى فهو من فضله ورحمته وكل ما منع فهو من عدله وحكمته وهو المحمود في كل أفعاله ، قال في نهج البلاغة : ومن خطبة له خطبها بصفين (( أما بعد فقد جعل الله لى عليكم حقاً بولاية أمركم ، وجعل لكم على من الحق مثل الذى عليكم ، والحق أوسع الأشياء في التواصف ، وأضيقا في التناصف ، لا يجرى لأحد إلا جرى عليه خالصاً على أحد إلا جرى له ، ولو كان لأحد أن يجرى له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصاً لله تعالى سبحانه دون خلقه ، لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه . ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه ، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً وتوسعاً بما هو على المزيد أهله )) أنتهى بلفظه . قال جميع الإمامية بوجوب التكليف عليه تعالى ، يعنى يجب عليه تعالى أن يكلف المكلفين بان يأمرهم وينهاهم وأن يقرر لهم واجبات ومحرمات ، وأن يخبرهم بذلك بواسطة الرسل . ولا يقتضى العقل أصلاً أن يكلف الكافر بالإيمان . والفاجر بالطاعة وترك العصيان ، لأنه تعالى لا فائدة له في هذا التكليف اصلاً ، بل هو منزه عن الفوائد والأغراض وغنى عن العالمين ، وهو في حق العبد محض الخسران والضرر وموجب لهلاكه الأبدى ، والله سبحانه يعلم عاقبة الأمر لكل أحدٍ هل يقبل أولاً وهل يمتثل أم لا ، فالقاء العبد في معرض التلف والهلاك عامداً من غير ان يعود إليه نفع ليس مقتضى العقل أصلاً ، نعم لا يفعل عاقل أمراً يضر غيره وهو لا ينفع به خصوصاً في حق الدين .

          وأيضاً لو وجب التكليف لكان لابد ان برسل في كل قرية وبلدة الرسل متوالياً ، ولم يقع زمن الفترة ، ولم يخل قطر وناحية عن رسول ، لأن العقل لا يكفى في معرفة التكاليف بالإجماع ، والحاجة للرسول ماسة بالضرورة .

          وأيضاً كان على الله تعالى أن ينصب بعد موت النبي إماماً غالباً غير خائف ، ويويده بالآيات والمعجزات حتى يبلغ الأحكام بلا خوف وهيبة ، ولم يدع المكلفين غافلين عن أحكام الشرع ويدعون سكان شواهق الجبال ، ولم يفوض إمامه بأيدى جماعة لم يكن لهم قدرة على إظهار الأحكام الشرعية ! بل هم أيضاً كانوا يمضون بالتقية في لباس غيرهم من الكفرة والظلمة ! .

          وأيضاً يعتقدون ان ( اللطف واجب على الله تعالى ) ويبينون معنى اللطف انه هو ما يقرب العبد إلا الطاعة ويبعده عن المعصية بحيث لا يؤدى إلى الإلجاء . وهذا أيضاً باطل لأن اللطف لو كان واجباً لم يكن لعاص أن تتيسر استبيان عضيانه ، وأجتمع لكل موجبات طاعاته ، وشاهده محسوس في العالم أن أكثر الأغنياء والموسرين يظمون ويعصون ويبغون في الأرض بكثرة أموالهم وقوة عساكرهم ، وأكثر الفقراء يبغون بسبب أفلاسهم ويحرمون من العبادات . وكثير من اصحاب العلم لا يحصل لهم معلم يعلمهم ولا تتأبي لهم الفراغة ولا تتيسر لهم القوة ، وكثير من أصحاب الشهوات والمفسدين يصل إليهم من كل جانب أسباب فسقهم بلا كلفة وقصور ، فلو كان اللطف واجباً لكان الأمر منعكساً . ومخالفة هذه العقيدة للكتاب والعترة والعقل السليم أجلى من النهار : أما الكتاب فقوله تعالى ] ولو شاء لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول منى لأملان جهنم من الجنة والناس أجمعين [ ، و] ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدى من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون [ ، ] ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة [ والآيات الدالة على الأستدراج ومكر الله تعالى والإبعاد عن الإيمان والطاعة مثل ] فكره الله أنبعاثهم فثبطهم وقيل أقعدوا مع القاعدين [ ، ] والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون [ ، ] فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم ابواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ وأمثال ذلك أزيد من أن يحصى . وأما العترة فقد سبق ( 1 ) ما في الكلينى عن الصادق قال : إذا أراد الله بعبد سوءاً نكت في قلبه نكتى سوداء ، الحديث المتقدم .

          وايضا ًيعتقدون ( وجوب الأصلح عليه تعالى ) ، وهذا باطل بمثل ما مضى ، وأيضاً لو كان الأصلح واجباً لم يسلط الشيطان على بنى آدم الذى هو عدو قوى من غير جنسهم وهم لا يرونه حتى يحترزوا منمه ويدفعوه عن أنفسهم وهو يراهم ويتمكن من وسوستهم وقادر على إضلالهم بالإغواء ويصيبهم تصرفه في قلوبهم فضلاً عن الأعضاء الأخر ، فإنه يجرى منهم مجرى الدم . نعم خلق الشيطان ثم إلقاء العداوة بينه وبين الإنسان ثم إبقاؤه وإنظاره القدرة على إغواء بنى آدم بالتصرف كل منهم ، يقلع أصل الأصلح ومارنه .

          وأيضاً كان الأصلح في حق بنى إسرائيل أن السامرى لم يكن يقدر جبريل . ولم يعلم اصلاً خاصة ما مس حافر فرسه . وإذ رآه وعلم خاصته فهو لم يكن يقدر على قبضه من ذلك التراب ، وإذ أخذه فقد كان ضاع منه ، ولما وقع هذا كله خلافاً لذلك ، فأين بقى الأصلح ؟ وأيضاً كان الأصلح في حق الكافر المسكين المبتلى بالفقر والأحزان والآلام والأمراض أن لا يخلق أصلاً ، وإن خلق مات صغيراص ليخلص من العذاب الأبدى الأخروى . وكان الأصلح في حق أصحاب الرسول r وأمته أن ينص على خلافه أبي بكر صريحاً لا على خلافة الأمير حتى يعلموا بوفقه ولا يذهبوا إلى خلافه . وأيضاً يقول الله تعالى في كتابه ] بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان [ فلو كانت الهداية إلى الإيمان واجبة عليه تعالى لم يمن بها على عباده ، إذ لا منة في أداء الواجب .

          ويعتقدون أيضاً أن ( الأعواض واجبة عليه تعالى ) يعنى إذا أصاب الله عبداً بألم أو نقصان في ماله وبدنه وجب عليه تعالى أن يعطيه نفعاً يستحقه ذلك العبد . وعقيدتهم هذه بعد دراية ما بين العبد والرب من علاقة المالكية والمملوكية باطلة ، إذ العوض يجب إذا تصرف في ملك المالك ، ولا ملك في العالم لغيره تعالى ، ونعيم الجنة في الحقيقة محض تفضل منه ، لأن العبد لو صرف جميع عمره في الطاعة والعبادة لا يمكن أن يؤدى شكر نعمة واحدة من نعمة الخفية الدقيقة فضلاً عن أن يستحق عليه عوضاً به ، فإن كل ما يفعله الإنسان لا يكافئ نعمة الوجود وحدها ، فكيف يكون حال ما يقتضى غيره من النعم الكثيرة ] وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ ولذلك قال r
(( ما أحد يدخل الجنة بعمله إلا برحمة الله . قيل ولا أنت ؟ قال : ولا أنا )) . وقد صح عند الشيعة ثبوت هذا المعنى بالتواتر من أحاديث الأئمة : روى ابن بابويه القمى في ( الأمالى ) من طريق صحيح عن على بن الحسين أنه كان يدعو بهذا الدعاء (( إلهى وعزتك وجلالك لو أنى منذ أبدعت ---------------------------

( 1 ) في ص 84 .

فطرتى من أول الدهر عبدتك دوام خلود ربوبيتك لكل شعرة في طرفه عين سرمدا لابد بتحميد الخلائق وشكرهم أجمعين لكنت مصراً في بلوغ شكر أخفى نعمة من نعمك . ولو أنى كربت معاول حديد الدنيا بأنيابي وحرثت ارضها بأشفار عيني وبكيت من خشيتك مثل بحور السماوات والأرض دماً وصديداً لكان ذلك قليلاً من كثير من وفاء حقك على ولو أنك إلهى عذبنتى بعد ذلك بعذاب الخلائق أجمعين ، وعظمت للنار خلقى وجسمى وملآت جهنم منى حتى لا يكون في النار معذب غيرى ولا يكون لجهنم حطب سواى لكان هذا لك على قليلاً من كثير ما أستوجبت من عقوبتك )) . وفي ( نهج البلاغة ) عن أمير المؤمنين قال (( لا يأمن خير هذه الأمة من عذاب الله )) .

          العاشر : منها كل ما يصدر من الإنسان أو الجنة أو الشياطين أو غيرهم من المخلوقات من خير وشر وكفر وإيمان وطاعة ومعصية وحسن وقبح كلها من خلق الله تعالى بإيجاده وليس للعبد قدرة على خلقه ، نعم له كسبه والعمل به ، وبهذا الكسب والعمل سيجزى إن شراً فشر وإن خيراً فخير ، هذا هو مذهب أهل السنة .

          وقال الإمامية : إن العبد يخلق أفعاله ولا دخل لله تعالى في أقوالهم وأفعالهم الإرادية ، بل في جميع أفعال الطيور والبهائم والوحوش وسائر الحيوانات التى تفعل بالإرادة . وعقيدتهم هذه مخالفة للكتاب والعترة : أما الكتاب فقوله تعالى ] والله يخلقكم وما تعلمون [ وقوله ] خالق كل شئ لا إله إلا هو [ وقوله ] ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله [ وقوله ألم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن [ وغيرها من الآيات .

          وأما العترة فقد روت الإمامية بأجمعهم عن الأئمة أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، ذكر تلك الروايات شارح العدة . ومع هذا يعتقدون أن هذه المسألة كذلك بزعمهم مخالفين للأئمة صريحاً ، ولا تمسك لهم في ذلك إلا بعده شبهات أتخذوها ملجأ بأتباع المعتزلة ، قالوا لو كان الله تعالى لأفعال عباده يلزم بطلان أمر الثواب والعقاب والجزاء كلها ، لأنهم لا يكون لهم دخل في أفعالهم ، وتعذيب من لا دخل له في فعله ظلم صريح .

          واجاب أهل السنة بمنع الملائمة ، وذلك أنهم قالوا : إنا نثبت أمر الثواب والعقاب والجزاء على أصول الشيعة وعلى وفق رواياتهم عن الأئمة ، مع كونه تعالى خالقاً لأفعال عبداه بطريقين : ( الأول ) أن جزاء أفعال كل واحد مطابق لعلمه وتقديره تعالى في حق كل واحد ، مثلاً ثبت في علم الله أن أفعالهم وأعمالهم لو أحالها وفوض عملها إليهم يطيع فلان ويعصى فلان ، يعنى يخلق في المطيع طاعته والعاصى معصيته والكافر كفره والمؤمن إيمانه وقد قام شاهد هذا التقرير والعلم في العباد ايضاً وذلك ميلهم وهوى أنفسهم ، فميل المؤمنين إلى الإيمان وميل الكافرين إلى كفر وميل أهل الطاعة وميل أهل الفسق إليه كل يرجح في قلبه ماله ميل إليه ويخلقه الله تعالى على يده ، فجزاء الخير والشر بناء على علمه تعالى في إيجادهم لو فرض إليهم ، فهم وإن لم يكونوا خالقين لأفعالهم حقيقة ولكن لا شبه في خلقهم تقديراً فلو جعل الكافر قادراً على خلق أفعاله لخلق الكفر . وكذا لو كان المؤمن يعطى القدرة على هذا الآمر لخلق الإيمان ، وعلى هذا القياس في جميع الأفعال والأقوال . والجزاء المبنى على علمه في حق كل ليس ظلماً عند الشيعة لأن جزاء أطفال المشركين بهذه الوتيرة عندهم بلا تفاوت ، روى ابن بابويه عن عبد الملك بن سنان قال : سألت أبا عبدالله u عن أطفال المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث ، قال : الله اعلم بما كانوا عاملين يدخلون مداخل آبائهم .

          وروى عن وهب بن وهب عن أبيه عن ابي عبدالله أيضاً أنه قال : أولاد الكفار في النار . فإذا لم يكن عذاب الصبي غير المكلف لكونه كافراً وعاصياً في علم الله تعالى من غير أن يوجد فيه شاهد هذا العلم من ميل النفس وهواها ظلماً ، لم يكن ظلماً تعذيب المكلف على فعله الذى يوجده ويخلقه بوفق إرادته وهوى نفسه لأجل أنه يفعل هذا الفعل ويخلقه لو قدر عليه . وهذا الوجه مصرح به ومبين في روايات الأئمة في كتب الشيعة : روى الكلينى وابن بابويه وآخرون منهم عن الأئمة أن الله خلق بعض عباده سعيداً وبعض عباده شقياً لعلمه بما (( كانوا )) يعملون . ليتأمل في لفظ (( كانوا )) فإنه يفيد صريحاً معنى الفرض والتقدير . وروى الكلينى وغيره من الإمامية عن أبي بصير أنه قال : كنت بين يدى ابي عبدالله u جالساً فسأله سائل فقال : جعلت فداك با ابن رسول الله ، من أين لحق الشقاء بأهل المعصية حتى حكم لهم بالعذاب على عملهم في علمه ؟ فقال أبو عبدالله : أيها السائل ، علم الله عز وجل لا يقوم له احد من خلقه بحقه ، فلما حكم بذلك وهب لأهل المحبة القوة على طاعته ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ماهم أهله ووهب لأهل المعصية القوة على معصيتهم بسبق علمه فيهم ومنعهم إطاقة القبول منه فوافقوا ما سبق لهم من علمه تعالى ولم يقدروا أن يأتوا حالاً تنجيهم من عذابه لأن علمه أولى بحقيقة التصديق وهو معنى شاء ما شاء وهو سره وروى الكليفي عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله u أن قال : إن الله خلق السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه فمن خلقه سعيداً لم يبغضه أبداً وإن عمل سوءاً أبغض عمله وإن خلقه شقياً لم يحبه أبداً وإن عمل صالحاً أحب عمله ولو كان الجزاء على خلق عمله من عنده الواقع موافقاً لهوى العبد ظلماً يلزم أن يكون خلق نفسه وقواه مع تسليط الشيطان عليه ومنع الألطاف وإطاقة القبول في حقه ظلماً أيضاً . وقد وقع صريحاً في الروايات المذكورة هذه الجمل : ووهب له قوة المعصية ومنع عنه إطاقة القبول ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم . وقد ورد أيضاً في الروايات السابقة عن أبي عبد الله أنه قال : إذا أراد الله بعبد سوءاً نكت في قلبه نكنة سوداء الحديث المتقدم (1) . وظاهر أن العبد يكون على هذا مضطراً وملجئاً بفعل المعصية لعدم قدرته على الطاعة والعبادة بهذه المعاملة التي عامل الله بها في حق عبده .

          ( الطريق الثاني ) أن الجزاء ليس على العمل حتى يكون دخل العبد ضرورة بل على ميل قلبه وهو نفسه الذي يقارن كل عمل من الخير والشر ولهذا رفع عن العباد السهو والنسيان والخطأ والإلزام مع أن صدور سوء الفعل يكون من العبد في هذه الحالات أيضاً ولكن لما لم يكن قلبه وهوى نفسه بذلك الفعل يعفى عنه ذلك الصدور ولهذا يجزي على نية الخير والشر وإن لم يعمل ففي الكافي للكليبي عن السكونى عن أبي عبدالله u قال : قال رسول الله r (( نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله )) ووجه كونها خيراً و شراً إنما هو مدار الجزاء عليها .

وفيه أيضاً عن أبي بصير عن أبي عبدالله قال : إن العبد المؤمن الفقير ليقول يارب ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير فإذا علم الله عز وجل ذلك منه بصدق نيته كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب لو عمله ولهذا جعل الرياء والسمعة محبطين لثواب العمل كما ذكره مفصلاً في باب الرياء في الكافي (2) من ذلك ما روى عن يزيد بن خليفة قال : قال أبو عبد الله : كل رياء شرك ، إنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس ومن عمل لله كان ثوابه على الله أيضاً قد ورد في الحديث المتفق عليه أن الندامة هي التوبة . فقد علم أن مدار تأثير العمل على ميل القلب وهوى النفس ولما ذهبت شهوة العمل في حالة الندامة ذهب أثرها أيضاً ولو بعد مدة وزمان طويل . وفي الكافي عن أبي جعفر عليه السلام قال : كفى الندم توبة . وأيضاً عن أبي عبد الله قال : إن الرجل ليذنب فيدخله الله به الجنة . قالت : يدخله الله بالذنب الجنة ؟ قال : إنه يذنب فلا يزال منه خائفاً ماقتاً لنفسه فيرحمه الله ويدخله الجنة . وإذا كان مدار الجزاء على النية وميل النفس واستحسان القلب فإن خلق الله أفعالاً على وفق إرادة العبد وميله وهوى نفسه وجازى العبد على ذلك فلم يكن ظلماً ، نعم يتصور الظلم لو كان خلق أفعال العبد ابتداء من دون تخلل إرادته وميله كأفعال الجمادات من نحو إحراق النار وقتل السم وقطع السيف وكسر الحجر ، وإذا كانت أفعال العباد تابعة لإرادتهم وأهواء أنفسهم كان لهم دخل في تلك الأعمال فوجدوا منها حظاً فذاقوا جزاءها بحسب ذلك ، وهذا هو معنى الكسب والاختيار عند التحقيق . هذا وإذا قيل إن ذلك الميل وهوى النفس من خلقه وإيجاده إذ ظاهر أن العبد لا قدرة له على إيجاده والله سبحانه إذا خلق الميل والهوى فلم يؤاخذ العبد على ذلك ويجازيه ؟ فجوابه أن هذه الشبهة مع اعتقاد أن العباد خالقون لأفعالهم أيضاً واردة على الشيعة ، لأن الدواعي الواردة على جميع الأسباب والمبادئ
-----------------

(1) في ص 84 و85                                                       (2) ص 221 طبعة 1278 .

لصدور الفعل من القدرة والقوة والحواس والجوارح بل وجود العبد الذي هو أصل الأصول للأفعال كلها مخلوقة لله تعالى بالبداهة والإجماع ولا دخل فيها للعبد أصلاً . وتحقيق المقام أن الاختيار لا قارن الفعل وتوسط معه صار ذلك الفعل اختيارياً وخارجاً من حريم الاضطرار ومورداً للمدح والذم ومحلاً للثواب والعقاب وكون الاختيار باختياره ليس ضرورياً بل هو محال للزوم التسلل إذ ليس لأحد في المشاهدة قدرة على خلق الاختيار أصلاً في غيره وصعب على العقل فهم هذا المعنى بالقياس لفقدان النظر الجزئي ، ولكنه إذا خلى نفسه حتى يبعد عن شوائب الأوهام ومأخوذية المألوفات ، ويحصل له الصفوة بعد ذلك ، يجزم بأن مدار كون العقل أختيارياً على وجود الاختيار لا على إيجاد الفعل ولا على إيجاد الاختيار . مثلا لو أراد عبد أحد أن يأبق ، وأبلغه الآخر إلى مقصده بعد ما أطلع على إرادة قلبه وميله بأظهاره أو بوجه آخر ، يكون هذا الإباق منسوباً إلى ذلك العبد عند العقل البته ، وإن كانت مباشرة الفعل حاصلة من الغير ومبنى قلب العبد حاضر له من نفسه . فإذن ظهر لك أن ليس الفرق في اعتقاد أهل السنة والشيعة بذلك إلا هذا القدر : إن أهل السنة يعتقدون أن اختيار العبد محفوف من كلا الجانبين بفعل الله تعالى : من الجانب الفوقاني بخلق الاختيار والإرادة والهوى وميل النفس ومن الجانب التحتاني بخلق الفعل . والشيعة يعتقدون أن اختياره من الجانب الفوقاني بفعل الله تعالى لا من الجانب التحتاني وهو خلق الفعل فإنهم يقولون إن خلق الفعل وظيفة العبد . وعلى العاقل هنا أن يتأمل ، فإن الجانب الفوقاني للاختيار إذا كان في يد الغير لزم الجبر ونشأ الإشكال في أمر الجزاء والثواب والعقاب فترك البديهة العقلية التي هي قاضية باستحالة صدور الإيجاد من الممكن عن اليد مجاناً ثم الانغماس في الدخل الشيطاني أي لطف يكون له (1) وقد نقل سابقاً برواية صاحب المحاسن وهو البرقي (2) وبرواية الكليني عن أبي الحسن الكاظم أنه قال لا يكون شيء إلا ماشاء الله وأراد . وقد روى عن رئيس فقهاء أهل السنة أبي حنيفة الكوفي أنه قال : قلت لأبي جعفر بن محمد الصادق : يا ابن رسول الله هل فوض الله الأمر إلى العباد ؟ فقال : الله أجل من أن يفوض الربوبية إلى العباد . فقلت : هل أجبرهم على ذلك ؟ فقال : الله أعدل كمن أن يجبرهم على ذلك . فقلت : وكيف ذلك ؟ فقال : الله أعدل من أن يجبرهم على ذلك . فقلت : كيف ذلك ؟ فقال : بين بين ، لا جبر ولا تفويض ولا إكراه ولا تسليط . وضع أهل السنة بناء مذهبهم على هذه الرواية في مسألة خلق الأفعال حيث يعتقدون نفي الخلق عن العباد ولا خلق إلا لله ، ويثبتون الكسب لهم مطابقاً لإرشاد الإمام الصادق . وهذه
------------------------

(1)   في العبارة غموض ولعل فيها تحريفاً من الطبعة الهندية .

(2)  انظر ص 84و85 والبرقي هو أحمد بن محمد بن خالد المتوفى سنة 274 . له ترجمة في ( روضات الجنات ) ص13/14 من الطبعة الثانية ، وفي ( هدية الأحباب ) ص 105 .

الرواية بعينها في كتب الإمامية فقد روى محمد بن يعقوب الكليني عن أبي عبدالله أنه قال : لا جبر ولا تفويض ولكن بين أمرين . وروى الكليني أيضاً عن إبراهيم عن أبي عبدالله مثل ذلك .أيضاً عن أبي الحسن محمد بن الرضا نحوه . وأول علماء الشيعة هذه الروايات المذكورة الموافقة لأهلب السنة صريخاً فقالوا المراد من أمر بين أمرين خلق القوة والقدرة والتمكين على الفعل لا الدخل في إيجاد الفعل . ولا يفهمون أن سؤال السائل عما إذا كان وأين يذهبون بجواب الإمام مجرداً وأي عاقل سأل عن تفويض خلق القوة والقدرة على العمل فإنه بديهي البطلان وإنما البحث والنزاع إن كان ففي خلق الفعل فجواب الإمام يجعلونه لغواً مهملاً بتوجيههم هذا معاذ الله من ذلك . ومع هذا لايجدى هذا التوجيه نفعاً لأن هذا التفويض يوجد في نفيه أيضاً علة البحث والاعتراض ومع قطع النظر عن ذلك فإن أهل السنة في أيديهم روايات صريحة مستخرجة من كتب الشيعة تحسم مادة التأويل : منها الرواية التي أوردها صاحب ( الفصول ) من الامامية فيه وصححها عن إبراهيم بن عياش أنه قال : سأل رجل الرضا أيكلف الله العباد مالاً يطيقون ؟ فقال : هو أعدل من ذلك . قال : فيقدرون على الفعل كما يريدون ؟ قال : هم أعجز من ذلك . فقد نفى الإمام القدرة صريحاً في هذا الحديث الصحيح . ومنها ما في ( نثر الدرر ) : سأل الفضل بن سهل بن موسى الرضا في مجلس المأمون فقال : يا أبا الحسن الخلق يجبرون ؟ قال : الله أعدل أن يجبر ثم يعذب . قال فمطلقون ؟ قال : الله أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه . وإذ اتضح مخالفة علمائهم في عقيدتهم للأئمة فاستمع مالقبهم به الأئمة من الألقاب السيئة فقد روى محمد بن بابويه في كتاب التوحيد عن أبي عبدالله أنه قال : القدرية مجوس هذه الأمة أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه عن سلطانه . وفيهم نزلت هذه الآية ] يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس صقر إنا كل شيء خلقناه بقدر [ وروى الكليني عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبدالله : شاء وأراد وقدر وقضى ؟ قال : نعم . قلت : وأحب ؟ قال : لا .

الحادي عشر منها أن العبد ليس له اتصال مكاني وقرب جسماني بالله تعالى ممكناً وما يتصور في حقه من القرب فإنما هو بالدرجة والمنزلة عنده تعالى ورضوانه عنه فقط . وهذا هو مذهب أهل السنة وقد ثبت في الأخبار الصحيحة المروية عن العترة الطاهرة بروايات الشيعة أن الأسمة قد نفوا عن الله تعالى المكان والاتصال والأين وغيرها . وقال أكثر فرق الإمامية بالقرب المكاني والصورى ، ويحملون المعراج على الملاقاة المتعارفة الجسمانية روى ابن بابويه في كتاب ( المعراج ) عن حمران بن أعين عن أبي جعفر u أنه قال في تفسير قوله تعالى ] ثم دنى فتدلى [ أدنى الله عز وجل نبيه r فلم يكتن بينه وبينه إلا قفص من لؤلؤ فيه فراش يتلألأ من ذهب فأراه صورة فقيل : يا محمد أتعرف هذه الصورة ؟ قال : نعم هذه صورة على بن أبي طالب .

الثاني عشر  منها أن رؤية الله تعالى ممكنة عقلاً وسيراه المؤمنون بعيون رءوسهم جزماً ويتشرفون في الجنة بهذه النعمة بحسب مراتبهم والكافرون والمنافقون محرومون منها . وهذا هو مذهب أهل السنة وتمسكهم على هذا المطلب بالنقل والعقل : أما النقل فقوله تعالى حكاية عن موسى ] رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني [ ووجه الاستدلال به أمران : الأول أن سؤال موسى الرؤية يدل على إمكانها لأن العاقل – فضلاً عن النبي – لا يطلب المحال ولو بتكليف الغير ولا مجال للقول بجهل موسى u بالاستحالة ، فإن الجاهل بما لا يجوز على الله تعالى لا يصلح من النبوة هداية الخلق إلى العقائد الحقة والأعمال الصالحة ولا ريب في نبوة موسى وأنه كبار الأنبياء وأولى العزم وأيضاً أن يقال إنما سأل موسى الرؤية بتكليف القوم حيث قالوا ] لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة [ وقالوا ] أرنا الله جهرة [ ولتبكميتهم إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب عليه أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم لما قالوا ] اجعل لنا إلهاً [ الآية . وأيضاً لو كان سألها بتكليفهم لقال (( رب أرهم ينظروا إليك )) . والثاني أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه والمعلق على الممكن ممكن لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة . وأيضاً ما صح عن النبي r أنه قال (( إنكم سترون ربكم عياناً يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون )) وهذه الرؤية متعدية إلى مفعول واحد فهى من رأى العين لا من رأى القلب . ووجه الاستدلال به أن الرؤية لو كانت محالاً لما بشر النبي بها المؤمنين لأن بشارته متحتمة الوقوع والمحال لا يمكن وقوعه والتشبيه المذكور في الحديث تشبيه الرأى بالرأى في الحالتين دون المرئى بالمرئى . وقوله تعالى ] وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ والنظر المتعدي بغلى هو بمعنى الرؤية و (( إلى )) ههنا حرف جر لا اسم مفرد ، وليس النظر متعدياً إليه بنفسه فإن النظر يكون حينئذ بمعنى الانتظار وهو غم ونقمة كما قيل (( الانتظار موت أحمر )) لا نغمة ومسرة ، وقد سبقت الآية في بشارة المؤمنين بنعيم الجنة وسرورها والانتظار يوجب الغم ولا يناسب سياق الآية . وأما العقل فهو أنا نرى الأعراض – كالألوان والأضواء وغيرهما – والجواهر – كالطول والعرض – في الجسم فلا بد له من علة مشتركة بينهما بل من شيء مشترك بينهما يكون المتعلق الأول للرؤية وذلك الأمر إما الوجود أو الحدوث أو الإمكان ، والأخيران عدميان لا يصلحان لتعلق الرؤية بهما فلم يبق إلا الوجود وهو مشترك بين الواجب والممكنات فيجوز رؤيته عقلاً ، والمراد بالوجود مفهوم مطلق الوجود الحقيقى وما به الموجودية ، وبالجملة إن المعتمد في مسالة الرؤية إجماع الأمة – قبل حدوث المبتدعين – على وقوعها ، وهو مستلزم لجوازها ، وعلى كون الآية الكريمة محمولة على الظاهر المتبادر منها .

          وقد أنكر الرؤية جميع فرق الشيعة – إلا المجسمة منهم – وقالوا يستحيل رؤيته تعالى . وعقيدتهم هذه مخالفة للكتاب والعترة . أما الكتاب فقوله تعالى ] وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ وقوله تعالى في الكفار ] كلا إنهم عن ربهم يؤمئذ لمحجوبون [ فعلم ان المؤمنين لا يكون لهم حجاب عن ربهم ، وقوله تعالى ] إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [ فقد علم أن المؤمنين والصلحاء هؤلاء سيكن لهم نظر وكلام من الله تعالى إلى غير ذلك من الآيات.

          الثاني أن متمسك هؤلاء المنكرين في نفي الرؤية ليس إلا الاستبعاد وقياس الغائب على الشاهد واشتباه العاديات بالبديهيات  وغاية سوء الأدب ممن يؤول آيات الكتاب بمجرد استبعاد عقله الناقص ، ويصرفها عن الظاهر ، ولا يتفكر ولا يتأمل في معانيها .

          وفي آية ] لاتدركه الأبصار [ نفي للإدراك الذى هو بمعنى الإحاطة لا نفى الرؤية ، ولا يستلزم نفيه نفيها ، لأن الإدراك والرؤية متباينان في الحقيقة ، وبملاحظة إسناده إلى الأبصار بوجه أخص منها فإنه إبصار وإنكشاف المرئي التام بالبصر . والإدراك في اللغة الإحاطة بدليل قوله تعالى ] حتى إذا ادركه الغرق [ وقوله ] قال اصحاب موسى إنا لمدركون [ ونفى أحد المتباينين لا يستلزم نفى الآخر ، وكذا نفى الأخص لا يستلزم نفى الأعم ، وأما ما يرادف العلم فهو المصطلح لا غير ، لأن الإدراك بمعنى العلم والإحساس ليس في اللغة أصلاً ، ولا شك أن الإحاطة نقص له تعالى فنفيها مدح ، والرؤية ليست كذلك . فعلى هذا معنى الآية : إن الله تعالى لا تحاط ذاته المقدسة بحاسة البصر . ولو فرضنا كون الإدراك بمعنى الرؤية لكان نفيها في الآية بناء على العادة ، وظاهر أن رؤيته تعالى بحيث كل ما أراد فيراه ، ولا يمكن لأحد أن يراه مالم يره الله ذاته تعالى ، وقد وقع في كلامه تعالى نفى العادة بالإطلاق كقوله تعالى ] إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم [ وبالإجماع يجوز رؤية الجن والشياطين بطريق خرق العادة ، ولهذا أستعظم وأستبعد سؤال الكفار رؤية الملائكة مع أنهم يراهم الأنبياء والصلحاء والمؤمنون ، وأيضاً ليس النفي في الآية عاماً في الأوقات ، فلعله مخصوص ببعض الحالات ، ولا في الأشخاص فإنه في قوة قولنا لا كل بصر يدركه ، مع ان النفي لا يوجب الامتناع .

          أما العترة فقد روى أبن بابويه عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله فقلت : أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال : نعم . إلى غير ذلك من الأخبار .

 

الباب الرابع

في النبـوة

العقيدة الأولى : أعلم أن الشيعة يعتقدون أن بعث الأنبياء واجب على الله تعالى . ولا يليق ذلك بمرتبة الربوبية والألوهية ، فإن الله هو الحاكم الموجب على عباده ، فمن يحكم عليه بوجوب شئ ؟ نعم تكليف العباد وبعثة الأنبياء واقع حتماً ولكن بمحض فضله وكرمه ، بحيث لو لم يفعل ذلك لم يكن لهم مجال شكاية ، فإذا فعل فهو عين فضله ومحض رحمته ، وهذا هو مذهب أهل السنة ، ولو كان بعث الأنبياء واجباً عليه تعالى لم يمتن ببعثهم في كثير من الآيات ، قال تعالى : ] بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان [ وقال تعالى ] لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم [ الآية وغيرها من الأيات . وظاهر أنه ليس في أداء الواجب منه . وأيضاً لو كان واجباً لما سأله إبراهيم وطلب منه البعث في ذريته وبناء على كونهم مكلفين ووجوب تكليفهم قال ] ربنا وأبعث فيهم رسولاً من أنفسهم [ الآية لأن الدعاء بما هو واجب الوقوع لغو لا معنى له ، والأنبياء منزهون عن اللغو .

وأعلم أن الإمامية لابد عندهم أن لا يخلو زمان من نبي أو وصي قائم مقامه ، وهو يعلمون أن بعث النبي أو نصب الوصي واجب عليه تعالى . ولا يعتقد أهل السنة وجوب شئ على البارى تعالى .

وعقيدة الشيعة هذه مخالفة للكتاب والعترة : أما الكتاب فلأن كثيراً من آياته تدل على وجود زمن الفترة وخلوه عن النبوة وآثارها ، كما قال الله تعالى ] يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترةٍ من الرسل [ وغيرها من الآيات . وأيضاً تدل آيات كثيرة بالصراحة على ختم النبوة كقوله تعالى ] ولكن رسول الله وخاتم النبيين [ وفي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر ( 16 ) قال عيسى للحواريين (( وأنا أطلب لكم من أبي أن يمنحكم ويعطيكم فارقليط ليكون معكم دائماً إلى الأبد )) وفارقليط في اللغة العبرية بمعنى روح الحق واليقين ، وهو لقب نبينا r . وأما أخبار الأئمة في هذا الباب فأريد من الحد والآحصاء ، وقد تواتر عن الأمير في صفة الصلاة على النبي في كتب الإمامية هذه العبارة (( اللهم داحى المدحوات وفاعم المسموكات ، أجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق )) ، وأيضاً ورد في بعض خطب الأمير المتواترة عند الشيعة هذه العبارة (( أرسله على فترة من الرسل ، وطول هجعه بين الأمم )) إلى أن قال (( وأمين وحيه وخاتم وبشير رحمته ونذير نقمته )) وهذه الخطبة كما تدل على ختم النبوة كذلك تدل على وقوع الفترة أيضاً ، ومعنى الفترة إنما هي ان لا يكون نبي ولا قائم مقامه في الزمان ، ولو أريد في معنى الفترة عدم نبي في الزمان فقط يلزم أن يكون زمن الأمير بعد وفاة النبي r أيضاً زمان الفترة ، وأنت تعلم أن حكم زمان الفترة بنبي آخر الزمان لدوام شريعته إلى يوم القيامة فلا يصح أن يقال بالفترة بعد وفاته r .

العقيدة الثانية : أن الأنبياء أفضل من جميع خلق الله حتى الملائكة المقربين ، ولا يمكن أن يستوى غير النبي في الثواب والقرب والمنزلة عند الله تعالى ، فضلاً عن أن يكون أفضل منه . وهذا هو مذهب أهل الحق وجميع فرق الإسلام إلا المعتزلة في الملائكة المقربين ، والإمامية في الأئمة الأطهار . ولهم في هذه المسالة تنازع وتخالف كثير فيما بينهم ، ولكنهم أجمعوا على أن الأمير أفضل من غير أولى العزم من الرسل والأنبياء ، وليس بأفضل من خاتم النبيين عليه وعليهم السلام .

وأما غيره من سائر أولى العزم فقد توقف فيه بعضهم كابن المطهر الحلى وغيره ، ويعتقد بعضهم أنه مساو لهم وهذا مخالف لما ورد عن الأئمة ، وأن من قال غير ذلك فهو ضال . وروى ابن بابويه عن الصادق ما ينص على أن الأنبياء أحب إلى الله تعالى من علي . ولكتاب الله لأنه يدل في جميع آياته على أصطفاه الأنبياء وأختيارهم على جميع العالم ، والعقل يدل صريحاً على أن جعل النبي واجب الإطاعة وجعله أمراً وناهياً وحاكماً على الإطلاق والإمام نائباً وتابعاً له لا يعقل بدون فضيلة النبي عليه ، ولما كان هذا المعنى موجوداً في حق كل نبي ومفقوداً في حق كل إمام أفضل من نبي أصلاً بل يستحيل ، لأن النبي متوسط بين العبد والرب في إيصال الفيضان إليهم فالذى يستفيض منه لو كان أفضل منه أو مساوياً له لزم أن يكون أرفع منه في إيصال الفيض ، ومفيضاً له أو مشتركاً معه في الإيصال ، وهذا خلف .

وهم يقولون إن الإمامية نيابة النبوة ، ومعلوم أن مرتبة النيابة لن تبلغ مرتبة الأصالة أبداً فضلاً عن أن تفوقها ، ومتمسكهم في هذا الباب عدة شبهات واهية ناشئة من عدة أخبار أثبتهامتقدموهم في كتبهم فحكموا بموجبها . وقد تبين حال رواتهم ورجالهم وكيفية الحكم بصحة الخبار الصادرة من علمائهم التى لا يستقيم الاحتجاج بها على وفق القواعد الأصولية لأنها معارضة للإجماع القطعي قبل ظهور المخالف ، فلا يجوز القول بظاهر تلك الروايات بل يجب أن تؤول .

وأيضاً هي معارضة للروايات الآخر كرواية الكلينى عن زيد بن علي وابن بابويه عن الصادق المذكورة آنفاً ، وخبر الواحد – وإن كان بلا معارض أيضاً – ظنى لا يتمسك به في اصول العقائد بل هو عند محققى الشيعة الإمامية كابن زهرة ( 1 ) وابن أدريس ( 2 ) وابن البراج
( 3 ) والشريف المرتضى ( 4 ) وأكثر قدمائهم غير صالح للأحتجاج به وقد اختار متأخروهم هذا المذهب ولهذا لم يعدوا أخبار الآحاد في الدلائل بل أوجبوا ردها خصوصاً في الأعتقادات ، قال ابن المطهر الحلى في ( مبادئ الوصول إلى علم الأصول ) : إن خبر الواحد إذا أقتضى علماً ولم يوجد في الادلة القاطعة ما يدل عليه وجوب رده . وظاهر أن مدلول هذه الروايات ليس موجوداً في الدلائل القطعية ، بل خلافه يوجد ، ومع قطع النظر عن هذه الأمور كلها لا دلالة أيضاً لتلك الروايات على المدعى .

ولنذكر عدة من شبهاتهم ونبين عدم دلالتها على مدعاهم فنقول : ( الشبهة الأولى ) أن الأئمة كانوا أزيد من الأنبياء علماً فيكونون أفضل منهم رتبة أيضاً ، لأ، الله تعالى يقول : ] قل هل يستوى الذين يعملون والذين لا يعملون [ وقد روى الراوندى عن أبي عبد الله قال : إن الله فضل أولى العزم من الرسل على الأنبياء بالعلم ، وورثنا علمهم وفضلنا عليهم ، وعلم رسول الله r مالا يعلمون ، وعلمنا علم رسول الله r وتلا الآية المذكورة . ( الجواب ) عن هذه الشبهة بأن هذا الخبر بعد تسليم صحته يدل على زيادة الأئمة في العلم واستيعابهم علوم المرسلين لأن المتأخر يكون مطلعاً على علم المتقدم وناظراً فيه فيحيط بعلمه ، بخلاف المعاصر والمتقدم فإنه لا يمكن له ذلك ، مثاله أن النحوى في هذا العصر يكون مطلعاً على مسائل ( اللباب ) و ( الوافى ) وتصانيف ابن مالك وابن هشام والأزهرى وغيرهم ممن سبقوا من النحاة ، ويكون بلا شبهة علمه بمسائل النحو أزيد من علم كل هؤلاء المذكورين ، لأن كل واحد منهم لم يكن مطلعاً على المسائل المستخرجة لغيره والأفكار الناشئة من طبعه البتة ، وقد تقرر أن الصناعات إنما تتكامل بتلاحق الأفكار ، وهذا النحوى المتأخر حصل له الوقوف على كل منها ، ومع هذا لا تكون رتبته في النحو مساوية لرتبة أحد من أولئك العلماء فضلاً عن ان يتقدم عليهم لأن الرسوخ في العلم وتعمق النظر والغوص والفكر ومعرفة المسائل بدلائلها ودراية المآخذ لكل دقيقة واستخراج المسائل النادرة بقوة الفحص والتتبع في كلام العرب بالأصالة فضيلة لا يبلغها أصلاً الاستيعاب والغوص بتلك المسائل . وكذا المنطقى في هذا الزمان لا يكون مساوياً في المرتبة للمعلم الأول

------------------------

( 1 ) حمزة بن على بن زهرة الحلبي المتوفى سنة 585 وللشيعة علماء آخرون من بنى زهر .

( 2 ) محمد بن أحمد الحلى توفى في شوال 598 .

( 3 ) القاضى عبد العزيز بن نحرير توفى في شعبان سنة 481 .

( 4 ) على بن الحسين الموسوى ( 355 – 436 ) وهو أخو الرضى الشاعر .

والمعلم الثاني والشيخ الرئيس فضلاً عن أن يقال إنه أفضل منهم وسابقهم في الدرجة ، مع أنه يعلم مستخرجات كل منهم بحيث لم يكن لكل منهم الاضطلاع بها اصلاً .

والذى قرأ العروض لا يفوق الخليل ابن أحمد . سلمنا ولكن لا يلزم من كثرة العلم كثرة الثواب ، ومدار الفضل عند الله على كثرة الثواب لا على كثرة العلم ، وإلا فيلزم تفضيل الخضر على موسى وهو خلاف الإجماع . سلمنا ولكن كثرة العلم الموجبة لكثرة الثواب هو العلم الذى يكون مدار الاعتقاد والعمل عليه لا العلوم الزائدة ، وذلك العلم هو المراد في الآية المذكورة ، وكل نبي كان ذلك العلم حاصلاً له بوجه أتم . ولو كان للأئمة او لغيرهم من العلماء فضل وزيادة في العلم يكون ذلك في العلوم الاخر والدليل على هذا المدعى أن كل نبي لو لم يكن العلم الذى عليه مدار الاعتقاد والعمل حاصلا له بوجه أتم يخرج عن عهده التبيغ وبيان الأحكام ، وكيف يتم غرض البعثة . ومع قطع النظر عن هذه الأمور كلها لا يذهب عليك ما في هذه الرواية من الخلل والفساد ، فإن توريث الأئمة علم الأنبياء وتفضيلهم عليهم بذلك التوريث كما ذكر فيها يلزم منه أن يكون الأئمة افضل من نبينا r أيضاً ، إذ وجه التفضيل وهو توريث العلم ههنا ايضا ، وهو فاسد البتة بالإجماع .

وثانياً علم الأئمة لتعلمهم علم رسول الله r نابع فرع لعلمه وعلم الأنبياء أصل وأول وبالذات ، وما بالتبع لا يبلغ درجة ما بالذات ، وحيث قال تعالى ] وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسوله [ وقال أيضاً ] عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من أرتضى من رسول [ الآية يتبين منه أن غير الأنبياء ليس لهم علم مثل علم الأنبياء ، فبطل عنه التساوى والزيادة بالطريق الأولى . ومع هذا فالاستشهاد بالآية المذكورة أغرب لأن معناها عدم الاستواء بين العالم والجاهل كما هو الظاهر ، والأنبياء ما كانوا جاهلين بالإجماع ، وغاية ما في الباب تسليماً أن الأئمة كان علمهم زائداً على علم الأنبياء ، لا أن الأئمة علماء والأنبياء جهال ، معاذ الله من ذلك .

( الشبهة الثانية ) أنهم تمسكوا برواية الحسن بن كبش عن أبي ذر قال : نظر النبي r إلى على بن أبي طالب وقال : هذا خير الأولين والأخرين من أهل السماوات والأرضين . وأيضاً برواية عن أبي وائل عن عبد الله بن عباس قال حدثنا رسول الله r قال : قال لى جاء الإمامية بها ، وحال رواتهم قد أتضح سابقاً ( 1 ) ومع هذا هاتان الروايتان ساقطتان من الإعتبار عند
--------------------------

( 1 ) في الباب الثاني 47 – 50

الإمامية أيضاً وليس لهما سند صحيح ، لن الحسن بن كبش ومن بعده من الرواة كلهم مجاهيل وضعفاء كما نص عليه علماء رجالهم ، ومع هذه كلها لا تنطبق على المدعى لأن التخصيص بغير الأنبياء في مثل هذه العمومات شائع في كلام الرسول r ، فلو لم يذكر في موضع واحد اعتماداً على غيره مما ذكر فيه فيكون ذلك التقيد ملحوظاً فيه أيضاً قياساً على ذلك الغير والعام المخصوص لا يكون حجة في القطعيات لكونه ظنياً فلا يعبأ به في الاعتقادات . سلمنا العموم في الأشخاص ، ولكن لا نسلم العموم في الأوقات ، لأن الأمير لم تكن هذه الخيريات العامة حاصلة له في عهد النبي r بلا نزاع ، لكون النبي افضل منه البتة ، ولكونه داخلاً في البشر الأولين والآخرين ، فالمراد غير ذلك الوقت ، والمراد من الأولين والآخرين والبشر من كانوا في وقته ، وهو صحيح عند اهل السنة لأنه أفضل البشر في زمن خلافته ولا نزاع لاحد فيه ولا محذور .

( الشبهة الثانية ) أنه متمسكوا برواية لسعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعرى القمى في كتاب ( القصاص ) عن ابيي جعفر u ، وبرواية الكلينى في ( الكافى ) عن أبي عبد الله u أنهما قالا في تفسير قوله تعالى ] قل الروح من أمر ربي [ هو خلق اعظم من جبريل وميكائيل لم يكن مع احد ممن مضى غير محمد ، وهو مع الأئمة يوفقهم ويسددهم . الجواب عنها بأن الحديث الول قد وقع في سنده هشام بن سالم ومعلوم انه كان مجسماً وملعوناً من حضرات الأئمة ( 1 ) وفي سند الحديث الثاني أبو بصير وهو قد أعترف بكذبه على الأئمة وإفشاء أسرارهم . سلمنا الصحة ولكن فحوى هذا الحديث منافية لعصمة النبي والأئمة ، لأن المحتاج إلى المؤدب والناصح إنما هو من لا يكون معصوماً ، ولهذا ليست الملائكة محتاجة إلى المؤدب فلزم من تلك الرواية أن النبي r والأئمة كان لهم نقصان ظاهر في العصمة بالنسبة إلى الأنبياء السابقين حاصلاً فإنهم كانوا كاملين في العصمة موفقين مسددين من انفسهم غير محتاجين في ذلك إلى من سواهم من المخلوقات ، وما كان للنبي والأئمة افتقار إلى من يؤدبهم في كل وقت وينبههم ويسدد بالصواب ، معاذ الله من هذا الاحتمال الفاسد في جنابه .

وأيضاً نقول كون الروح مع النبي هل هو شرط لعصمته أولا فعلى الأول يلزم ان لا يكون الأنبياء السابقون الذين لم يكن الروح معهم معصومين ، وهو باطل بالإجماع .

وعلى الثاني يلزم أن لا يكون النبي والأئمة معصومين في حد أنفسهم فإنهم كانوا محتاجين إلى تأديب الروح إياهم ولزم تفضيل الأنبياء على النبي والأئمة إذ كانوا معصومين بلا مصاحبة الروح وهؤلاء بمعيته . ولقد تناقض شيخهم ابن بابويه فقال في كتاب ( الاعتقاد ) : إن الله لم
------------------------

( 1 ) أنظر ص 63 و 69 .

يخلق افضل من محمد والأئمة ، وهؤلاء أحب احباء الله ، وإن الله يحبهم أكثر من غيرهم من جميع خلقه زبريته ، ثم هو قد روى في كتاب ( الأمالى ) برواية صحيحة في ضمن خبر طويل في قصة تزويج سيدتنا فاطمة بالأمير رضي الله عنهما عن الصادق عن آبائه أن الله تعالى قال لسكان الجنة من الملائكة وأرواح الرسل ومن فيها : الا إنى زوجت أحب النساء إلى من أحب الرجال إلى بعد النبيين ، وهذه الرواية تنادى بأعلى صوت : إن الأنبياء أحب إلى الله من الأمير لكونه أحب إليه بعدهم ولا عذر لابن بابويه في هذا التناقض الصريح والتهافت القبيح إلا أن يقول (( ليس للكذاب حفظ )) لا غير .

          العقيدة الثالثة : أن الأنبياء معصومون من التقول وقول الكذب والبهتان مطلقاً عمداً كان أو سهواً ، قبل النبوة أو بعدها . وقال الإمامية : يجوز لهم ذلك من البهتان وقول الكذب ، بل يجب عليهم تقية ، مع أن الكذب لو جاز على الأنبياء ، ولو تقية لم يبق الوثوق والاعتماد على قولهم ، وانتفض غرض البعثة . ولو كانت التقية جائزة للأنبياء لما أمكن تبليغ أحكام الله تعالى للناس بالضرورة ، لأن الاحتجاج إلى التقية في أول الآمر الذى لا يكون لهم فيه ممد وناصر أكثر وأمس ، ولو أظهروا في ذلك الوقت خلاف حكم الله تعالى مخافة إيذاء القوم متى يعلم حكم الله بعد ذلك ؟ وكيف يتصور علمه ؟ فيجب عليهم ان يبلغوا كل أمرهم بتبيلغه لقوله تعالى ] يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك [ الآية ولو حقهم مخافة ، كما قال تعالى ] الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً من الله وكفى بالله حسيباً [ ولو كان الأنبياء فعلوا بالتقية لما عاداهم الكفار وكذبوهم وآذوهم وجادلوا قومهم ليلاً ونهاراً وصبروا على ما أصابهم من القتل والضرب والشتم وغير ذلك ، فثبت أن التقية ليست جائزة لهم أصلاً .

          العقيدة الرابعة : أن الأنبياء لابد لهم من معرفة الواجبات الإيمانية قبل البعثة وبعدها بالضرورة ، لأن الجهل بالعقائد موجب للكفر ، ومعاذ الله أن يكون هذا الجهل لجنابهم الأقدس . نعم إنهم لا يحصل لهم علم بوجود الحكام الشرعية بدون ورود الوحي إليهم ، وقد ورد باعتبار عدم هذا العلم قوله تعالى ] وعلمك ما لم تكن تعلم [ ، وقد أجمع على هذه العقيدة جماهير المسلمين واليهود والنصارى ، إلا الإمامية فإنهم قالوا لا تكون معرفة أصول العقائد حاصلة للأنبياء حين البعثة بل وقت المناجاة والمكالمة ، معاد الله من هذا الاعتقاد الباطل الذى بطلانه بديهي لا يحتاج إلى دليل .

          العقيدة الخامسة : ان الأنبياء معصومون من صدور ذنب يكون الموت عليه هلاكاً خلافاً للإمامية فإنهم رووا في حق بعض الأنبياء صدور هذا الذنب منه ، روى الكلينى عن أبن أبي يغفور أنه قال سمعت أبا عبدالله يقول وهو رافع يده إلى السماء : رب لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين ولا أقل من ذلك . فما كان باسرع من ان تحدر الدمع من جوانب لحيته ، ثم اقبل على فقال : يابن ابي يعفور إن يونس بن متى وكله الله إلى نفسه اقل من طرفة عين فاحدث ذلك . قلت : فبلغ به كفراً أصطلحك الله ؟ فقال : ولكن الموت على تلك الحال كان هلاكاً . وأعلم أن ما يظهر من نص الكتاب في امر يونس أنه ذهب عن قومه بلا إذن ربه فعوتب على هذا الامر ، وأيضاً تعجل في الدعاء على قومه ولم يتحمل شدائد إيذائهم وتكذيبهم كما ينبغي لأولى العزم . وظاهر أن هذين الأمرين ليسا بذنب فضلاً عن أن يكونا كبيرة فلأن يونس قد قامت عنده قرائن قوية على ان قومه لن يؤمنوا به فدعا عليهم ، وأيضاً خاف بعد أنكشاف العذاب عنهم أن يؤذوه إيذاء شديداً ويكذبوه تكذيباً صريحاً حيث لم يلحق العذاب على وفق وعده فلهذا هرب وفر منهم ولم ينتظر حكم الله فيه . ولما كان منصب الأنبياء أعلى وأرفع عوتب على هذا القدر عتاباً شديداً وأدب ونبه ، وما ورد في القرآن المجيد في حقه ] فظن أن لن نقدر عليه [ فهو مشتق من القدر بمغنى التضييق والأخذ الشديد من قبيل قوله تعالى ] الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ لا من القدرة حيث يثبت فساد عقيدته ، والدليل الصريح على هذا ما وقع بعده ] فنادى في الظلمات [ إذ لن يصح تخريج الدعاء والنداء على معنى القدرة ، بخلاف ذلك المعنى المذكور فإنه الصق به . فحاصل المعنى على ما قلنا أنه ظن انا لن نضيق عليهم ولن ناخذهم أخذاً شديداً في العقاب فتاب وأستغفر لما فعله رجاء للقبول ، وأعتراف يونس بالظلم على نفسه حيث قال ] إنى كنت من الظالمين [ إنما هو لهضم النفس والتضرع في جنابه تعالى والعلم القليل كثير كما هو دأب الصالحين او لاجل ترك الأولى فانه في حق الأنبياء في حكم المعصية والظلم في حق عوام الناس .

العقيدة السادسة : أن آدم ابو البشر كان صفى الله بريئاً من الحسد والبغض معصوماً من الأصرار على معصية الله تعالى . وهذا مذهب أهل السنة لقوله تعالى ] ثم أجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ وقوله تعالى ] فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم [ وقوله تعالى ] إن الله اصطفى أدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين [ وقد وصفه الشيعة بالحسد والبغض وسائر الخصال الذميمة وأنه مصر على عصيان الله تعالى ، وما ثبت لإبليس من القبائح كالحسد وترك امتثال الأمر بالسجود وغير ذلك مما حصل له بسبب آدم يثبته الشيعة لأدم بسبب الأئمة ، فإنه حسدهم ولم يقر بولايتهم .

روى ابن بابويه في عيون أخبار الرضا عن الإمام الرضا أنه قال : عن آدم لما أكرمه الله بسجود الملائكة له وإدخال الجنة قال في نفسه أنا أكرم الخلق ، فنادى عز وجل : أرفع رأسك يا آدم فأنظر إلى ساق العرش ، فرفع رأسه فوجد فيه مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله على ولي الله أمير المؤمنين وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة . فقال آدم : يارب من هؤلاء ؟ فقال عز وجل : هؤلاء من ذريتك وهم خير منك ومن جميع خلقى ، ولولاهم ما خلقتك وما خلقت الجنة والنار ولا السماء ولا الأرض ، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فاخرجك عن جوارى ، فنظر إليهم بعين الحسد فسلط عليه الشيطان حتى اكل من الشجرة التى نهى الله تعالى عنها .

وروى ابن بابويه أيضا في عيون الأخبار عن المفصل بن عمر أبي عبد الله قال : لما أسكن الله عز وجل آدم وزوجته الجنة قال لهما ] وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ فنظرا إلى منزلة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من بعدهم فوجداها أشرف المنازل التى في الجنة فقالا : ربنا لمن هذه المنزلة ؟ فقال الله عز وجل : أرفعوا رءوسكم إلى ساق عرشي ، فرفعا راسهما فوجدا اسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة مكتوبة على ساق العرش بنور من نور الجبار جل جلاله ، فقالا : يا ربنا ما أكرم هذه المنزلة عليك ، وما أجبهم إليك ، وما أشرفهم لديك . فقال الله تعالى : لولاهم ما خلقتكما ، هؤلاء خزنة علمى وأمنائى على سرى إياكم أن تنظرا إليهم بعين الحسد ، وتتمنيا عندى ومحلهم من كرامتى ، فتدخلا من ذلك في نهيى وعصياني فتكونا من الظالمين . فوسوس إليهما الشيطان فدلاهما بغرور وحملهما على تمنى منزلتهم ، فنظرا إليهم بعين الحسد ، فخذلا . لذلك ينبغي للعاقل أن يتامل في مدلول هذين الخبرين فإنهما – كما ذكر – فيهما ما فيهما من إهانة آدم وتحقيره ، إذ الحسد مطلقاً من المذمومات والقبائح وأمراض القلب وأسقام الروح بإجماع جميع اهل الملل والنحل ، خصوصاً حسد الأكابر والأخيار من عباد الله فإنه كبيرة من عمدة الكبائر ، وهم يسبونه إلى آدم خاصة بعد تقييد الله وتأكيده التام له في منعه ، ففي مذهبهم لم يبق فرق بين آدم وإبليس ، فإن ما فعله إبليس في حقه فعله آدم في حق أولاده ، بل إن فعل آدم صار أقبح من فعل أبليس ، فإن إبليس لم يكن له علاقة بآدم من وجه بل كانت المباينة بينهما بالكلية بخلاف آدم فإنه كان بينه وبين هؤلاء الكبار علاقة الأبوة والنبوة ، فلزم أن قطيعة رحم القريب وحسد الأولاد الذى هو من المحالات العادية في سلامة الفطرة قد نسب إلى نبي هو أول الأنبياء ، وكان قبله الملائكة وساكن الجنة ، معاذ الله من ذلك . فهذا هو حال آدم وفعله في حق العباد عند الإمامية ، وأما معاملته في حق الله تعالى فنشرحها على طبق ما عندهم من الرواية الأخرى : روى محمد بن الحسن الصفار عن أبي جعفر : قال الله تعالى لآدم وذريته التى اخرجها من صلبه : ألست بربكم وهذا محمد رسول الله r وعلي أمير المؤمنين واوصيناه من بعدى ولاة امرى ، وأن المهدى أنتقم من أعدائى وأعبد به طوعاً وكرهاً ؟ قالوا اقررنا وشهدنا ، وآدم لم يقر ولم يكن له عزم على الإقرار به . ولا يخفى أن هذا الخبر قد ذكر فيه كفر آدم صريحاً ، إذ لزمه كفر الجحود ، وهو نوع اشد من أنواع الكفر الأربعة . وتكفير نبي قد خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وقال في خلقه ] إن الله اصطفى آدم [ وأمر الملائكة بالسجود له ، كم له بعد عن الدين والإيمان وقد أنكر الشريف المرتضى خير الميثاق في كتابه بالدرر والغرر حمية الإسلام في الجملة ، وحكم بوضع ذلك الخبر وأختراعه ، وأخرج ابن الصفار وشيوخه عن دائرة الإيمان ولله الحمد .

والعجب من علماء هذه الفرقة أنهم لا يتأملون في نظم الكتاب ، ولا يجدون أن محل العتاب على آدم ليس إلا أكل الشجرة المنهى عنه فقط ، وما هو كبيرة بالإجماع ، ولو أن هذه الأمور وقعت منه لكان على الله أن يجعل تلك الأمور محل العتاب لا أكل الشجرة المنهى عنه ، وكان يخبر بها دونه ، ليكون لأبي بكر وعمر وعثمان عبرة في ذلك فيجتنبوا امثال هذه القبائح ( 1 ) .

وقد لوحظ في كتبهم رواية أخرى أيضاً عن الإمامية في ترك العهد الذى كان على آدم . وروى ابن الصفار المذكور في قوله تعالى ] ولقد عهدنا إلى آدم [ قال عهد الله إلى آدم في محمد والأئمة من بعده ، فترك ولم يكن له عزم أنهم كذا .

          واصل الحقيقة أن ( ابن الصفار ) هذا كان رجلاً علجاً من علوج المجوس ، وكان اسم جده فرخ ، وهو كان يعد من موالى موسى بن عيسى الأشعري ، وقد بقى في طينيه الخبيبثة المجوسية ، غاية الأمر أنهم كانوا يتسترون بالتشيع :  والدليل الصريح  على هذا أن أبن الصغار يروى عن الئمة روايات تقدح بالحقيقة في الأئمة أيضاً كالأخبار المذكورة ، لأن كل طائفة من طوائف المليين من اليهود والنصارى والمسلمين قد اجمعوا على فضيلة أبي البشر آدم وكرامته على الله تعالى واصطفائه على العالمين . وغذا انتشر مثل هذه الروايات عنه في العالم يعتقد الناس قاطبة في حق الأئمة بطلان غمامتهم وعدم حقيتها ، بل عدم دليله وينفرون عنهم بهذه الكلمات ، ويحدث في الإسلام ابتلاء عظيم ، ويحصل للمجوس مدعاهم وأمانى قلوبهم من زوال نور الإسلام . وبحمد الله قد أطلع أهل السنة على خباثة هؤلاء القوم وطرحوا رواياتهم ، ولكن الشيعة لما اضلهم الشيطان عن طريق الصواب وتركهم تبعاً لهؤلاء الشيوخ المضلين ، جعلوا
------------------------

( 1 ) لعل القارئ قد لاحظ من أول الكتاب إلى الأن المؤلف يخاطب الشيعة بعقليتهم ، ويحتج عليهم برواياتهم واساليبهم ، مبالغة منه في سد ابواب المراء في وجوههم وليقنع اتباعهم بان ماهم عليه يناقض دعاويهم وينقضها من اصولها .

دينهم وإيمانهم على رواية هؤلاء الكفرة ، وبدلوا إيمانهم في سبيل متابعة أولئك الأبالسة ، ومن يضلل فما له من هاد .

العقيدة السابعة : أن أحداً من الانبياء لم يستعف عن الرسالة قط ، ولم يعتذر في أداء أحكام الله تعالى اصلاً ، وهذا هو مذهب اهل السنة . وقال الإمامية إن بعض اولى العزم من الرسل أستعفوا عن الرسالة واظهروا الاعتلال وعدم الموافقة وبينوا العذر منهم موسى على نبينا وعليه السلام ، فإنه لما قال له تعالى وناداه بلا واسطة أحد يا موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ، قال موسى في جوابه : أعفنى من هذا الآمر إنى اخاف أن يكذبون ، ويضيق صدرى من المباحثة ، ولا ينطلق لسانى ايضاً لكونه العقدة فيه فيقصر في تقرير المطلب ، ولهم على ذنب بما قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلونى بدله ، فارسل هرون أخى هو افصح منى لساناً وأجعله رسولا إلى فرعون . والإمامية يخرجون هذه المعانى من آيات الكتاب ويفههمونها من كلام الله تعالى ، مع ان الأستعفاء عن الرسالة متضمن لرد الوحي ومستلزم لعدم الأنقياد وترك الأمتثال لآمر الله تعالى ، والأنبياء معصومون عن مثل هذه الأمور ، وأنت تعلم انهم لا محل لهم بالتمسك في آيات الكتاب الوادرة في احوال موسى ، بل تلك الآيات عند التأمل معجزة لهم ومكذوبة لدعواهم هذه ، لأن موسى لم يقل عنه فيما حكى عنه في القرآن المجيد هذا القول ولو بمعناه (( اعفني من هذا الأمر )) أصلاً ولم يذكر من قبله فيه قط وكذا هذا القول (( أرسل هرون بالرسالة إليهم بدلا مني )) وهذه كلها ناشئة من سوء فهم علماء هذه الفرقة وشدة وقاحتهم . نعم قد بين سخافة تكذيب قوم فرعون وخوف قتلهم إياه قبل أداء الرسالة وضيق صدره وقصور لسانه ولكن لا من جهة الاستعفاء والاعتلال بل لطلب العون على امتثال الأمر وتمهيد العذر في طلب المعين وهذا عين الحجة لقبوله لا على رده ودفعه وفي آية ] واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري [ ورد تفسير هذا بأن غرض موسى كان إشتراك أخيه بنفسه في أمر الرسالة لا المدافعة عن نفسه ولا جعل هرون في مكانه . وكذا قوله أخاف أن يكذبون وأخاف أن يقتلوهن إنما كان لمحض استدفاعه البلاء عن نفسه واستجلابه الحفظ من رب الأرض والسماء لا دفع هذا المنصب العالي عن نفسه نعوذ بالله تعالى من سوء الفهم والظن لا سيما في حق الأنبياء وخصوصاً أولي العزم .

العقيدة الثامنة : أن المبعوث من عند الله تعالى إلى الخلق كافة هو محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب بن هاشم r لا على بن أبي طالب بن عبد المطلب وأن جبريل أمين الله على وحيه الذي جاء به إلى النبي r من عند ربه لا من نفسه ولم يحن في أداء الرسالة قط . وخالفت الغرابية إحدى فرق الشيعة في ذلك (1) ولا يمكن الاحتجاج عليهم بالكتاب لأنه وصل النبي r بواسطة جبرائيل وهو غير مقبول عندهم ، ولا بقول الأئمة لأن شهادتهم لجدهم وشرفه يعود إليهم بل لا بد من أن يحتج عليهم بالتوراة لأنها نزلت دفعة واحدة في الطور بلا واسطة أحد مكتوب على الألواح ولم يكن فيها دخل لجبريل قال الله تعالى في سفر التكوين من التوراة لا براهيم : إن هاجر تلد ، ويكون من ولدها من يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخشوع (2) ولم يكن ذلك الولد إلا محمد r وحده لأن علياً كرم الله وجهه كان في زمن الخلفاء الثلاثة مغلوباً خائفاً مظلوماً (3) . وفي سفر التثنية منها : يا موسى إني مقيم لبني إسماعيل نبيا وأجرى قولى في فيه ويقول لهم ما آمره به (4) . وهذا النبي لا بد أن يبعث في بني إسماعيل وعلي بن أبي طالب لم يبلغ قط ما أمر الله تعالى بل هو من أتباع نبي وقته فليس ذلك النبي إلا محمد بن عبدالله . وفي الزبور : يا أحمد فاضت الرجمة على شفتيك من أجل ذلك أبارك عليك فتقلد السيف فإنه بهاؤك وحمدك الغائب وبوركت كلمة الحق فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك سهامك مسنونة والامم يجرون تحتك كتاب حق الله من اليمن والتقديس من جبل فاران وامتلأت الأرض من تحميد أحمد وتقديسه وملك الأرض ورقاب الأمم (5) وفي موضع آخر منه لقد انكسفت السماء من بهاء أحمد وامتلأت الأرض من حمده . إلى غير ذلك من نصوص الانجيل مما هو مذكور في الترجمة وعندي أن هذا مما لا حاجة إلى إقامة الحجة على بطلانه ومن أنكر شمس الضحى فليترك مع شيطانه .

العقيدة التاسعة : أن معراج النبي r إلى السماوات بشخصه حق ، وليس لأحد من أهل عصره مشاركة له في ذلك لقوله تعالى ] سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى [ وقوله تعالى ] ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى – إلى قوله تعالى – لقد رأى من آيات ربه الكبرى [ وكتب الامامية مشحونة من كلام الأئمة في ذلك . وخالفت أكثر

----------------

( 1 ) تقدم التعريف بالشيعة الغرابية في ص13

( 2 ) في سفر التكوين المتداول عندهم بالاصحاح 16 : 10- 12 (( وقال لها ملاك الرب : ها أنت حبلي فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل … يده على كل واحد ويد كل واحد عليه وأمام جميع إخوانه يسكن …. إلخ )) وفي الصحاح 17 من سفر التكوين : 20 (( وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً ، اثنى عشر رئيساً يلد واجعله أمة كبيرة )) .

( 3 ) أي حسب مزاعم الإمامية .

( 4 ) في سفر التثنية من التوراة (18 : 15 ) : يقيم لك الرب الهك نبيا من وسطك – من إخوتك مثلى ، له تسمعون )) (18 : 18) : (( أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به )) .

( 5 ) في سفر التثنية من التوراة 33 : 2 (( جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من سعير ، وتلألأ من جبل فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم )) وبرية فاران هي التي سكنتها هاجر وابنها إسماعيل كما في سفر التكوين 21 : 21 .

فرق الشيعة في هذه المسألة فبعضهم أنكر وهم الاسماعيلية والمعمرية والذمية (1) أصل المعراج مستدلين بشبهات الفلاسفة من استبعاد الحركة السريعة وخرق السماوات وقد برهن عليها في كتاب الكلام وبعضهم وهم المنصورية (2) أنكر الاختصاص وقالوا إن أبا منصور العجلى قد صعد أيضاً بجسده في اليقظة إلى السماوات وشافه الله تعالى وكالمه ومسح الله تعالى بيده فوق رأسه والعجلى هذا هو الذي أخرجه الإمام الصادق من بيته وطرده ثم ادعى الإمامة لنفسه . ومن الإمامية من يقول بمشاركة الأمير في المعراج ومنهم من قال لا لكن رأى وهو في الأرض ما رآه النبي r على العرش سبحانك هذا بهتان عظيم ! إذ لو كانت تلك الرؤية ممكنة من الأرض لم كلف النبي r إلى الصعود ؟ فيلزم على هذا تفصيل الأمير على النبي r وقد نبين بطلانه .

العقيدة العاشرة : نصوص الكتاب وسنن النبي r كلها محمولة على معانيها الظاهرة وأن التكاليف لم ترتفع . وذهب فرق كثيرة من الشيعة كالسبعية والخطابية والمنصورية والمعمرية والباطنية والقرامطة والرزامية إلى ان كل ما ورد في الكتاب والسنة من الوضوء والتيمم والصلاة والصوم والزكاة والحج والجنة والنار والقيامة والحشر ونحوها غير محمولة على ظاهرها بل هي إشارات إلى الأشياء أخر لا يعلمها إلا الإمام المعصوم ، كقول السبعية ( 3 ) إن الوضوء موالاة الإمام ، والتيمم الأخذ من المأذون في غيبة الإمام ، والصلاة عبارة عن الرسول الناطق بالحق بدليل أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والغسل عبارة عن تجديد العهد للإمام ، والجنة هي سقوط التكاليف الشرعية ، والنار مشقة حمل التكاليف والعمل بالظواهر.

واما القائلون بأرتفاع التكاليف الشرعية بالكلية فهم المنصورية ( 4 ) القائلون من لقى إمام الوقت سقط عنه جميع التكاليف بنفسها فيفعل حينئذ ما يشاء ، لأن الجنة عبارة عن الإمام ، وبعد الوصول لا يبقى تكليف . والحميرية ( 5 ) القائلون إن أمر الشيعة مفوض إلى حجة الوقت ، فإن شاء أو زاد أو نقص .

 

--------------------------

( 1 ) تقدم الكلام عن فرق الإسماعيلية في ص 17 و 18 ، والكلام على المعمرية والذمية في ص 13 .

( 2 ) أنظر في ص 12 الكلام على المنصورية وأبي منصور العجلى .

( 3 ) تقدم الكلام عليهم في ص 18 .

( 4 ) أنظر ص 12 .

( 5 ) نسبة إلى الحسن بن صباح الحميرى ، وهم النزارية من الإسماعيليين . أنظر ص 19 .

العقيدة الحادية عشرة : أن الله تعالى لم يرسل ملكاً إلى أحد في الأرض من البشر بعد خاتم النبيين r . وقالت الإمامية كان أمير يوحى إليه ، والفرق بين وحى الروسل وبين وحى الأمير أن الرسول كان يشاهد الملك والأمير يسمع صوته فقط .

روى الكلينى في الكافى عن السجاد ان على بن أبي طالب كان محدثاً وهو الذى يرسل الله إليه الملك فيكلمه ويسمع الصوت ولا يرى الصورة ( 1 ) . وهذه الرواية كذب مع انه يناقضها الروايات الأخر الثابتة عندهم عن الأئمة منها أن الرسول r قال : أيها الناس لم يبق بعدى من النبوة إلا المبشرات . ومنها ما كان البارى تعالى انزله من الكتاب المختوم بخواتم الذهب إلى نبي الزمان وهو أوصله إلى الأمير والأمير أوصله إلى الإمام الحسن وهكذا إلى المهدى وكان السابق يوصى اللاحق أن يفك خاتماً واحداً من ذلك الكتاب ويعمل بما فيه ، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن حاجة إلى إرسال الملك والإيحاء . وذهبت طائفة من الإمامية إلى أن سيدة النساء فاطمة غلبها السلام كان يوحى إليها بعد وفاة النبي r . وقد جمع ذلك الوحي وسماه ( مصحف فاطمة ( 2 ) ) وأكثر الوقائع الأتية وفتن هذه الأمة مذكورة فيه والأئمة إنما يخبرون الناس باخبار الغيب من ذلك المصحف ، سبحانك هذا بهتان عظيم وقول وخيم .

العقيدة الثانية عشرة : أن الإمام لا يجوز له أن ينسخ حكماً من الحكام الشرعية ولا يبدله . وذهبت الإمامية إلى جواز ذلك مستدلين بروايات مفتراة على الأئمة ، منها مارواه ابن بابويه القمى عن أبي عبد الله أنه قال : إن الله تعالى آخى بين الأرواح في ألأزل قبل أن يخلق الاجسام بالفى عام ، فلو قد قام قائم أهل البيت ورث الأخ من اللذين آخى بينهما في الأزل ولم يورث الأخ من الولادة . ومما يدل على كذب هذه الرواية أن التكاليف الشرعية لما كانت لازمة لعامة الناس لابد أن تكون منوطة بالعلاقة الظاهرة والأمور الجلية كالتوالد والقرابة ونحوهما مما يدركه البشر ، والمؤاخاة الأزلية لا يدركها العقل ، ونص الإمام لا يمكن في كل فرد فرد .

 

 

---------------------------

( 1 ) وأنظر ص 41 من الكافى الكلينى طبعة سنة 1278 . وضلالة سماع الصوت أدعاها غاندى لنفسه ووافقه عليها قاديانيه في مجلة light  الجزء 19 بتاريخ 16 يوليو 1933 ورد عليهم الدكتور تقى الدين الهلالي في مجلة ( الفتح ) ثم نشر في رسالة مستقلة بعنوان (( سب القاديانيين للإسلام )) . فالإمامية سبقوا القاديانيين وعابد البقر إلى هذه الخرافة .

( 2 ) في كتاب ( الكافى ) للكلينى ص 57 وهو عندهم مثل صحيح البخارى عند المسلمين ان أبا بصير سمع من جعفر الصادق قوله (( وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام ، وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها السلام …. مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ، والله ما فيه من قرآنكم هذا حرف واحد ، وأبو بصير مخترع هذه الكذوبة هو ليث بن البخترى وتقدم التعريف به في هامش ص 65 ، وقد أعترف علماء الإمامية بانه مطعون في دينه لكنهم قالوا إنه ثقة والطعن في دينه لا يوجب الطعن ! وهكذا قالوا والله حسيبهم ….

والحاصل أن هذه العقيدة مخالفة لظاهر العقل لأن الإمام خليفة النبي في ترويج الشريعة وتعليمها ، فإن كان له دخل في تبديل الأحكام وتغييرها فقد خالفه ، مع أنه ليس بشارع ، وكذا النبي لقوله تعالى ] شرع لكم من الدين [ وقوله تعالى ] لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً [ نسأله تعالى أن يعصمنا من مثل هذا الزلل ويوفقنا إلى ما يحب من القول والعمل .

 

 

الباب الخامس

في الإمامة – وفيه ست تنبيهات

          التنبيه الأول : أعلم أن أول ما أختلف فيه من مسائل هذا الباب كون نصب الإمام واجباً على العباد أو على الله تعالى . فأهل السنة على الأول ، والشيعة على الثاني . والفطرة شاهدة للأول إذ كل فرقة تقرر لأنفسهم رئيساً من بينهم ، وكذا الشرع أيضاً إذ الشارع قد أوضح شرائط الإمام وأوصافه ولوازمه بوجه كلى كما هو شانه في الأمور الجبلية كالنكاح ولوازمه مثلاً . وايضاً لا معنى للوجوب عليه تعالى بل هو مناف للالوهية والربوبية كما هو مقرر في محله . وأيضاً كل ما يتعلق بوجود الرئيس من أمور المكلفين – من إقامة الحدود والجهاد وتجهيز الجيوش إلى غير ذلك – واجب عليهم ، فلابد وأن يكون نصب الرئيس واجباً عليهم ، لأن مقدمة ما يجب على أحد واجبة عليه ، ألا ترى أن الوضوء وتطهير الثوب وستر العورة واجب على المصلى كالصلاة ، لا عليه تعالى ، وهذا ظاهر . وأيضاً إن تأملنا علمنا ان نصب الإمام من قبل البارى يتضمن مفاسد كثيرة ، لأن آراء العالم مختلفة واهواء نفوسهم متفاوتة ، ففي تعيين رجل لتمام العالم في جميع الأزمنة إلى منتهى بقاء الدنيا إيجاب لتهييج الفتن ، وجر لامر الإمامة على التعطيل ودوام الخوف والتزام الاختفاء كما وقع للجماعة الذين يعتقد الشيعة إمامتهم ، فمع هذا قولهم (( نصب الإمامة لطف )) في غاية السفاهة يضحك عليه ، إذ لو كان لكفاً لكان بالتأييد والإظهار لا بغلبة المخالفين والانتصار ، فإذا لم يكن التأييد في البين ، لم يكن النصب لطفاً كما يظهر لذى عينين .

          وما اجاب عنه بعض الإمامية – بان وجود الإمام لطف ، وتصرفه وتمكينه لطف آخر ، تصرف الأئمة إنما هو من فساد العباد وكثرة الفساد ، فإنهم خوفوهم ومنعوهم بحيث تركوا من خوفهم على أنفسهم إظهار الأمامة ، وإذا ترك الناس نصرتهم لسوء اختيارهم فلا يلزم قباحة في كونه واجباً عليه تعالى ، والاستتار والخوف من سنن الأنبياء فقد أختفى r في الغار خوفاً من الكفار – ففيه ( 1 ) غفلة عن المقدمات المأخوذة في الأعتراض ، إذ المعترض يقول : الوجود بشرط التصرف والنصرة لطف ، وبدونه متضمن لمفاسد . فالواجب في الجواب التعرض لدفع لزوم المفاسد ، ولم يتعرض له كما لا يخفى . وأيضاً يرد على القائل بكونه لطفاً آخر ترك الواجب عليه تعالى ، وهذا قبح من ترك النصب . وأيضاً يقال عليه : هذا اللطف الآخر إما من لوازم النصب أولا ، فعلى الأول لزم من تركه ترك النصب لن ترك اللازم يستلزم ترك الملزوم .

-----------------------

( 1 ) أى في هذا الجواب من الإمامية .

وعلى الثاني لم يبق النصب لطفاً للزوم المفاسد الكثيرة ، بل يكون سفهاً وعبثاً ، تعالى الله عن ذلك .

          وأيضاً ما ذكره من تخويف الناس للأئمة غير مسلم ، وهذه كتب التواريخ المعتبرة في البين . وأيضاً التخويف الموجب للاستتار غنما هو إذا كان بالقتل ، وهذا لا يتصور في حق الأئمة لأنهم يموتون باختيارهم كما أثبت ذلك الكلينى في الكافى وبوب له ( 1 ) . وأيضاً لا يفعل الأئمة أمراً إلا بإذنه تعالى ، فلو كان الإختفاء بأمره تعالى وقد مضت مدة والخفاء هو الخفاء ، فلا لطف بلا أمتراء ( 2 ) .

          وأيضاً إن كان واجباً للتخويف لزم ترك الواجب في حق الذين لم يكونوا كذلك كزكريا ويحيى والحسين ، وإن لم يكن واجباً بأن كان مندوباً لزم على من أختفى ترك الواجب الذى هو التبليغ لأجل مندوب ، وهو فحش . ولإن كان آمر الله تعالى مختلفاً بان كان في حق التاركين بالندب مثلاً وفي حق المستترين بالفرض لزم ترك الأصلح الواجب بزعم الشيعة في أحد الفريقين ، وهو باطل . ولا يمكن ان يقال الأصلح في حق كل ما فعل ، لأنا نقول إن الإمام بوصف الأمامة لا يصح أختلاف وصفه كالعصمة ، لأن أختلاف اللوازم يستلزم أختلاف الملزومات ، فيلزم أن لا يكون أحد الفريقين إماماً فلا يكون الأصلح في حقهم إلا أحد الحالين وإلا لزم اجتماع النقيضين كما أن الموضوع إذا كان مأخوذاً بالوصف العنواني فثبوت المحمول له بالضرورة بشرط الوصف يكون لازماً ويمتنع حمل نقيضه عليه كما لا يخفى . وأيضاً نقول : الاختفاء من القتل نفسه محال لأن موتهم باختيارهم ‍! وإن كان من خوف إيذاء البدن يلزم أن الأئمة فروا من عبادة المجاهدة وتحمل المشاق في سبيل الله تعالى وهذا بعيد عنهم ومع هذا لا معنى لاختفاء صاحب الزمان بخصوصه (3) فإنه يعلم باليقين أنه يعيش إلى نزول عيسى ولا يقدر أحد على قتله وأنه سيملك الأرض بحذافيرها فبأي شيء يتخوف ويختفي ؟ ولماذا لم يظهر الدعوة ويتحمل المشقة كما فعله -------------------------

( 1 ) في ص 62 من طبعة إيران سنة 1287 وعنوان الباب (( باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون ، وانهم لا يموتون غلا بأختيار منهم )) وكتاب الكافى للكلينى عند هذه الطائفة بمنزلة صحيح البخارى عند المسلمين .

( 2 ) وفي بخاريهم الذى يسمونه ( الكافى ) للكلينى  ص 68 باب مستقل عنوانه (( باب أن الأئمة عليهم السلام لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلونه إلا بعهد من الله وامر لا يتجاوزونه )) .

( 3 ) صاحب الزمان وقد يسمونه صاحب الدار هو الصبي الذي زعموا أنه إمامهم الثاني عشر ودخل السرداب صبياً في مدينة سر من رأى ومنذ أكثر من ألف سنة يدعون بأن يعجل الله فرجه ويرمزون لهذا الدعاء بهذين الحرفين (ع.ج) أو (عج) ، منتظرين خروجه من السرداب وبيده السيف فيذبح البشر جميعاً وفي مقدمتهم المسلمين أهل السنة والجماعة ويمحقهم محقاً وليس في الشيعة شاعر إلا قصيدة في صاحب الزمان ساكن السرداب والدعاء بأن يعجل الله فرجه وحتى البهاء العاملى صاحب الكشكول وخلاصة . الحساب له قصيدة يغنى فيها على ألحان هذه الموسيقى ولهم في بلدة قم رئيس يزعمون أنه آية الله وهو يمثل خدمة صاحب الزمان ويجمع الصدقات باسمه لا لأن الإمام يحتاج إلى ما في أيدى الناس يحتاجون أن تقبل صدقاتهم منه ! وقد أراد مندوب جريدة الأخبار المصرية أن يجتمع به فسافر إليه ولقي في ذلك أعظم المشقات ، ومع ذلك لم يتوصل إلى رؤية صاحب هذا المقام الرفيع لأن خادم صاحب السرداب يجب أن يكون هو الآخر في سرداب ! .

سيد الشهداء ؟ وما قاله المرتضي في كتابه ( تنزيه الأنبياء والأئمة ) من أنه فرق بين آبائه الكرام فإنه مشار إليه بأنه مهدي قائم صاحب السيف قاهر للأعداء منتقم منهم مزيل للدولة والملك عنهم فله مخافة لا تكون لغيره فكلام لا لب فيه لأن خوف القتل نفسه قد غلب عليه ومع هذا معلوم له باليقين أن أحداً لن يقتله أبداً . وأيضاً ألا يعلم أن المخالفين لا يقبلون من أحد دعوى المهدوية قبل ألف سنة وأن المهدي يظله السحاب لا سقف السرداب وأنه يظهر في مكة لا في سر من رأى ، ويدعو الناس بعد الأربعين من عمره لا في زمن الطفولة ولا في الشيخوخة على أن السيد محمد الجنفوري في الهند ولم يقتل ولم يخوف وأيضاً قد كثر محبوه وناصروه في زمن الدولة الصفوية أكثر من رمل الصحارى والحصى فالاختفاء مناف لمنصب الإمامة الذي مبناه على الشجاعة والجرءة فهلا خرج وصبر واستقام إلى أن ظفر وهلا كان القوم الذين قال الله تعالى فيهم ] وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين [ ثم ما حكى أولاً من قصة الغار واستتار سيد الأبرار من خوف الكفار فكلام واقع في غير موقعه لأن استتاره عليه الصلاة والسلام لم يكن لإخفاء دعوى النبوة بل كان من جنس التورية في الحرب لأجل أن الكفار لا يطلعون على مقصده ولا يسدون الطريق عليه وهذا أيضاً كان ثلاثة أيام فقياس ما نحن فيه عليه غاية الحماقة والوقاحة ففرق واضح لا يخفى على من له أدنى عقل بين الاختفاء الذي كان مقدمة لظهور الدين والغلبة على الكافرين وبين الاختفاء الذي لازمه الخذلان وترك الدعوة وانتشار الطغيان فالأول تلوح مياه الهمة من أسرته وتتبلج أقمار النصرة من تحت طرته بخلاف الثاني فغبار الجبن يلوح على خده والفرار عن الدعوة موسوم على حده فأي فرقة سخرها الإمام لنفسه في هذه الغيبة وأي ملك ملكه !؟ ولو ابتغى صاحب الزمان فرصة ثلاثمائة سنة مكان ثلاث ليالي وعوض الغار سرداب سر من رأى وبدل المدينة المنورة دار المؤمنين ( قم ) ودار الإيمان ( كاشان ) وبدل الأنصار شيعة فارس والعراق قائلاً بأنى في هذه الصورة أجمع الأسباب وأتخذ الأصحاب ثم خرج لكشف الغمة وإصلاح حال الأمة لتحمل أهل السنة وغيرهم هذه الشرائط وأنى ذلك فليست هذه إمامة بل هي لعمرك قيامة وقد ترك الشيخ (1) صاحب ( كنز العرفان ) من المتأخرين طريق القدماء وقال : كان الاختفاء لحكمة أستأثر بها الله تعالى في علم الغيب عنده ويرد عليه أن هذا الدعاء مجرد يمكن أن يقال مثله في كل أمر يكون مناقضاً للطف ، فلا يثبت اللطف في شئ ! وبه يفسد كلام الشيعة كله ، لأن مبنى أدلتهم عليه ، يقولون : إن أمر كذا لطف واللطف واجب عليه تعالى ! فليتأمل . والله

--------------------

( 1 ) السيوري أحد أعلام الشيعة الذي سبقت الإشارة إليه في ص81  .

سبحانه يحق الحق وهو يهدى السبيل .

          التنبيه الثاني : أعلم أن قول الله تعالى ] أبعث لما ملكاً نقاتل في سبيل الله [ وقوله تعالى ] الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر [ وقوله تعالى ] وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا [ إلى غير ذلك من الآيات يدل على أن هداية الناس والصبر على مشقة مخالطتهم من لوازم الإمامة ، وكذا الجهاد في سبيل الله ، والعقل يحكم بذلك . وقال أمير المؤمنين (( لابد للناس من أمير برٍ أو فاجر . يعمل في إمرته المؤمن ويستمع فيها الكافر ، ويبلغ فيها الأجل وتأمن فيها السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوى ، حتى يسريح بر ويستراح من فاجر )) كذا في نهج البلاغة . ولا يمكن حمله على التقية ، لما ذكره في نهج البلاغة من أنه t قاله لما سمع قول الخوارج (( لا إمارة )) فلا محل للتقية في مقابلتهم ، فتأمل في هذا الكلام ، وتفكر في هذا المقام تر الفلاح أوضح من الصباح ، وان الحق عند اصحاب الجنة وأهل السنة . والله تعالى أعلم .

التنبيه الثالث :  (( العدالة )) شرط الإمامة ، لا (( العصمة )) بمعنى أمتناع صدور الذنب كما في الأنبياء ، خلافاً للشيعة ولا سيما الإمامية والإسماعيلية قالوا : لابد منها علماً وعملاً ، وهو مخالف للكتاب والعترة .

أما الكتاب فقوله تعالى ] إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً [ فكان واجب الطاعة بالوحي ، ولم يكن معصوماً بالإجماع . وقوله تعالى ] إنى جاعل في الأرض خليفة [ فكان قبل النبوة إماماً وخليفة ، وصدر منه ما صدر ، ويدل على ذلك قوله تعالى ] فعصى آدم ربه فغوى [ وقوله ] ثم أجتباه ربه [ والاجتباء في قوله تعالى في حق يونس ] فأجتباه ربه فجعله من الصالحين [ الأصطفاء للدعاء وعذره ورده إليه لا الاسنباء ، إذ قد ثبت قبل بقوله تعالى ] وإن يونس بمن المرسلين ، إذ أبقى إلى الفلك المشحون [ بخلاف ما نحن فيه ، كذا قيل ، فليتأمل . وأما أقوال العترة فقد أسلفنا قول الأمير (( لابد للناس ألخ )) وأيضاً روى في الكافى ما قال الأمير لأصحابه (( لا تكفوا عن مقالة بحق ، أو مشورة بعدل ، فإنى لست آمن أن أخطى )) والحمل على المشورة الدنيوية ياباه الصدر كما لا يخفى .

وأيضاً روى صاحب الفصول عن أبي مخنف أنه قال : كان الحسين يبدى الكراهة من صلح أخيه الحسن مع معاوية ويقول : لو جز أنفى كان أحب إلى مما فعله أخى .

وإذا خطأ أحد المعصومين الاخر ثبت خطأ أحدهما بالضرورة ، لامتناع اجتماع النقيضين . وأيضاً في الصحيفة الكاملة للسجاد (( وقد ملك الشيطان عنانى في سوء الظن وضعف اليقين ، وإنى أشكو سوء محاورته لى وطاعة نفسى له )) فظاهر أنه – على الصدق والكذب – مناف للعصمة .

ومن أدلتهم على العصمة أن الإمام لو لم يكن معصوماً لزم التسلسل . بيان الملازمة أن المحوج للنصب هو جواز الخطأ للأمة ، فلو جاز الخطأ عليه أيضاً لافتقر إلى أخر وهكذا ، فيتسلسل . ويجاب بمنع أن المحوج ما ذكر ، بل المحوج تنفيذ الأحكام ودرء المفاسد وحفظ بيضة الأسلام مثلاً ، ولا حاجة في ذلك إلى العصمة ، بل الإجتهاد والعدالة كافيان . ولما لم يكن إثم على التابع إذ ذاك أستوى جواز الخطأ وعدمه . سلمنا . لكن التسوية ممتنعة بل تنتهى السلسلة إلى النبي . سلمنا لكنه منقوض بالمجتهد النائب عن الإمام في الغيبة عند الإمامية ، وليس بمعصوم إجماعاً فيلزم ما لزم ، والجواب هو الجواب .

ومن الأدلة أيضاً أنه حافظ للشريعة فكيف الخطأ ؟ ويجاب بالمنع ، بل هو مروج ، والحفظ بالعلماء لقوله تعالى ] الربانيون والأحبار بما أستحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء [ وقوله تعالى ] كونوا ربانيين بما كنتم تدرسون [ . وأيضاً إذا كان الحفظ بالعلماء زمن الفترة وفي الغيبة على ما في كشكول الكرامة للحلى ففي الحضور كذلك . سلمنا ، لكن الحفظ بالكتاب والسنة والإجماع لا بنفسه ، وممتنع الخطأ في هذه الثلاثة ، والآراء ، لا دخل لهما في صلب الشريعة ، فلا ضرورة في حفظها . سلمنا ، ولكن ذلك منقوض بالنائب . وقد يقال بأن وجود المعصوم لو كان ضرورياً للأمن من الخطأ لوجب أن يكون في كل قطر بل في كل بلدة ، إذ الواحد لا يكفى للجميع بل هو مستحيل بداهة لانتشار المكلفين في الأقطار ، والحضور مستحيل عادة ، ونصب نائب لا يفيد لجواز الخطأ لا يفيد لجواز الخطأ وعدم إمكان التدارك لا سيما في الغيبة والوقائع اليومية إذ الإطلاق ممنوع ، وعلى تسليمه الإعلام إما برسول ولا عصمة ، أو بكتاب والتلبيس جائز . على أن الفهم إنما هو إستعمال قواعد الرأى وضوابط القياس ، والكل مظنة الخطأ ، فلا يحصل المقصود إلا بنصب معصوم في كل قطر وهو محال .

التنبيه الرابع : الإمام لا يلزم أن يكون منصوصاً من البارى ، لأن نصبه واجب على العباد كما تقدم ، فتعيين الرئيس مفوض إليهم ، وهو الأصلح لهم . وقالت الإمامية لابد أن يكون منصوصاً من قبله تعالى ، كما أن نصبه واجب عليه تعالى . وهذا مخالف للعقل والنقل : أما الأول فقد مر ، وأما الثاني فلقوله تعالى ] وجعلناهم أئمة [ ، و ] نريد أن نجعلهم أئمة [ و ] هو الذى جعلكم خلائف في الأرض [ إلى غير ذلك ، ولم يكن في احد من تلك الفرق نص بل كان برأى أهل الحد والعقد ، فمعنى الجعل إلقاء أختياره في قلوب مسموعى القول فينصبوه ، فإن عدل فعادل وإلا فجائز . وقد قيس طالوت بعصا الملوك فساواها فملك كما لا يخفى على المتتبع فافهم ، والله تعالى اعلم .

التنبيه الخامس : لا يلزم أن يكون الإمام أفضل أهل العصر عنده تعالى ، إذ قد خلف طالوت ، وداود وشمويل موجودان . نعم لابد لأهل الحد والعقد من نصب الأفضل رياسة وسياسة لا عبادة ودراسة . والشيعة على خلاف هذا . وقد علمت درهم إجمالاً . وأشترطوا ما أشترطوا لنفى الخلافة عن الثلاثة لعدم العصمة والنص ، وفي الأفضلية مجال بحث . وهذه نبذة يسيرة في الرد ، وسيأتى التفصيل في إثبات الخلافة إن شاء الله تعالى .

التنبيه السادس : وهذا أهم التنبيهات : أعلم أن الإمام بعد رسول الله r بلا فصل أبو بكر الصديق بإجماع أهل الإسلام ، وقد تفردت الشيعة بإنكار ذلك وقالوا الإمامة كذلك لعلى t ، وعند أهل الحق له بعد الثلاثة ، ثم لابنه الحسن t ، والصلح لمصالح رآها وهو اللائق بذاته الكريمة لا لخوف من جند كما أفترى المفترون غذ قد ورد في كتب الشيعة خطبة يقول فيها (( إنما فعلت ما فعلت إشفاقاً عليكم )) وقد ثبت في آخرى أوردها المرتضى وصاحب الفصول أنه قال لما انبرم الصلح بينه وبين معاوية (( إن معاوية قد نازعنى حقاً لى دونه ، فنظرت الصلح للأمة وقطع الفتنة . وقد كنتم بايعتمونى على أن تسالموا من سالمنى وتحاربوا من حاربنى ، ورأيت أن حقن دماء المسلمين خير من سفكها ، ولم ارد بذلك إلا صلاحكم )) فهاتان الخطبتان تدلان على ان الصلح للمصلحة لا للعجز وعدم الناصر ، والثانية أيضاً تدل بالصراحة على إسلام الفريق الثاني ، لأن المصالحة لأهل الكفر والردة لمخافة الفتنة لا تجوز ، بل ترك قتالهم وغلبتهم هو الفتنة لقوله تعالى ] وقاتلهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين له [ وأيضاً قد سبق ما كان يقوله الحسين في صلح الحسن أفنسى أن الضرورات تبيح المحظورات . ثم إظهار الكراهة لخلاف المصلحة المعقولة للكارة لا تكون قبيحة ، وأيضاً الاختلاف بين أكابر الدين في المصالح المنجر إلى عدم الرضا لا يقدح في أحد الجانبين ، فليحفظ . ثم لا يغتر بما يقوله أهل الزور على اهل السنة من انهم يقولونه بخلافة معاوية بعد الشهيد ، وحاشا وكلا ( 1 ) بل هم يقولون بصحة خلافته بعد صلح

 

---------------------------

( 1 ) ومعاوية نفسه t يرى بدء خلافته من يوم مبايعة الحسن t له بالخلافة ، ومع ذلك فإنه في عشرين سنة تقدمت على ذلك مدة الخلافة الصديق والفاروق وذى النورين إلى عام الجماعة كان الحاكم المثالى في العدل والحكمة والسيرة الصالحة ، ثم كان كذلك في عشرين سنة أخرى تولى فيها جميع أمور المسلمين عادلاً مجاهداً فاتحاً صالحاً . روى افمام الحافظ الثقة أبو بكر أحمد بن محمد بن هانى الأثرم المتوفى بعد سنة 270 وكان من أعلام المسلمين قال : حدثنا محمد بن حواش عن أبي هريرة المكتب قال : كنا عند سليمان ابن مهران الأعمش ( المتوفى سنة 148 في خلافة أبي جعفر المنصور ) فذكر عمر ابن عبد العزيز وعدله ، فقال الأعمش : فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا : في حلمه ؟ قال : لا والله ، بل في عدله . وذكر أبو إسحاق السبيعى معاوية فقال : (( لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم كان المهدى )) .

الحسن إلا أنه غير راشد ( 1 ) والراشدون هم الخمسة ، بل قالوا أنه باغ ( 2 ) .

فإن قلت إذا ثبت بغيه لم لا يجوز لعنه ؟ جوابه : إن أهل السنة لا يجوزون لعن مرتكب الكبيرة مطلقاً ، فعلى هذا لا تخصيص بالباغى لأنه مرتكب كبيرة ايضاً ، على انه إذا كان باغياً بلا دليل ، وأما كان بغيه بالإجتهاد ولو فاسد فلا إثم عليه فضلاً عن الكبيرة ويشهد لهم قوله تعالى
] وأستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات [ والآمر بالشئ نهى عن ضده عند الإمامية ، فالنهى عن اللعن واضح . نعم ورد اللعن في الوصف في حق أهل الكبائر مثل قوله تعالى ] ألا لعنة الله على الظالمين [ وقوله تعالى ] فنجعل لعنة الله على الكاذبين [ لكن هذا اللعن بالحقيقة على الوصف لأعلى صاحبه ، ولو فرض عليه يكون وجود الإيمان مانعاً والمانع مقدم كما هو عند الشيعة ، وأيضاً وجود العلة مع المانع لا يكون مقتضياً ، فاللعن لا يكون مترتباً على وجود الصفة حتى يرتفع الإيمان المانع ، وقوله تعالى ] والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين أمنوا إنك رءوف رحيم [ نص في طلب المغفرة وترك العداوة بحيث جعل على الإيمان من غير تقييد ، ويشهد لهم ما تواتر عن الأمير من نهى لعن أهل الشام ، قالت الشيعة والنهى لتهذيب الأخلاق وتحسين الكلام كما يدل قوله تعالى في هذا المقام (( إنى أكره لكم أن تكونوا سبابين )) ، وأهل السنة يقولون هو مكروه للإمام فينبغي كراهته لنا وعدم محبوبيته وجعله قربة وإن لم نعلم وجه الكراهة .

وايضاً روى في نهج البلاغة عنه t ما يدل صراحة على المقصود ، وهو انه لما سمع لعن اهل الشام خطب وقال (( إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والأعوجاج والشبهة والتأويل )) . فإذا صحت الروايتان في كتب الإمامية حملنا الأولى على من كان يلعنهم بالوصف وهو جائز ، لا مطلقاً بل لمن يبلغ الشريعة كالأنبياء ، إذ قد يستعمل لبيان قباحه تلك الصفات ، وأما الغير في حقه مكروه ، لأنه لو أعتاده لخشى في حق من ليس أهلاً له ، وحملت الثانية على من يلعن أهل الشام بتعيين الأشخاص غافلاً عن منع الإيمان ، فأعملنا الروايتين لأن الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال . وقال بعض علماء الشيعة : البغي غير موجب للعن على قاعدتنا ، لأن الباغى آثم ، لكن هذا الحكم مخصوص بغير المحارب للأمير ،
---------------------------

( 1 ) اى لم يكن من الخلفاء الراشدين .

( 2 ) بل قال الشيعة أكثر من ذلك ، والمؤلف يخاطب الشيعة بعقليتهم ليعود بعد ذلك فينقض كل ما تظاهر به لهم . اما المنصفون من أعلام أمة محمد r فيقولون كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 3 : 185 ) : (( لم يكن من ملوك الإسلام ملك خيراً من معاوية ، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمن معاوية ، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده . وإذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل . وقد روزى أبو بكر الأثرم – ورواه ابن بطة من طريقه – عن محمد بن عمر بن جبله عن محمد بن مروان عن يونس بن عبيد البصرى عن قتادة بن دعامة السدوسى أحد أعلام الإسلام في البصرة أنه قال : (( لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم : هذا المهدى )) .

وأما هو فكافر عندنا بدليل حديث متفق عليه عند الفريقين أنه r قال للأمير : (( حربك حربي )) وأنه قال لأهل العبا (( أنا سلم لمن سالمتم حرب لمن حاربتم )) وحرب الرسول كفر بلا شبهة فكذا حرب الأئمة .

قال أهل السنة هذا مجاز للتهديد والتغليط ، بدليل ما حكم الأمير من بقاء إيمان أهل الشام وأخوتهم في الإسلام ، على أن قوله (( حرب الرسول كفر )) ممنوع ، إذ قد حكم على آكل الربا بحرب الله ورسوله معاً قال تعالى ] فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله [ وعلى قطاع الطريق كذلك قال تعالى ] إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله [ الآية فلم لم تحكم الشيعة بكفر هؤلاء ؟

هذا ولنرجع إلى ما كنا فيه ، ولنورد عدة آيات قرآنية وأخبار عن العترة تدل على المرام ، وتوضح المقام . وتفسد أصل الشيعة ، وتبطل هذه القاعدة الشنيعة . وبالله تعالى الاستعانة والتوفيق ، ومنه يرجى الوصول إلى سواء الطريق .

فمن الآيات قوله تعالى ] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما أستخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذى أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً بعبدوننى لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون [ . الحاصل أن الله تعالى وعد المؤمنين الصالحين – الحاضرين وقت النزول – بالإستخلاف والتصرف ، كما جعل داود u ، الوارد في حقه ] ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض [ وغيره من الأنبياء ، بإزالة الخوف من الأعداء الكفار والمشركين ، وبأن يجعلهم في غاية الأمن حتى يخشون أحداً إلا الله تعالى ، وبتقويه الدين المرتضى بأن يزوجه ويشيعه كما ينبغي . ولم يقع هذا المجموع إلا زمن الخلفاء الثلاثة لأن المهدى ماكان موجوداً وقت النزول ، والأمير وإن كان حاضراً لكن لم يحصل له رواج كما هو حقه بزعم الشيعة ، بل صار أسوأ وأقبح من عهد الكفار كما صرح به المرتضى في ( تنزيه الأنبياء والأئمة ) مع أن الأمير كانوا يخفون دينهم خائفين هائبين من أفواج أهل البغي دائماً ( 1 ) . وأيضاً الأمير فرد من الجماعة ، ولفظ الجمع حقيقة في ثلاثة أفراد ففوق ، والأئمة الاخرون لم يوجد فيهم مع عدم قصورهم تلك الأمور كما لا يخفى ، وخلف الوعد ممتنع أتفاقاً ، فلزم أن الخلفاء الثلاثة كانوا هم الموعودين من قبله تعالى بالإستخلاف وأخويه ( 2 ) وهو معنى الخلافة الراشدة المرادفة للإمامة .

 

---------------------------

( 1 ) المؤلف يتكلم بلغة الدين يخاطبهم من الشيعة كما تقدم التنبيه على ذلك ليتمكن من نقض مزاعمهم وإبطالها .

( 2 ) وهما ان يمكن الله لهم دينهم الذى أرتضى لهم ، أن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً .

وقال الملا عبد الله المشهدى في ( إظهار الحق ) : بعد الفحص الشديد يحتما أن يكون (( الخليفة )) بالمعنى اللغوى و (( الاستخلاف )) الإتيان بأحد بعد آخر كما ورد في حق بنى إسرائيل ] عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض [ والمعنى الخاص مستحدث بعد الرحلة . جوابه : أن الاستخلاف غير مستعمل في الكلام بالمعنى اللغوى ، والقاعدة الأصولية للشيعة أن الألفاظ القرآنية ينبغي أن تحمل على المعاني الاصطلاحية الشرعية حتى الإمكان ، لا على المعاني اللغوية . وإلا فالشرعية كلها تفسد ولا يثبت حكم كما لا يخفى . وأيضاً كيف يصح تمسكهم بحديث (( أنت منى )) الخ المنضم إليه (( أخلفنى في قومى )) وكيف التمسك بحديثهم (( يا على خليفتى من بعدي )) ؟ ولقد سعى المدققون من الشيعة في الجواب عن هذه الأية ( 1 ) وتوجيهها ، وأحسن الأجوبة عندهم اثنان : الأول أن (( من )) للبيان لا للتعبيض ، و (( الاستخلاف )) الاستيطان . قلنا : حمل (( من )) الداخلة على الضمير على البيان مخالف للاستعمال وبعيد عن المعنى في الآية الكريمة وإن قال به البعض ، سلمنا لكن لا يضرنا لأن المخاطبين هم الموعودون بتلك المواعيد وقد حصلت لهم ، إلا أن الاستخلاف غير معقول للكل حقيقة ، فالحصول للبعض حصول للكل باعتبار المنافع . وأيضاً قيد (( أعملوا الصالحات )) وكذا (( الإيمان )) يكون عبثاً إذ الاستيطان يحصل للفاسق وكذا الكافر . وأيضاً حاشا القرآن من العبث . الثاني أن المراد الأمير فقط وصيغه الجمع للتعظيم أو مع أولاده خوف . قلنا يلزم تخلف الوعد كما لا يخفى ، إذ لم يحصل لأحد منهم تمكين دين وزوال خوف ، والناس شاهدة على ذلك . وأنظر ايها المصنف الحصيف واللوذعى الشريف إلى ما قاله الإمام مما ينسحم عندهم ( 2 )  أن عمر بن الخطاب لما أستشار الأمير عند أنطلاقه لقتال فارس وقد جمعوا للقتال ، إجابه (( إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة ، وهو دين الله تعالى الذى أظهره ، وجنده الذى أعده وأمده ، حتى بلغ ما بلغ وطلع ، ونحن على وعد من الله تعالى حيث قال عز أسمه ] وعد الله الذين أمنوا [ وتلا الآية منجز وعده وناصر جنده . ومكان القيم بالأمر في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن أنقطع النظام تفرق الخرز ، ورب متفرق لم يجتمع ، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع ، فكن قطباً ، واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب ، فإنك إن شخصت من هذه الأرض أنتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات
-------------------------

( 1 )  آية ] وعد الله الذين منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض [ .

( 2 ) تقدم في هامش ص 58 أن المرتضى أعان أخاه الرضى على توسيع الخطب والأقوال المنسوبة لأمير المؤمنين كرم الله وجهه ، وأنهما كانا يعمدان إلى الخطبة القصيرة المأثورة عن أمير المؤمنين فيزيدان عليها من هوى الشيعة ما تواتيهما عليه القريحة من ذم الصحابة أو دس العقائد الملتوية . ففي نهج البلاغة الكثير من كلام الإمام ، ولكن فيه الأكثر من دسائس المرتضى والرضى .

أهم إليك مما بين يديك . إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا : هذا أصل العرب فإذا قطعتموه أسترحتم ، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك . فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانه وتعالى هو أكرم لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكرهه . وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة )) أنتهى بلفظه . فتدبر فقد أرتفع الإشكال واتضح الحال والحمد لله رب العالمين .

          ومنها قوله تعالى ] قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى بأسٍ شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً ، وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً [ المخاطب بهذه الآية بعض القبائل ممن تخلف عن الرسول r في غزوة الحديبية لعذر بارد وشغل كاسد ، وقد أجمع الفريقان أنه لم يقع بعد نزول هذه الآية إلا غزوة تبوك ، ولم يقع فيها إلا القتال ولا الإسلام ، فتعين الغير ، والداعى ليس جناب الرسول عليه الصلاة والسلام لا محالة ، فلابد أن يكون خليفة من الخلفاء الثلاثة الذين وقعت الدعوة في عهدهم كما في عهد الخليفة الأول لمانعى الزكاة اولاً وأهل الروم آخراً ، وفي عهد الخليفة الثاني والثالث كما لا يخفى على المتتبع . فقد صحت خلافة الصديق لأن الله تعالى وعد وأوعد ، ورتب كلا على الإطاعة والمعصية . فهلا يكون ذلك المطاع المنقاد له بالوجود إماماً ؟ المنصف يعرف ذلك . وقد تخبط ابن المطهر الحلى وقال : يجوز أن يكون الداعى الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوات التى وقع فيها القتال ، ولم ينقل لنا . وإذ فتح هذا الباب يقال كذلك : يجوز عزل الأمير بعد الغدير ونصب ابي بكر وتحريض الناس على أتباعه ، ولم ينقل لنا . فأنظر وتعجب . وقال بعضهم : الداعى هو الأمير ، فقد دعا إلى قتال الناكثين والقاسطين والمارقين . ويقال فيه : إن قتل الأمير إياهم لم يكن لطلب الإسلام بل لا نتظام أحوال الإمام ، ولم ينقل في العرف القديم والجديد أن يقال لإطاعة الإمام
(( إسلام )) ولمخالفته (( كفر )) . ومع هذا نقل الشيعة روايات صحيحة عن النبي
r في حق الأمير أنه قال : إنك يا على تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله . وظاهر أن المقاتلة على تأويل القرآن لا تكون إلا بعد قبول تنزيله ، وذلك لا يعقل بدون الإسلام ، بل هو عينه ، فلا يمكن المقاتلة على التأويل على الإسلام بالضرورة وهو ظاهر .

ومنها قوله تعالى ] يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم [ مدح الله تعالى في هذه الآية الكريمة الذين قالوا المرتدين بأكمل الصفات وأعلى المبرات ، وقد وقع ذلك من الصديق وأنصاره بالإجماع ، لأن ثلاث فرق قد أرتدوا في آخر عهده u : الأولى بنو مدلج قوم اسود العنسى ذى الخمار الذى ادعى النبوة في اليمن وقتل على يد فيروز الديلمى ، الثانية بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب المقتول في أيام خلافة الصديق على يد وحشى ، الثالثة بنو أسد قوم طليحة بنى خويلد المتنبي ولكنه آمن بعد ان أرسل النبي r خالداً وهرب منه إلى الشام . وقد أرتد في خلافة الصديق سبع فرق : بنو فرازة قوم عيينة بن حصن ، وبنو غطفان قوم قرة بن سلمة ، وبنو سليم قوم ابن عبد ياليل ، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض بنى تميم قوم سجاج بنت المنذر ، وبنو كندة قوم أشعث بن قيس الكندى ، وبنو بكر في البحرين . وأرتدت فرقة في زمن عمر t والتحقت بالنصارى إلى الروم . وقد استأصل الصديق كل فرقة وأزعجهم واستردهم إلى الإسلام كما أجمع عليه المؤرخون كافة . ولم يقع للأمير ذلك ، بل كان متحسراً على ما هنالك ، وكم قال (( أبتليت بقتال أهل القبلة )) كما رواه الإمامية ، وتسمية منكرى الإمامة مرتدين مخالفة للعرف القديم والحديث . على أن المنكر للنص غير كافر ( 1 ) كما قال الكاشى وصاحب الكافى ، وأنظر إلى ما قال الملا عبد الله ( 2 ) صاحب ( إظهار الحق ) ما نصه : (( فإن قيل ( 3 ) فإن لم يكن النص الصريح ثابتاً كما في باب خلافة الأمير فالإمامية كاذبون ، وإن كان لزم أن يكون جماعة الصحابة مرتدين والعياذ بالله تعالى ، أجيب : إن إنكار النص الذى هو موجب للكفر إنما هو اعتقاد أن الأمر المنصوص باطل وإن كذبوا في ذلك التنصيص رسول الله r ، حاشا . أما لو تركوا الحق مع علمهم بوجوبه للأغراض الدنيوية وحب الجاه فيكون ذلك من الفسوق والعصيان لا غير )) ثم قال (( فالذين أتفقوا على خلافة الخليفة الأول لم يقولوا إن النبي r نص عليها لأحد أو قال بما لا يطابق الواقع فيها ، معاذ الله ، بل منهم من أنكر بعض الأحيان تحقق النص ، وأول بعضهم كلام الرسول r تأويلاً بعيداً )) أنتهى كلامه . وأيضاً قال الأمير في بعض خطبه المروية عنه عندهم (( أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل )) وأيضاً قد منع السب كما تقدم ، وسب المرتد غير منهى عنه . قطعنا النظر وسلمنا أن الأمير قال المرتدين ، فالمقاتل لهم زمن الخليفة الأول شريك في المدح ايضاً ، وإلا لزم الخلف

---------------------------

( 1 ) أي عند الشيعة . والمؤلف يخاطبهم في هذا الكتاب باسلوبهم وعقليتهم وأدلتهم وبالمسلمات عندهم .

( 2 ) هو المشهدي الشيعي الذى تقدم ذكره في ص 126 وسيأتى في ص 144 .

( 3 ) أى إذا قال أهل السنة .

لعموم من في الشرط والجزاء كما تقرر في الأصول . والمقاتل هو ( 1 ) وأنصاره لا الأمير ، إذ لم يدافع أحداً منهم ولا عساكره ، إذ هم ( 2 ) غير موصوفين بما ذكر ، فلكم (( أنبئت بسراً قد أطلع اليمن ، وإنى والله لا أظن هؤلاء القوم سيدالون منكم ( 3 ) باجتماعهم على باطلهم وتفركم عن حقكم . وبمعصيتكم إمامكم في الحق ، وطاعتهم إمامهم في الباطل . وبأدائهم الأمانة إلى أصحابهم . وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم . فلو أئتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته . اللهم قد مللنهم وملونى وسئمتهم وسئمونى ، فأبدلنى خيراً منهم وأبدلهم بي شراً منى . اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح بالماء . لوددت والله لو أن لى بكم ألف فارس من بنى فراس بن غنم :

          هنالك لو دعوت أتـاك منهم              فروارس مثل أرمية الحميم

          ويقول في خطبة أخرى : أحمد الله على ما قضى من أمر ، وقدر من فعل ، وعلى ابتلائى بكم ايتها الفرقة التى إذا أمرت لم تطع ، وإذا دعوت لم تدب . ثم قال بعد كلام : وإنى لصحبتكم قال وبكم غير كثير ألخ . والنهج مملوء من أمثال هذه الكلمات ، ومحشو من مثل هذه الشكايات . فأنظر هل يمكن تطبيق الأوصاف القرآنية على هؤلاء الأقوام ( 4 ) وهل يجتمع النقيضان ( 5 ) ! وكلام الله كاذب ، أم كلام الإمام ؟ وأيضاً يستفاد من سياق الآية وسباقها أن فتنة المؤمنين وتقويهم ، ولإزالة خوفهم من المرتدين وفتنتهم ، ولم تنته مقالات الأمير إلا إلى الضد كما لا يخفى .

          هذا وبقيت ىيات كثيرة وأدلة غزيرة تركناها أكتفاء بما ذكرناه ، واعتماداً على أن المنصف يكفيه ما سطرناه .

          وأما أقوال العترة فمنها ما أورده المرتضى في ( نهج البلاغة ) عن أمير المؤمنين من كتابه الذى كتبه إلى معاوية وهو : أما بعد فإن بيعتى يا معاوية لزمتك وأنت بالشام ، فإنه بايعنى القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، وعلى ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا ، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه فإن آبى قاتلوه على

------------------------

( 1 ) أى الخليفة الأول .

( 2 ) أى عساكر الأمير كرم الله وجهه .

( 3 ) أى سيعطيهم الله الغلبة عليكم .

( 4 ) يعنى الأوصاف الواردة في الأية ] فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه . أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين …. [ .

( 5 ) أى ذم أمير المؤمنين شيعته وجنده ، والوصف القرآني الوارد في الآية .

أتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى . ومنتهى ما أجاب الشيعة عن أمثال هذه انه من مجاراة الخصم ودليل الزامى ، وهو تحريف لا ينبغي لعاقل ، ولا يليق بفاضل ، إذ فيه غفلة وإغماض عن أطراف الكلام الزائدة على قدر الإلزام ، إذ يكفى فيه بيعة أهل الحل والعقد كما لا يخفى . وأيضاً الدليل الإلزامى مسلم عند الخصم ، ومعاوية لا يسلم ما ذكر ويرشدك إلى ذلك كتبه إلى الأمير كما هو مذكور عند الإمامية وغيرهم ، فمذهبه كما يظهر منها أن كل مسلم قرشى مطلقاً إذا كان قادراً على تنفيذ الأحكام وإمضاء الجهاد وحماية حوزة الإسلام وحفظ الثغور ودفع الشرور وبايعه جماعة من المسلمين من أهل العراق أو من أهل الشام أو من المدينة المنورة فهو الإمام . وإنما لم يتبع الأمير لاتهامه له بقتله عثمان ( 1 ) وحفظ أهل الجور والعصيان ، وكان يعتقده قادراً على تنفيذ الأحكام وأخذ القصاص الذى هو من عمدة أمور شريعة سيد الأنام وذلك بزعمه ومقتضى فهمه . ومن أجلى البديهات أن بيعة المهاجرين والأنصار التى لم تكن خافية على معاوية قط لو حبسها معتداً بها لم يذكر في مجالسه ومكاتيبه قوادح الأمير ، بل خطأ تلك البيعة أيضاً بالصراحة كما هو معروف من مذهبه على ما لا يخفى على الخبير . فما ذكر في مقابلته من بيعة المهاجرين والأنصار دليل تحقيقى مركب من المقدمات الحقة فيثبت المطلوب .

          ومنها ( 2 ) ما في ( النهج ) أيضاً عن الأمير (( لله بلاد ابي بكر لقد قوم الأود ، وداوى العلل ، وأقام السنة ، وخلف البدعة ، وذهب نقى الثوب ، قليل العيب ، أصاب خيرها واتقى شرها ، أدى لله طاعة واتقاه بحقه ، رحل وتركهم في طريق متشعبة لا يهتدى فيها الضال ، ولا يستيقن المهتدى )) . وقد حذف الشريف صاحب النهج حفظاً لمذهبه لفظ (( أبي بكر )) وأثبت بدله (( فلان)) وتأبي الأوصاف إلا أبا بكر ، ولهذا الإبهام أختلف الشراح فقال البعض هو ابو بكر وبعض هو عمر ورجح الأكثر الأول وهو الأظهر فقد وصفه من الصفات بأعلى مراتبها ، فناهيك به وناهيك بها . وغاية ما أجابوا أن مثل هذا المدح كان من الإمام لاستجلاب قلوب الناس لاعتقادهم بالشيخين أشد الاعتقاد ، ولا يخفى على المنصف أن فيه ( 3 ) نسبة الكذب لغرض دنيوى مظنون الحصول ، بل كان اليأس منه ( 4 ) وفي الحديث الصحيح (( إذا مدح الفاسق غضب الرب )) ، وأيضاً أية ضرورة تلجئه إلى هذه التأكيدات والمبالغات ؟ وكان يكفيه أن يقول : لله بلاد فلان قد جاهد الكفر والمرتدين ، وشاع بسعيه الإسلام ، وقام عماد المسلمين ، ووضع الجزية ، وبنى
--------------------------

( 1 ) أى وجودهم في نطاق حكمه دون أن يقام عليهم الحد الشرعي .

( 2 ) من أقوال العترة .

( 3 ) أى في هذا التعليل البارج من الشيعة .

( 4 ) أى إلا عن أعتقاد بصدق ما يقوله .

المساجد ، ولم تقع في خلافته فتنة ولا بقى فيها معاند . ونحو ذلك . وفرق بين هذا والسلوك في هاتيك المسالك . وأيضاً في هذا المدح العظيم الكامل تضليل الأمة وترويج للباطل ، وذلك محال من المعصوم ( 1 ) ، بل كان الواجب عليه بيان الحال لمن بين يديه بموجب الحديث الصحيح ( 2 )
(( أذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس )) فأنظر وأنصف . وأجاب بعض الإمامية أن المراد من
(( فلان )) رجل من الصحابة مات في عهد النبي
r  واختار هذا القول الراوندى ، وأنظر هل يمكن لغيره r في زمنه الشريف تقويم الأود ، ومداواة العلل وإقامة السنة وغيرها ؟ وهل يعقل أن رجلاً مات وترك الناس فيما ترك والنبي r موجود بنفسه وذاته الأنيسة ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم وزور جسيم . وقال البعض : غرض الإمام من هذه العبارة توبيخ عثمان والتعريض به ، فإنه لم يذهب على سيرة الشيخين . وفيه : أما اولا فالتوبيخ يحصل بدون هذه الكذبات فما الحاجة إليها ؟ وأما ثانياً فسيرة الشيخين إن كانت محمدودة فقد ثبتت إمامتها وإلا فالتوبيخ (( أنا الغريق فما أخشى من البلل )) . ومنها ما نقله على ابن عيسى الأربلى الأثنا عشرى ( 3 ) في كتابه ( كشف الغمة في معرفة الأئمة ) أنه (( سئل الإمام أبو جعفر عن حلية السيف هل تجوز ؟ فقال : نعم ، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه بالفضة . فقال الراوى : أتقول هذا ؟ فوثب الإمام عن مكانه فقال : نعم الصديق ، نعم الصديق ، فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله قوله في الدنيا والآخرة )) ومن الثابت أن مرتبة الصديقية بعد النبوة ، ويشهد لها القرآن ، والآيات كثيرة ، منها قوله تعالى ] فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً [ ولا أقل من كونها صفة مدح فوق الصالح ، وإذا قال المعصوم ( 4 ) في رجل أنه صالح أرتفع عنه أحتمال الجور والفسق والظلم والغضب ، وإلا لزم الكذب وهو محال ، فكيف يعتقد فيه غضب الإمامة وتضييع حق الأمة ؟ ولعمرك المعتقد داخل في عموم هذا الدعاء ، ويكفيه جزاء . وغاية ما أجابوا أنه (( تقية )) وانت تعلم ان وضع السؤال يعلم منه أن السائل شيعي ، فلم التقية منه وهذا التأكيد ؟ وبعضهم أنكر هذا الكلام ، والنسخ شاهدة لنا وإن لم يوجد في البعض فالبعض الآخر كاف ، والنسخ كثيرة والروايات في هذا الباب أكثر والله أعلم .

---------------------------

( 1 ) نذكر القارئ بان المؤلف يجارى القوم بما فيه إلزام لهم مما يعتقدونه ويسلمون بصحته .

( 2 ) أورد ابن الدبيع الشيباني هذا الحديث في كتابه ( تمييز الطيب من الخبيث ، فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث ) ص 16 طبعة مصر سنة 1347 متابعاً شيخه الشمس السخاوى في كتاب ( المقاصد الحسنة ) وقال أخرجه أبو يعلى وغيره ، ولا يصح ( أى لا يبلغ درجة الصحة ) . وأورده العجلونى في ( كشف الخفا والالباس ) من رواية أبن ابي الدنيا وابن عدى والطبراني والخطيب من حديث معاوية بن أبي حيدة ، ثم نقل قول ابن الدبيع إنه لا يصح . والإمام أحمد لم يثبت هذا الحديث في أحاديث معاوية بن أبي حيدة التى أوردها في أوائل الجزء الخامس من مسنده الطبعة الأولى .

( 3 ) من صناديد متعصبي الشيسعة في القرن السابع الهجرى ، له ترجمة في روضات الجنات ص 386 الطبعة الثانية .

( 4 ) أي في اعتقاد الخصم .

ولنذكر بعض الأدلة المأخوذة من الكتاب وأقوال العترة الأنجاب مما يوصل إلى المطلوب بأدنى تأمل :

الأول أن الله تعالى ذكر جماعة الصحابة الذين كانوا حاضرين حين انعقاد خلافة أبي بكر الصديق وممدين له وناصرين له في أمور الخلافة ملقباً لهم في مواضع من تنزيله قال تعالى ] أولئك هم الفائزون [ وقال تعالى ] رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك هم الصادقون [ وقال تعالى ] حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان [ فإجماع مثل هؤلاء الأقوام على منشأ الجور والآثام محال وإلا لزم الكذب وهو كما ترى .

الثاني أن الله تعالى وصف الصحابة y بقوله عز اسمه ] حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان [ فكيف يرتكبون ذلك فيلزم الخلف وهو محال .

الثالث أن الله تعالى قال في المهاجرين ] أولئك هم الصادقون [ بعد قوله سبحانه ] للفقراء المهاجرين [ الآية وجميعهم قائلون بخلافة الصديق ، ولو لم تكن حقة لزم الخلف في الآية وهو محال .

الرابع أن جماعة كثيرين من الصحابة قد وقع اتفاقهم على خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وكل ما يكون متفقاً عليه لجماعة الأمة فهو حق وخلافة باطل بما ذكره الرضى في ( نهج البلاغة ) مروياً عن الأمير في كلام له (( إلزموا السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة وإياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب )) .

الخامس أن قوماً جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقتلوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وأقاربهم ولم يراعوا حقهم نصرة لله تعالى ورسوله r وقد حضروا هذه البيعة ولم يخالفوا فلا بليق بهم ما نسب وكيف يرضى بذلك العاقل .

السادس أن أمير المؤمنين لما سئل عن أحوال الصحابة الماضين وصفهم بلوازم الولاية وقال كما في ( نهج البلاغة ) : (( كانوا إذا ذكروا الله صمت أعينهم حتى تبل جباههم ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء للثواب )) وقال أيضاً (( كان أحب اللقاء إليهم لقاء الله وإنهم يتقلبون على مثل الجمر من ذكر معادهم )) فالانكار من هؤلاء والإصرار على مخالفة الله والرسول r من المحالات .

السابع ما ذكر في الصحيفة الكاملة للسجاد من الدعاء لهم ومدح متابعيهم ولا احتمال للتقية في الخلوات وبين يدي رب البريات ونصه (( اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ] ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان [ خير جزائك الذين قصدوا سمتهم وتحروا وجهتهم ومضوا في قفو أثرهم والائتمام بهداية منارهم يدينون بدينهم على شاكلتهم لم يتهم ريب في قصدهم ولم يختلج شك في صدورهم )) إلى آخر ما قال فالاصرار من هؤلاء الأخبار على كتمان الحق وتجويز الظلم والجور على عترة سيد الخلق r لا يقول به عاقل ولا يفوه به كامل .

الثامن ما أورده الكليني في الكافي في باب السبق إلى الإيمان (1) بروايات أبي عمرو الزبيري عن أبي عبدالله u أنه قال (( قلت له إن الإيمان درجات ومنازل يتفاضل المؤمنون فيها عند الله . قال نعم . قلت صفة لي رحمك الله حتى أفهمه ، قال : إن الله سبق بين المؤمنين كما يستبق بالخيل يوم الرهان ثم فضلهم على درجاتهم في السبق إليه فجعل كل امرئ منهم على درجة سبقه ولا ينقصه فيها من حقه ولا يتقدم مسبوق سابقاً ولا مفضول فاضلاً تفاضل بذلك أوائل الأمة وأواخرها . ولو لم يكن للسابق إلى الإيمان فضل على المسبوق إذا للحق آخر هذه الأمة وأولها نعم ولتقدموهم إذ لم يكن لمن سبق إلى الإيمان على من أبطأ عنه ولكن بدرجات الإيمان قدم الله السابقين وبالأبطاء عن الإيمان أخر الله المؤخرين لأنا نجد من المؤمنين من الآخرين من هو أكثر علماً من الأولين وأكثرهم صلاة وصوماً وحجاً وزكاة وجهاداً وإنفاقاً ولو لم تكن سوابق يفضل الله بها المؤمنين لكان الآخرون بكثرة العمل متقدمين على الأولين ولكن أبي الله عز وجل أن يدرك آخر درجات الإيمان أولها ويقدم فيها من أخر الله أو يؤخر فيها من قدم الله . قلت : أخبرني عما ندب الله عز وجل المؤمنين إليه من الاستباق إلى الإيمان . فقال : قول الله عز وجل ] سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله [ وقوله تعالى ] السابقون السابقون أولئك المقربون [ وقوله تعالى ] والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان y ورضوا عنه [ فبدأ بالمهاجرين على درجة سبقهم ثم ثني بالأنصار ثم ثلث بالتابعين لهم بإحسان فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده ثم ذكر ما فضل الله به أولياءه بعضهم على بعض فقال عز من قائل ] تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم فوق بعض درجات [ الآية وقال تعالى  ] ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [ وقال تعالى ] انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض [ وقال تعالى ] وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً [ إلى آخر الحديث وقال في آخره (( فهذا ذكر درجات الإيمان ومنازله عند الله عز وجل )) . فقد علم من هذا الحديث أن المهاجرين والأنصار كانوا في أعلى الدرجات من الإيمان ولم يصل غيرهم إلى ما وصلوا لقوله تعالى  ] أولئك
----------------------

( 1 ) ص 164 طبعة إيران سنة 1278 .

المؤمنون حقاً [ وقوله تعالى ] لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل [ الآية فكيف يصدر ممن كانوا كذلك الإصرار على مالا يرضاه الله تعالى من المسالك ؟

التاسع أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قد مدح الشيخين ودعا لهما حسبما ثبت عند الفريقين وقد نقل شراح نهج البلاغة كتاب الأمير إلى معاوية وقد قال فيه بعد ما ذكر أبا بكر وعمر (( لعمري إن مكانيهما لعظيم وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد رحمها الله تعالى وجزاهما بأحسن ما عملا )) فكيف يتصور صدور مثل ذلك عن المعصوم لو كانا غاصبين ظالمين ؟! معاذ الله من ذلك ، ونسأله سبحانه العصمة عما يعتقده أولئك .

هذا والكتب ملأى من أمثال هذه العبارات والأدلة القطعيات . وفيما ذكر كفاية لمن حلت بقلبه الهداية . والسلام على من اتبع الهدى ، وخشى عواقب الردى .

وههنا كلام مفيد شريف ، وبحيث رائق لطيف : أعلم أن الشيعة أستدلوا على إثبات إمامة الأمير بلا فصل بدلائل كثيرة وتحقق بعد الفحص والتفتيش في كتبهم أن أكثرها قائمة في غير محل النزاع ، وأنها مسروقة من أهل السنة . وتحقيق ذلك أن دلائلهم في هذا المطلب ثلاثة أقسام : الأول الآيات والأحاديث الدالة على فضائل الأمير وأهل البيت ، وقد أستخرجها أهل السنة في مقابلة الخوارج والنواصب الذين تجاسروا على الأمير t ونسبوا إليه ما هو برئ منه ، وذكروها في معرض الرد عليهم . والشيعة قد أوردوا تلك الدلائل في إثبات إمامة الأمير t بلا فصل ، وقصدوا بذلك الرد على أهل السنة . ولما جاء المتأخرون وقد أخذوا من اهل السنة والمعتزلة شيئاً من علم الأصول والكلام وحصل لهم نوع ما من الملكة والقدرة على الخصام ، غيروا الأدلة التى كانت هدفاً للأعتراضات والأسئلة وأصلحوها بزعمهم بعض المقدمات ، وزيادة ما أشتهوه من موضوع الروايات ، وما دروا أن ذلك زاد في الفساد ، وأبطل لهم المقصود والمراد ، ورجعوا إلى ما فروا منه ، ووقعوا فيما أنهزموا عنه ، وأكثر دلائلهم من هذا القبيل .

الثاني الدلائل الدالة على إمامة الأمير بكونه خليفة بالحق وإماماً بالإطلاق في حين من الآحيان ، وقد أقامها ايضاً أهل السنة في مقابلة المذكورين المنكرين لإمامته ، وما يستفاد منها إلا كون الأمير مستحقاً للخلافة الراشدة بلا تعيين وقت ولا تنصيص باتصال زمانها بزمان النبوة أو أنفصاله عنه . ولا ينبغي لأهل السنة أن يتصدوا لرد هذه الدلائل وجوابها فإنها عين مذهبهم .

الثالث الدلائل الدالة على إمامته بلا فصل مع سلب أستحقاق الإمامة عن غيره من الخلفاء الراشدين ، وهذه الحقيقة مختصة بمذهب الشيعة ، وهم منفردون باستخراجها ، وهي مخدوشة المقدمات كلها ، بحيث يكذب مقدماتها الثقلان : الكتاب ، والعترة . فنحن نذكر في هذه الرسالة بعضها من القسمين الأولين ، ونبين القسم الأخير بالاستيعاب والاستيفتاء ، وننبه فيها على منشأ الغلط وموقعه لتعلم حقيقة دلائلهم .

ولا يخفى أن مقدمات تلك الدلائل ومبادئها لابد أن تكون مسلمة الثبوت عند أهل السنة ، إذ الغرض من إقامتها إلزامهم ، فعلى هذا إما أن تكون تلك الدلائل من لآيات الكتاب والأحاديث المتفق عليها أو الدلائل العقلية المأخوذة من المقدمات المسلمة عند الفريقين ، أو من مطاعن الخلفاء الثلاثة التى يوردونها .

وأما المطاعن فسيأتى الكلام عليها في باب مفرد .

أما الأيات فمنها قوله تعالى ] إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو راكعون [ تقرير أستدلالهم بهذه الأية ما يقولون من أن أهل التفسير أجمعوا على نزولها في حق الأمير ( 1 ) إذ أعطى السائل خاتمه في حالة الركوع ( 2 ) وكلمة ( إنما ) مفيدة للحصر ، ولفظ ( الولى ) بمعنى المتصرف في الأمور . وظاهر أن المراد ههنا التصرف العام في جميع المسلمين المساوى للإمام بقرينه ضم ولايته إلى ولاية الله ورسوله فثبتت إمامته وأنتفت إمامة غيره للحصر المستفاد وهو المدعى . أجاب عنه أهل السنة بوجوه : الأول النقض بأن هذا الدليل كما يدل على نفى إمامة الأئمة المتقدمين كما قرر يدل كذلك على سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرين بذلك التقرير بعينه ، فلزم أن السبطين ومن بعدهما من الأئمة الأطهار لم يكونوا أئمة . فلو كان استدلال الشيعة هذا يصح لفسد تمسكهم بهذا الدليل ، إذ لا يخفى أن حاصل هذا الاستدلال بما يفيد في مقابلة أهل السنة مبنى على كلمة الحصر ، والحصر كما يضر أهل السنة يكون مضراً للشيعة ايضاً ، لأن إمامة الأئمة المتقدمين والمتأخرين كلهم تبطل به البتة . ومذهب أهل السنة وإن بطل بذلك لكن مذهب أهل الشيعة أزداد في البطلان أكثر منه ، فإن لأهل السنة نقصان الأئمة الثلاثة ، وللشيعة نقصان أحد عشر إماماً ، ولم يبق إماماً سوى الأمير . ولا يمكن أن يقال الحصر

----------------------------

( 1 ) دعوى الإجماع باطلة . وقد روى ابن جرير الطبرى ( 6 : 186 ) عن ابن أسحاق عن والده اسحاق بن يسار أنها نزلت في عبادة بن الصامت t لبراءته من حلف بنى قينقاع لما حاربوا النبي r فمشى عبادة إلى النبي r وخلع بنى قينقاع وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وولايتهم ، ففيه نزلت الآية لأنه قال : أتولى الله ورسوله والذين أمنوا .

( 2 ) قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية : (( وأما قوله ] وهم راكعون [ فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله
] ويؤتون الزكاة [ أى في حال ركوعهم ، ولو كان كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح ، وليس الآمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أهل الفتوى . وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن على بن أبي طالب أن هذه الأية نزلت فيه ، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه ( وبعد أن أستعرض روايات من يروى ذلك قال : ) وليس يصح شئ منها بالكلية لضعف اسانيدها وجهالة رجالها . ثم نقل عن الطبرى أن عبد الملك سأل أبا جعفر u عن هذه الأية : من الذين آمنوا ؟ قال أبو جعفر : الذين آمنوا . قلنا : بلغتا أنها نزلت في علي بن ابي طالب . قال : علي من الذين آمنوا . فإذا كان محمد الباقر وهو حفيد على بن أبي طالب يقول هذا ، فمن الفضول التزيد عليه لشهوة تحميل الآية مالا تحتمله من تجريح خلافة المسلمين ، وإيذاء علي بن أبي طالب في إخوانه الذين عاش ومات على محبتهم وولا يتهم .

إضافى بالنسبة إلى من تقدمه ، لأنا نقول : إن حصر ولاية من أستجمع هذه الصفات لا يفيد إلا إذا كان حقيقياً ، بل لا يصح لعدم أستجماعها فيمن تأخر عنه كما لا يخفى .

وإن أجابوا عن هذا النقص بأن المراد حصر الولاية في جنابه في بعض الأوقات – يعني في وقت إمامته لا وقت إمامة السبطين ومن بعدهما – قلنا فمذهبنا أيضاً هذا أن الولاية العامة محصورة فيه وقت إمامته لا قبله وهو زمن خلافة الخلفاء الثلاثة . فإن قالوا أن الأمير لو لم يكن في عهد الخلفاء الثلاثة صاحب ولاية عامة يلزمه نقص بخلاف وقت إمامة السبطين فإنه لم يكن حياً لم تصر إمامة غيره موجبة للنقص في حقه ، لأن الموت دافع لجميع الأحكام الدنيوية . قلنا : هذا استدلال آخر غير ما هو بالآية ، لأن مبناه على مقدمتين : الأولى أن كون صاحب الولاية العامة في ولاية الأخر ولو في وقت من الأوقات نقص له ، الثانية أن صاحب الولاية العامة لا يلحقه نقص بأى وجه وأى وقت كان . وهاتان المقدمتان أنى تفهمان من الآية ؟ وتسمى هذه الصنعة في عرف المناظرة فراراً ، بأن ينتقل من دليل إلى دليل آخر من غير أنفصال المناقشة في مقدمات الدليل الأول فراراً أو إثباتاً . سلمنا وأغمضنا عن هذا الفرار أيضاً ، ولكن نقول : إن هذا الاستدلال أيضاً منقوض بالسبطين ، فإنهما في زمن ولاية المير لم يكونا مستقلين بالولاية بل كانا في ولاية الآخر وايضاً منقوض بالأمير في عهد النبي r كان كذلك فلا نقض لصاحب الولاية العامة بكونه في بعض الأوقات في ولاية الآخر ، ولو كان نقصاً بالغرض للحق صاحب الولاية العامة أيضاً فبطل الاستدلال الذى فروا إليه بجميع المقدمات .

الجواب الثاني ذكره الشيخ إبراهيم الكردى وغيره من اهل السنة أن ولاية الذين آمنوا غير مرادة في زمان الخطاب البتة بالإجماع ، لأن زمن الخطاب عهد النبي r والإمامة نيابة للنبوة بعد موت النبي ، فلما لم يكن زمن الخطاب مراداً لابد أن يكون ما أريد به زماناً متأخراً عن موت النبي r ، ولا حد للتأخير سواء كان أربع سنين أو بعد أربع وعشرين ، فقام هذا الدليل في غير محل النزاع ولم يحصل منه مدعى الشيعة وهو كون إمامة الأمير بلا فصل . وهذا بالنظر الإجمالى ، وإن نظرنا في مقدمات هذا الدليل بالتفصيل منعنا أولاً إجماع المفسرين على نزولها فيما قالوا ، بل أختلف علماء التفسير في سبب نزول هذه الآية فروى أبو بكر النقاش صاحب التفسير المشهور ( 1 ) عن محمد الباقر u أنها نزلت في المهاجرين والأنصار . وقال قائل نحن سمعنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب قال الإمام : هو منهم . يعنى أن أمير المؤمنين داخل أيضاً في

-----------------------

( 1 ) لعله أبو بكر محمد بن زياد المقرئ الموصلى المعروف بابن النقاش ، له كتاب ( الموضح ) في التفسير توفى سنة 351 .

المهاجرين والأنصار ومن جملتهم ( 1 ) وهذه الرواية أوفق بلفظ (( الذين )) وصيغ الجمع في صلات الموصول وهي : (( يقيمون )) الصلاة ، و (( يؤتون )) الزكاة ، وهم (( راكعون )) . وروى جمع من المفسرين عن عكرمة أنها نزلت في شأن أبي بكر ، ويؤيد هذا القول الآية السابقة الواردة في قتال المرتدين . وأما القول بنزولها في حق علي بن أبي طالب ورواية قصة السائل وتصدقه بالخاتم في حالة الركوع فإنما هو الثعلبي فقط وهو متفرد به ( 2 ) ولا يعد المحدثون أهل السنة روايات الثعلبي قدر شعيرة ، ولقبوه بحاطب ليل ، فإنه لا يميز بين الرطب واليابس ، وأكثر رواياته في التفسير عن الكلينى عن أبي صالح ( 3 ) ، وهي ما يروى في التفسير عندهم . وقال القاضى شمس الدين ابن خلكان في حال الكلينى : إنه كان من أتباع عبدالله بن سبأ الذى كان يقول : إن علي بن أبي طالب لم يمت وإنه يرجع إلى الدنيا وينتهى بعض روايات الثعلبي إلى محمد بن مروان السدى الصغير وهو كان رافضياً غالياً يعلمونه من سلسلة الكذب والوضع . وأورد صاحب ( لباب التفسير ) أنها نزلت في شأن عبداة ابن الصامت ( 4 ) إذ تبرأ من حلفائه الذين كانوا هوداً على رغم عبدالله بن أبي وخلافه فإنه لم يتبرأ منهم ولم يترك حمايتهم وطلب الخير لهم . وهذا القول أنسب بسياق الآية فإن سياقها ] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء [ لأن هذه الأية بعد تلك الآية . وقال جماعة من المفسرين إنها نزلت في حق عبداللع بن سلام . ونقول ثانياً : إن لفظ (( الولي )) تشترك فيه المعاني الكثيرة : المحب ، والناصر ، والصديق ، والمتصرف في الأمر . ولا يمكن أن يراد من اللفظ المشترك معنى معين إلا بقرينه خارجة ، والقرينة ههنا من السباق يعني ما سبق هذه الآية فهو مؤيد لمعنى الناصر ، لأن الكلام في تقوية قلوب المؤمنين وتسليتها وإزالة الخوف عنها من المرتدين ، والقرينة من السياق – يعني ما بعد هذه الآية – معينة لمعنى المحب والصديق وهو قوله تعالى ] يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا [ الآية المذكورة ، لأن أحداً لم يتخذ اليهود والنصارى والكفار أئمة لنفسه ، وهم ما أتخذ بعضهم بعضاً إماماً ، وكلمة (( إنما )) المفيدة للحصر تقتضى هذا المعنى ايضاً لأن الحصر إنما يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع

---------------------------

( 1 ) وقد تقدم في هامش الصفحة 139 رواية أخرى لمحمد بن جرير الطبري عن محمد الباقر بهذا المعنى .

( 2 ) قال شيخ الإسلام ابن تيميه في رسالة ( مقدمة أصول التفسير ) ص 39 طبع المطبعة السلفية عند تنبيه على تفسير الرافضة هذه الآية بأن المراد بها علي بن أبي طالب : (( ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم وهو تصدقه بخاتمه في الصلاة )) . فالقصة إذن مكذوبة على كتاب الله من أصلها بإجماع أهل العلم ، وليست هذه بأول دسائسهم ولا بأخرها .

( 3 ) وكلاهما من صناديد التشيع .

( 4 ) وهذا ما نقلناه آنفاً عن الطبري من رواية محمد بن غسحاق عن أبيه عن عبادة t .

من المظان ، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف ، بل كان في النصرة والمحبة . وثالثاً إن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وهي قاعدة أصولية متفق عليها بين الفريقين ، فمفاد الآية حصر الولاية العامة لرجال معدودين داخل فيهم الأمير أيضاً لأن صيغ الجمع وكلمة (( الذين )) من الفاظ العموم أو مساوية لها باتفاق الإمامية كما ذكره المرتضى في ( الذريعة ) وابن المطهر الحلى في ( النهاية ) ، فحمل الجمع على الواحد متعذر ، وحمل العام على الخاص خلاف الأصل ولا يصح ارتكابه بلا ضرورة . فإن قالت الشيعة إن الضرورة متحققة ههنا إذ التصدق على السائل في حالة الركوع لم يقع من أحد غيره ( 1 ) قلنا أين ذكرت في هذه الآية هذه القصة بحيث يكون مانعاً من حمل الموصول وصلاته على العموم ؟ بل جملة ] وهم راكعون [ معطوفة على الجمل السابقة ، وصلة للموصول ، أى الذين هم راكعون ، أو حال من ضمير يقيمون الصلاة . وأيا ما كان معنى الركوع فهو الخشوع لا الركوع الاصطلاحي . فإن قالت الشيعة حمل الركوع على الخشوع حمل لفظ على غير المعنى الشرعي في كلام الشارع وهو خلاف الأصل ، قلنا : لا نسلم ، كيف والركوع بمعنى الخشوع مستعمل في القرآن ايضاً كقوله تعالى ] وأركعي مع الراكعين [ مع أن الركوع الاصطلاحي لم يكن بالإجماع في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ، وقوله تعالى ] وخر راكعاً [ وظاهر أن الركوع المصطلح ليس فيه خرور وسقوط بل هو انحناء مجرد ولا يمكن الخرور مع تلك الحالة بخلاف الخشوع . وقوله تعالى ] وإذا قيل لهم أركعوا لا يركعون [ ، ولا يخفى أن المقصود من الآمر ليس مجرد الانحناء الذى هو ركوع اصطلاحي . ولما كان الخشوع معنى مجازياً متعارفاً لهذا اللفظ جاز حمله عليه بلا ضرورة أيضاً كما هو مقرر في محله . وأيضاً نقول حمل ] يؤتون الزكاة [ علي تصدق بالخاتم على السائل كحمل لفظ الركوع على غير معناه الشرعي ، فما هو جوابكم فيه فهو جوابنا في الركوع ، بل ذكر الركوع بعد إقامة الصلاة مؤيد لنا ومرجح لتوجيهنا حتى لا يلزم التكرار ، وذكر الزكاة بعد إقامة الصلاة مضر لكم إذ في عرف القرآن حيثما وقعت الزكاة مقرونة بالصلاة يكون المراد منها زكاة مفروضة لا التصدق مطلقاً . ولو حملنا الركوع على معناه الحقيقي لكان مع ذلك حالا من ضمير (( يقيمون )) الصلاة أيضاً وعاماً لجميع المؤمنين لأنه أحتراز عن صلاة اليهود الخالية عن الركوع ، وفي هذا التوجيه غاية اللصوق بالنهي عن موالاة اليهود الوارد بعد هذه الآية . وأيضاً لو كان حالا من ] يؤتون الزكاة [ لما بقى صفة مدح ، بل يوجب في مفهوم ] يقيمون الصلاة [ قصوراً بيننا ، إذ المدح والفضيلة في صلاة كونها خالية
---------------------------

( 1 ) بل ولم يقع منه ايضاً بإجماع أهل العلم .

عما لا يتعلق بها من الحركات ، لأن مبناه على السكون والوقار سواء كانت تلك الحركات قليلة او كثيرة ، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ولكن تورث قصوراً في معنى إقامة الصلاة البتة ، ولا يجوز حمل كلام الله تعالى على التناقض والتخالف ، ومع هذا لا دخل لهذا القيد بالإجماع لا طرداً ولا عكساً في صحة الإمامة ، فيتعلق حكم الإمامة بهذا القيد يلزم منه اللغو في كلام البارى تعالى كما يقال مثلاً إنما يليق بالسلطنة من بينكم من له ثوب احمر ، ولو تنزلنا عن هذه كلها لقلنا : إن هذه الآية إن كانت دليلاً لحصر الإمامة في الأمير تعارضها الآيات الأخر في ذلك ، فيجب الاعتداد بها ، كما يجب على الشيعة أيضاً أعتبار تلك المعارضات في إثبات الأئمة الأطهار الآخرين ، والدليل إنما يتمسك به غذ سلم عن المعارض ، وتلك الآيات المعارضات هي الآيات الناصة على خلافة الخلفاء الثلاثة المحررة فيما سبق . ومن العجائب أن صاحب ( إظهار الحق ( 1 ) ) قد أبلغ سعيه الغاية القصوى في تصحيح هذا الاستدلال بزعمه ، وليست كلماته في هذا المقام إلا قشوراً بلا لب بالمرة ، فمن جملة ما قال : إن الأمر بمحبة الله ورسوله يكون بطريق الوجوب والحتم لا محالة ، فالآمر بمحبة المؤمنين وولايتهم المتصفين بتلك الصفات المذكورة ايضاً بطريق الوجوب ، إذ الحكم في كلام واحد موضوعه متحداً ومحموله متحداً أو متعدداً ومتعاطفاً فيما بينهما ، لا يمكن أن يكون بعضه واجباً وبعضه مندوباً ، إذ لا يجوز أخذ اللفظ في استعمال واحد بالمعنيين ، فبهذا المقتضى تصير مودة المؤمنين وولايتهم المتصفين بتلك الصفات واجبة ايضاً ، وتكون مودتهم ثالثة لمودة الله ورسوله الواجبة على الإطلاق بدون قيد وجهة ، فلو أخذ أن المراد بالمؤمنين المذكورين كافة المسلمين وكل الأمة باعتبار أن من شأنهم الاتصاف بتلك الصفات لا يصح ، لأن معرفة كل منهم يكون متعذراًَ لكل واحد من المكلفين فضلاً عن مودتهم ( 2 ) ، وأيضاً قد تكون المعاداة لمؤمن بسبب من الأسباب مباحة بل واجبة . فالمراد به يكون المرتضى ( 3 ) أنتهى كلامه . وهو كما ترى يدل على مقدار فهم مدعية ، إذ مع تسليم مقدماته أين اللزوم بين الدليل والمدعى ؟ وأى استلزام له بالمطلوب ؟ لأن الحاصل على تقدير تعذر مودة الكل ثبوت مودة البعض مطلقاً لا معيناً فكيف يتعين أن يكون الأمير مراداً بذلك البعض ؟ لأن هذا التعيين وهو المتنازع فيه لم يثبت بعد بدليل ، ولا يثبت بهذه المقدمات المذكورة بالضرورة ، وثبوت ذلك لا يستلزم ثبوت المتعين ، فاستنتاج المتعين بدليل منتج للمطلق لا يكون
------------------------------

( 1 ) هو ملا عبد الله المشهدى الذى تكرر النقل عنه في ص 126 و ص 130 .

( 2 ) وبهذا المنطلق الشيعي السخيف تبطل أخوة المؤمنين بالإسلام المنصوص عليها في آية ] إنما المؤمنون أخوة [ وبيطل كل ما يترتب عليها من حقوق والتزامات وآداب وتعاون . لأن معرفة كل أخ مسلم لكل أخ مسلم متعذرة لكل واحد فيصبح هذا النص القرآنى وهذا القانون الإسلامي لغواً في قياسهم

( 3 ) أي سيدنا على دون سائر المؤمنين .

إلا جهلاً وحماقة ظاهرة . نعم يريدون بهذه الترهات ترويج دعاويهم عند الجهلة السفهاء ، وللناقش تلك المقدمات فنقول : لا يخفى على من له أدنى تأمل أن موالاة جميع المؤمنين من جهة الإيمان عامة بلا قيد ولا جهة ، وإنها في الحقيقة موالاة لإيمانهم دون ذواتهم ، ولو أنه يباح أو يجب عداوة بعض لبعض بسبب من الأسباب لم يكن للموالاة الإيمانية مضرة اصلا لاختلاف الجهة . ونحن نحكم الشيعة في هذه المسألة : إن أهل مذهبهم يتحابون فيما بينهم بجهة التشيع ، وتلك المحبة عامة بدون قيد وجهة ، ومع هذا قد يتباغضون ويعادى بعضهم بعضاً للمعاملات الدنيوية ، فهل تبقى موالاة التشيع بحالها أو لا ؟ فهموا من هذه الآية كون هذا المعنى محذوراً ومحالاً لأمكن لهم أن يغمضوا اعينهم عن القرآن كله ، وما يقولون في هذه الآية ] والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله [ وأمثالها ؟ ولو كانت الموالاة الإيمانية لجميع المؤمنين العامة للمطيع والعاصى ثالثة لمحبة الله ولرسوله فأية استحالة عقلية تلزمها ؟ نعم إنما المحذور كون أنواع الموالاة الثلاثة في مرتبة واحدة في الاصالة ، وليس الآمر كذلك ، إذ محبة الله تعالى هي أصل ، ومحبة رسوله بالتبع والمحمول العامة للمؤمنين يتبع التبع ، لم يبق بينها مساواة اصلاً ، واتحاد القضية في الموضوع والمحمول ههنا ليس متحققاً ، أما عدم الاتحاد في المحمول فظاهر ، وأما في الموضوع فلأن ما يصدق عليه وصفه بالأصالة غير ما يصدق عليه وصفه بالتبعية بناء على أن الولاية من الأمور العامة ، كما بين آنفاً ، بل غرضه منه ترهيب عوام أهل السنة بمحض التكلم باصطلاح أهل الميزان ( 1 ) لئلا يقدحوا في كلامه وليت\حترزوا عن القدح بظن أنه منطقى ، ولهذا قال هو متنبهاً على قبحه (( أو متعدداً ومتعاطفاً )) ولكن لم يفهم من هذا القدر أن هذه المقدمة القائلة بوجوب المولاة في صورة التعدد والعطف تكون ممنوعة ، لأن العطف موجب للتشريك في الحكم لا في جهة الحكم مثاله من العقليات : إنما الموجود في الخارج الواجب والجوهر والعرض . ومن الشرعيات قوله تعالى ] قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني [ مع أن الدعوى على الرسول واجبة وعلى غيره مندوبة ولهذا قال الأصوليون : القرآن في النظم لا يوجب القرآن في الحكم وعدوا هذا النوع من الاستدلال في المسالك المردودة وإن تنزلنا عن هذا أيضاً فالأظهر أن اتحاد نفس وجوب المحبة ليس محذوراً وإنما المحذور الاتحاد في الرتبة والدرجة في الأصالة والتبعية وهو غير لازم وأيضاً قد جعل محبة المؤمنين من حيث الإيمان موقوفة على معرفة كل فرد منهم بخصوصه وليست كل كثرة
------------------

( 1 ) علم الميزان هو علم المنطق .

تمنع أن تلاحظ بعنوان الوحدة ولو كانت غير متناهية فضلاً عن غيرها مثلاً إذا قلنا : كل عدد هو نصف مجموع حاشيتيه إما فرد وإما زوج ففي هذا الحكم وقع التوجه إلى جميع مراتب الأعداد إجمالاً ولا شبهة أن مراتبها غير متناهية وفي قولنا : كل حيوان حساس وقع الحكم على جميع أفراد الحيوان مع أن أنواعه بأسرها غير معلومة لنا فضلاً عن الأوصاف والأشخاص فلا شعور لهذا القائل بالملاحظة الإجمالية التي تكون حاصلة للصبيان والعوام ولا يفرق بين العنوان والمعنون ولو لم يقبل هذه التقريرات ولم يضع إليها لكونها من العلم المعقول فنسأل عن المسلمات الدينية ونقول : إن ترك الموالاة من الكفار بل عداوتهم كلهم أجمعين من حيث الكفر واجبة أم لا ؟ فإن اختار الشق الأول يلزمه ذلك المحذور بعينه إذ معرفة كل منهم غير حاصلة فضلاً عن عداوتهم وإن آثر الشق الثاني فكيف يثبت عداوة يزيد وابن زياد وأمثالهما ؟ وبماذا يجيب عن الآيات القرآنية مع أن فرقة المؤمنين يكون معرفتهم وامتيازهم من جهة الإيمان حاصلة وأنواع الكفر ليست معلومة أصلاً حتى يمكن لنا أن نميز أنواع الكفار فضلاً عن أشخاصهم ؟ وأيضاً منقوض بوجوب موالاة العلوية الداخلة في اعتقادهم ومعرفة أشخاصهم وأعدادهم مع انتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها التي ليس تعذرها أقل من تعذر موالاة المؤمنين عموماً . ومن جملة ما قال إنه يظهر من بعض أحاديث أهل السنة أن بعض الصحابة التمسوا من الرسول r الاستخلاف كما ذكر في مشكاة المصابيح عن حذيفة قال : (( قالوا يا رسول الله لو استخلفت ؟ قال : لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه وما أقرأ كم عبد الله فأقرأوه )) رواه الترمذي وهكذا استفسروا منه u عن الحرى بالإمامة عن علي قال : (( قيل يا رسول الله من يؤمر بعدك ؟ قال : إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً في الدنيا راغباً في الآخرة وإن تؤمروا عمر تجدوه قوياً أمينا لا يخاف في الله لومة لائم وإن تؤمروا علياً ولاأراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الصراط المستقيم )) رواه أحمد ، وهذا الالتماس والاستفسار يقتضي كل منهما وقوع التردد في حضرته r عند نزول الآية فلم يبطل مدلول (( إنما )) انتهى كلامه . ولا يخفى على العاقل ما فيه من الضعف والخروج عن الجادة إذ محض السؤال والاستفسار لا يقتضي وقوع التردد . نعم لو وقع النزاع فيما بينهم بعد المشاورة في تعيين ولي الأمر وبيانه r لهم لتحقق مدلول (( إنما )) بأن ما وفرق ما بينهما . وعلى تقدير تسليم التردد من أين لنا العلم بكونه قبل نزول الآية أو بعده ولو كان قبل النزول فهل هو متصل أو منفصل ؟ ولو كان متصلاً فهل اتصاله اتفاقي أو سببي للنزول ؟ وليس للاحتمالات دخل في أسباب النزول لأنه ليس بأمر عقلي فلا يمكن إثباته إلا بخبر صحيح . على أنه لم يذكر أحد من مفسري الفريقين كون التردد سبباً للنزول فقد علم أنه لم يكن متصلاً وهكذا الحال لو كان بعد نزول الآية والظاهر أن الحديث الوارد ينافي كلمة (( إنما )) لأن جوابه r حين الاستفسار عمن يليق للخلافة فكأنه قال إن استحقاق ثابت لكل من هؤلاء الثلاثة البررة الكرام ولكن أشار r إلى تقديم الشيخين بتقديمهما في الذكر فالسؤال والجواب منه r ينافيان كون (( إنما )) في الآية مفيدة حصر الخلافة في المرتضى كرم الله تعالى وجهه وإلا فإن كانت الآية متقدمة يلزم الرسول للقرآن وإن كانت مؤخرة كون القرآن مكذوباً للرسول r ولا يمكن أن يدعي ههنا أن أحدهما ناسخ للآخر لأن كلا من الحديث والآية من باب الإخبار الذي لا يحتمل النسخ وأيضاً لا يعلم المتقدم منهما والعلم بتأخر الناسخ شرط في النسخ فحينئذ إذا لم يمكن الجمع بينهما لا يعمل بهما معاً فإن قالوا : إن الحديث من أخبار الآحاد فلا يصح التمسك به في مسألة الإمامة نقول وكذلك لا يجوز التمسك به في إثبات التردد والنزاع أيضاً ومع هذا فإن التمسك بالآية موقوف على ثبوت التردد والنزاع فتمسك الشيعة بهذه الآية كان باطلاً أيضاً لأن التمسك بالآية التي تتوقف دلا لتها على خبر الواحد لا يجوز في مسألة الإمامة أيضاً قال r في الحديث الأول إن الاستخلاف ترك الأصلح في حق الأمة فلو كانت آية ] إنما وليكم الله [ دالة على الاستخلاف الذي هو ترك الأصلح لزم صدور من الله تعالى وهو محال فالحديث الأول أيضاً لتمسكهم بهذه الآية في هذا الباب .

          ومنها (1) قوله تعالى ] إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً [ قالت الشيعة في تقرير الاستدلال بهذه الآية : إن المفسرين ( أجمعوا ) على نزول هذه الآية في حق عل وفاطمة والحسن والحسين y وهي تدل عل عصمتهم دلالة مؤكدة وغير المعصوم لا يكون إماماً .

ولا يخفى أن المقدمات المذكورة ههنا مخدوشة كلها :

أما الأولى : - فكون ( إجماع المفسرين ) على ذلك ممنوعاً روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في نساء النبي r . وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق : إن قوله تعالى ] إنما يريد الله ليذهب [ الآية نزلت في نساء النبي r . والظاهر من ملاحظة سياق الآية وسباقها إنما هو هذا لأن أولها ] يا نساء النبي لستن كأحد من النساء [ إلى قوله ] والحكمة [ خطاب للأزواج المطهرات وأمر ونهي لهن فذكر حال الآخرين بجملة معترضة بلا قرينة ولا رعاية نكتة ومن غير تنبيه على انقطاع كلام سابق وافتتاح كلام جديد مخالف لوظيفة البلاغة التي هي أقصى الغاية في كلام الله تعالى فينبغي أن يعتقد تنزهه عن
       -----------------------

( 1 ) أي من الأدلة القرآنية التي تغالط الشيعة في أنها تدل على النص بالإمامة لما يذهبون إليه . وقد تقدم أول هذه الأدلة في ص 139 .

تلك المخالفة . وإضافة البيوت إلى الأزواج في قوله ] بيوتكن [ تدل على أن المراد من ] أهل البيت [ في هذه الآية إنما هو الأزواج المطهرات ، إذ بيته r لا يمكن أن يكون غير ما يسكن فيه أزواجه من البيوت وقال عبد الله المشهدي الشعي : إن كون البيوت جمعاً في بيوتكن وإفراد أهل البيت يدل على أن بيوتهن غير بيت النبي r ولو كن أهل البيت لو قع الكلام : أذكرن ما يتلى في بيتكن . انتهى كلامه . ولا يخفى ركاكة هذا الكلام وفساده لأن إفراد البيت في أهل البيت الذي هو اسم جنس ويجوز إطلاقه على كثير وقليل إنما هو باعتبار إضافته للنبي r فإن بيوت الأزواج المطهرات كلهن باعتبار هذه الإضافة بيت واحد وكون البيوت جمعاً في (( بيوتكن )) باعتبار إضافتها إلى الأزواج المطهرات اللائى كن متعدداته . وما قال هذا القائل بعد ذلك لا يبعد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال كما وقع قوله تعالى ] قال أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل [ ثم قال بعد تمام هذه الآية ] وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ قال المفسرون ] وأقيموا الصلاة [ عطف على ] أطيعوا [ انتهى كلامه . فهو أرك وأسخف من كلامه السابق فإن وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبى من حيث الإعراب الذي يتعلق بوظيفة النحاة يجوز بلا شبهة ولكن لا يضرنا لأن المغايرة ووقوع الأجنبى باعتبار موارد الآيات اللاحقة والسابقة تلزم فيما نحن فيه وهذا هو المنافي للبلاغة لا ذلك وما نقل عن بعض المفسرين من أن أقيموا الصلاة معطوف على أطيعوا الرسول فهو صريح الفساد إذ وقع لفظ وأطيعوا الرسول بعد أقيموا الصلاة أيضاً بالعطف فلزم عطف الشيء على نفسه إذ لا احتمال للتأكيد أصلاً لوجود حرف العطف . ثم قال كلاماً أشد ركاكة من الأول وذلك قوله (( إن بين الآيات مغايرة إنشائية وخبرية ، لأن آية التطهير جملة ندائية وخبرية وما قبلها وما بعدها من الأمر والنهي جمل إنشائية وعطف الإنشائية على الخبرية لا يجئ فإنه ممنوع )) ألا ترى أن آية التطهير ليست جملة ندائية بل النداء وقع بينهما وهو قوله سبحانه ] أهل البيت [ وعلى تقدير كونها ندائية كيف تكون خبرية لأن النداء من أقسام الإنشاء دون الخبر كما لا يخفى ومع هذا أين حرف العطف في آية التطهير ؟ كيف وهي تعليل للأمر بالإطاعة في قوله تعالى ] وأطعن الله ورسوله [ ووقوع تعليل الإنشائية بالخبرية في كل القرآن والأحاديث الشريفة وكلام البلغاء مشهور ، مثل : اضرب زيداً إنه فاسق أطعني يا غلام إنما أريد أكرمك . وإن أراد عطف ] واذكرن [ فما عطف عليه وهو ] أطعن [ و ] قرن [ والأوامر الأخر السابقة كلها جمل إنشائية فلا يلزم عطف الخبر على الإنشائية . ومن هنا قلة ممارسة علمائهم لعلم العربية وأما إيراد ضمير جمع المذكر في ] عنكم [ فبملاحظة لفظ الأهل ، فإن العرب تستعمل صيغ التذكير في المؤنث التي يلاحظونها بلفظ التذكير إذا أرادوا التعبير عنها بتلك الملاحظة وهذه قاعدة لهم في محاوراتهم وقد جاء هذا الاستعمال في التنزيل أيضاً كقوله تعالى خطاباً لسارة امرأة الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام ] أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد [ وقوله ] قال لأهله امكثوا [ حكاية لخطاب موسى r لامرأته وما روى في سنن الترمذي والصحاح الأخر أن النبي r دعا هؤلاء الأربعة وأدخلهم في عباءة ودعا لهم بقوله (( اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً )) وقالت أم سلمة : أشركني فيهم أيضاً ، قال (( أنت على خير وأنت على مكانك )) فهو دليل صريح على أن نزولها كان في حق الأزواج فقط وقد أدخل النبي r هؤلاء الأربعة y بدعائه المبارك في تلك الكرامة ولو كان نزولها في حقهم لما كانت الحاجة إلى الدعاء ، ولم كان رسول الله r يفعل تحصيل الحاصل ؟ ومن ثمة يجعل أم سلمة شريكة في هذا الدعاء وعلم في حقها هذا الدعاء تحصيل الحاصل ؟ ولكن ذهب محققو أهل السنة إلى أن هذه الآية وإن كانت واقعة في حق الأزواج المطهرات فإنه بحكم (( العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب )) داخل في بشارتها هذه جميع أهل البيت وكان دعاؤه r في حق هؤلاء الأربعة نظراً إلى خصوص السبب ويؤيده ما ورد في الرواية الصحيحة للإمام البيهقي من مثل هذه المعاملة بالعباس وأبنائه أيضاً ويفهم منه أنما كان غرضه r بذلك أن يدخل جميع أقاربه في لفظة (( أهل البيت )) الواردة في خطاب الله تعالى : أخرج البيهقي عن أبي أسيد الساعدي قال : قال رسول الله r للعباس بن عبد المطلب (( يا أبا الفضل لا ترم منزلك أنت وبنوك غداً حتى آتيك فإن لي بكم حاجة )) فانتظروه حتى جاء بعد ما أضحى فدخل عليهم فقال : السلام عليكم فقالوا : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته . قال : كيف أصبحتم ؟ قالوا : بخير نحمد الله . فقال لهم : تقاربوا . فزحف بعضهم إلى بعض حتى إذا أمكنوا اشتمل عليهم بملاءة ثم قال (( يا رب هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي استرهم من النار كسترى إياهم بملاءتي هذه )) قال فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت وقالت : آمين آمين آمين . وروى ابن ماجه أيضاً هذا الحديث مختصراً ، والمحدثون الآخرون أيضاً رووا هذه القصة بطرق متعددة في اعلام النبوة . وما قال عبدالله المشهدي المذكور (( إن البيت بيت النبوة ، ولا شك في ان ( أهل البيت لغة شامل الأزواج بل للخدام من الإماء اللاتى يسكن في البيت ايضاً ، وليس المراد هذا المعنى اللغوى الوسعة بالاتفاق ، فالمراد من أهل البيت خمسة ىل العبا الذين خصصهم حديث الكنساء )) أنتهى كلامه ، وفيه أن المعنى اللغوي لو كان مراداً بهذه الوسعة لا يلزم محذور إلا ذلك العموم في العصمة الثابتة عند الشيعة بهذه الآية ، ولما لم يتفق أهل السنة مع الشيعة في فهم العصمة من هذه الاية لم يتفقوا معهم في نفي هذا العموم ، ولتخصيص أهل السنة العصمة بالرسول أبدلت الخمسة بالأربعة فتدبر . وأيضاً عدم كون المعنى اللغوي مراداً بهذه الوسعة من أجل أن القرائن الدالة من الأيات السابقة واللاحقة معينة للمراد ، وأيضاً يخصص العقل هذا اللفظ باعتبار العرف والعادة بمن يسكنون في البيت لا بقصد الانتقال ، ولم يكن التحول والتبدل والتحول بانتقالهم من ملك إلى ملك في الهبة والبيع والإجازة والإعتاق ، وإنما يدل التخصيص فائدة أخرى ظاهرة وهي ههنا دفع مظنة عدم كون هؤلاء الأشخاص في أهل البيت نظراً إلى أن المخاطبات فيها هن الأزواج فقط . واما الثانية فلأن دلالة هذه الأية على العصمة مبنية على عدة ابحاث : أحدها كون كلمة ] ليذهب عنكم الرجس [ أى محل لها من الأعراب : مفعول له ليريد أو مفعول به ؟ الثاني معنى (( أهل البيت )) ما هو ؟ الثالث أي مراد من (( الرجس )) . وفي هذه المباحث كلام كثير محله كتب التفاسير . وبعد اللتيا والتي إن كان ليذهب مفعول به وأهل البيت منحصرين في هؤلاء الأربعة والمراد من الرجس مطلق الذنوب فدلالة الآية على العصمة غير مسلمة بل هي تدل على عدمها إذ لا يقال في حق من هو طاهر أني أريد أن أطهره ضرورة امتناع تحصيل الحاصل . وغاية ما في الباب أنهم محفوظون من الذنوب بعد تعليق الإرادة بإذهابها ، قد ثبت ذلك بالآية على أصول أهل السنة لا على أصول مذهب الشيعة ، لأن وقوع مراد الله لزم إرادته تعالى عندهم ، فرب أشياء يريد الله وقوعها ويمنعه الشيطان من أن يوقع ذلك ! ولو كانت إفادة معنى العصمة مقصودة لقيل هكذا : إن أذهب عنكم الرجس أهل البيت الآية . وأيضاً لو كانت هذه الكلمة مفيدة للعصمة ينبغي أن يكون الصحابة لا سيما الحاضرين في غزوة بدر قاطبة معصومين لأن الله تعالى قال في حقهم في مواضع من التنزيل ] ولعكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون [ وقال ] ليطهركم به وليذهب عنكم رجس الشيطان [ وظاهر أن إتمام النعمة في الصحابة كرامة زائدة بالنسبة إلى ذينك اللفظين ، ووقوع هذا  الاتمام أدل على عصمتهم ، لأن إتمام النعمة لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان . فليتأمل فيه تأملاً صادقاً لتظهر فيه حقيقة الملازمة وبيان وجهها وبطلان اللازم مع فرض صدق المقدم ، فالتخصيصات المحتملة في لفظ وإذهاب الرجس صارت هباءً منثوراً .

أما الثانية فلأن (( غير المعصوم لا يكون إماماً )) مقدمة باطلة يكذبها الكتاب وأقوال العترة . سلمنا ، ولكن ثبت من هذا الدليل صحة إمامة الأمير ، أما كونه إماماً بلا فصل فمن أين ؟ إذ يجوز أن أحداً من السبطين يكون إماماً قبله ولا محذور فيه ، والتمسك بالقاعدة التى لم يقل بها أحد دليل العجز ، إذ المعترض لا مذهب له .

          ومنها ( 1 ) قوله تعالى ] قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى [ فإنها لما نزلت قالوا : يا رسول الله من قرابتك الذين وجب علينا مؤدتهم ؟ قال : على وفاطمة وأبناؤها . فذكر الشيعة في تقديرها مقدمات فاسدة مؤيدة لمطلبهم وهي (( أهل البيت واجبوا المحبة ، وكل من كان كذلك فهو واجب الإطاعة ، فعلى واجب الإطاعة وهو معنى الإمام . وغير علي لا تجب فلا تجب إطاعته )) .

وأجيب عن هذا القياس الفاسد بأن المفسرين أختلفوا في المراد من هذه الآية أختلافاً فاحشاً ، فالطبراني والإمام أحمد رويا عن ابن عباس هكذا ، ولكن ردهما المحدثون بأن سورة الشورى بتمامها مكية ، ولم يكن هنالك الإمامان الحسن والحسين ، وما كانت فاطمة رضي الله تعالى عنها متزوجة بعلى t . وقد وقع في سند هذه الرواية بعض الغلاة من الشيعة ولعله حرف ذلك . والذى رواه البخارى عن ابن عباس أن القربى من بينه وبين النبي r قرابة ، وجزم قتادة والسدى الكبير وسعيد بن جبير بأن معنى الآية : لا أسألكم على الدعوة والتبليغ من أجر إلا المودة لأجل قرابتى بكم ، وهذه الرواية أيضاً في صحيح البخارى عن ابن عباس ، ومذكورة بالتفصيل أن قريشاً لم يكن بطن من بطونهم إلا وقد كان للنبي r قرابة بهم ، فيذكرهم تلك القرابة وأداء حقوقها بطلبه منهم لا أقل من ترك إيذائه وهو ادنى مراتب صلة الرحم ، فالاستثناء منقطع وقد أرتضى جمع من المفسرين المتأخرين كالإمام الرازى وغيره بهذا المعنى ، لأن المعنى الأول ليس مناسباً لشأن النبوة بل هو من شيعة طالب الدنيا بأن تفعل شيئاً ويسأل على ذلك ثمرة لأولاده وأقاربه ، ولو كان للأنبياء مثل هذه الأغراض لم يبق فرق بينهم وبين أهل الدنيا ويكون ذلك موجباً لتهمتهم فيلزم نقص الغرض من بعثتهم . وأيضاً المعنى الأول مناف لقوله تعالى ] قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ، وإن أجرى إلا على الله [ وقوله تعالى ] أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون [ وقوله تعالى ] وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين [ وغير ذلك من الآيات . وأيضاً حكى الله في سورة الشعراء عن أنبيائه المذكورين فيها نفى سؤال الأجر ، فلو سأل خاتم الأنبياء أجراً من الأمة تكون مرتبته دون مرتبة أولئك الأنبياء ، وهو خلاف الإجماع . وثانياً لا نسلم الكبرى وهي (( كل واجب المحبة فهو واجب الإطاعة )) وكذا لا نسلم هذه المقدمة (( كل واجب الإطاعة صاحب الإمامة التى هي بمعنى الرياسة العامة )) . فأما الأول فلأنه لو كان وجوب المحبة مستلزماً لوجوب الإطاعة يلزم أن يكون جميع العلويين واجبي الإطاعة ، لأن شيخهم ابن بابويه ذكر في كتاب ( الإعتقادات ) أن الإمامية (( أجمعوا )) على وجوب محبة
--------------------------

( 1 ) أى من الاستدلالات القرآنية في مغالطات الشيعة .

العلوية . وأيضاً يلزم أن تكون سيدتنا فاطمة رضي الله عنها إمامة بهذا الدليل ، وهو خلاف الإجماع . وأيضاً يلزم كون من هؤلاء الأربعة إماماً في عهد النبي r ، والسبطين إمامين في زمن خلافة الأمير ، وهو باطل بالاتفاق . وأما الثاني فلأن كل واجب الإطاعة لو كان صاحب الخلافة الكبرى يلزم أن يكون كل نبي في زمنه صاحب الخلافة الكبرى ، وهذا أيضاً باطل ، لأن شموئيل u كان نبياً واجب الإطاعة وكان طالوت صاحب الزعامة الكبرى بنص الكتاب .

وثالثاً لا نسلم أنحصار وجوب المحبة في الأشخاص الأربعة المذكورين ، بل يجب في غيرهم ايضاً : روى الحافظ أبو طاهر السلفى في مشيخته عن أنس قال : قال رسول الله r (( حب أبي بكر وشكره على كل أمتى )) . وروى ابن عساكر عنه نحوه . ومن طريق آخر عن سهل بن سعد الساعدى نحوه . وأخرج الحافظ عن عمر بن محمد بن خضر الملا في سيرته عن النبي r قال : (( إن الله تعالى فرض عليكم حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، كما فرض عليكم الصلاة والزكاة والصوم والحج )) وروى ابن عدى عن أنس عن النبي r أنه قال (( حب أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما كفر )) وروى الترمذي أنه أتي بجنازة رجل إلى رسول الله r فلم يصل عليه وقال (( إنه كان يبغض عثمان ، فأبغضه الله )) . وهذه الروايات لم يسلمها الشيعة لكونها في كتب أهل السنة فيثبت وجوب محبة الخلفاء الثلاثة بقوله تعالى ] يحبهم ويحبونه [ فإنه نزل في حق المقاتلين لأهل الردة بالإجماع ، والخلفاء الثلاثة كانوا سادة أولئك المجاهدين وقادتهم ، ومن كان الله يحبه فهو واجب المحبة . على أن قياسهم بعد تسليم صحة مقدماته لا يستلزم النتيجة المذكورة جزماً ، لأن صغراه (( أهل البيت واجبو المحبة )) وكبراه (( وكل واجب المحبة واجب الإطاعة )) وبعد ترتيبها على الشكل الأول حصلت النتيجة هذه (( أهل البيت واجبو الإطاعة )) لا تلك النتيجة . وهذه النتيجة عامة ، وثبوت العام لا يستلزم ثبوت الخاص بخصوصه ، والنتيجة العامة المذكورة ليست مطلوبة للمستدل ولا مدعاة بل محتملة له ، والمطلوبة غير حاصلة من الدليل فالتقريب غير تام . ولو فرضنا الاستلزام لا يحصل مدعاه أيضاً لأن كون الأمير إماماً بلا فصل غير حاصل من الدليل ، والحاصل كونه إماماً مطلقاً وهو غير مدعاه فلا يتم تقريبه أيضاً .

ومنها آية المباهلة ، وطريق تمسكهم بها أن قوله تعالى ] فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم [ ألخ ، لما نزل خرج النبي r من منزله محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن ، وفاطمة تمشى خلفه ، وعلي خلفها ، وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمنوا . فقد علم بذلك أن المراد بأبنائنا الخمس الحسن والحسين وبأنفسنا الأمير ، وإذا صار الأمير نفس الرسول . وظاهر أن المعنى الحقيقى مستحيل ، فالمراد كونه مساوياً له ، فمن كان مساوياً لنبي الزمان فهو أفضل وأولى بالتصرف بالضرورة من غيره ، لأن المساوى للأفضل الأول ى بالتصرف يكون مثله ، فيكون إماماً ، إذ لا معنى للإمام إلا الأفضل الأولى بالتصرف .

وفي هذا التمسك خلل بوجوه : الأول – أنا لا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير ، بل المراد نفسه r ، وما قاله علماؤهم في إبطاله (( إن الشخص لا يدعو نفسه )) فكلام مستهجن ، إذ قد شاع وذاع في العرف القديم والجديد أن يقال دعته نفسه إلى كذا ، ودعوت نفسي إلى كذا ، فطوعت له نفسه قتل أخيه ، وأمرت نفسي ، وشاورت نفسي ، إلى غير ذلك ، من الإستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء ، فكان معنى ] ندع أنفسنا [ نحضر أنفسنا . وأيضاً لو قررنا الأمير من قبل النبي لمصداق ] أنفسنا [ فمن نقرره من قبل الكفار لمصداق ] أنفسكم [ في أنفس الكفار مع انهم مشتركون في صيغة (( ندعو )) ولا معنى لدعوة النبي إياهم وأبناءهم بعد قوله ] تعالوا [ . فعلم أن الأمير داخل في الأبناء حكماً ، كما أن الحسنين داخلان في الأبناء كذلك لأنهما ليسا بابنين حقيقة ، ولأن العرف يعد الختن من غير ريبة في ذلك . وأيضاً قد جاء لفظ (( النفس )) بمعنى القريب والشريك في النسب والدين كقوله تعالى ] يخرجون أنفسهم من ديارهم [ أى أهل دينهم ، ] ولا تلمزوا أنفسكم [ ، ] لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً [ فلما كان للأمير أتصال بالنبي r وسلم في النسب والقرابة والمصاهرة واتحاد في الدين والملة وكثرة المعاشرة والألفة بحيث قال في حقه (( على منى وأنا من علي )) وهذا غير بعيد ، فلا يلزم المساواة كما لا يلزم في الأيات المذكورة .

الثاني – أه لو كان المراد مساواته في جميع الصفات يلزم أشتراكه في خصائص النبوة وغيرها من الأحكام الخاصة به ، وهو باطل بالإجماع لأن التابع دون المتبوع . وأيضاً لو كانت الآية دليلاً لإمامته لزم كون الأمير لإماماً في زمنه r وهو باطل بالاتفاق ، وإن قيدوا بوقت دون وقت فالتقيد لا دليل عليه في اللفظ فلا يكون مفيداً للمدعى ، إذ هو غير متنازع فيه ، لأن أهل السنة يثبتون أيضاً إمامة الأمير في وقت دون وقت فلم يكن هذا الدليل قائماً في محل النزاع أيضاً.

ومنها قوله تعالى ] إنما أنت منذر ، ولكل قوم هاد [ قالت الشيعة في تقرير الاستدلال بها : ورد في الخبر المتفق عليه عن ابن عباس عن النبي r أنه قال (( أنا المنذر وعلى الهادى )) ولا يخفى ضعفه لأن هذه رواية الثعلبي ، ولا اعتبار لمراوياته في التفسير ( 1 ) فكيف يستدل بها على الإمامة ؟ وعلى تقدير الصحة فلا دلالة لهذه الآية على إمامة الأمير ونفيها عن غيره أصلاً ، لأن كون رجل (( هادياً )) لا يستلزم أن يكون (( إماماً )) ولا نفى الهداية عن الغير ، وإن دل بمجرد الهداية على الإمامة تكون الإمامة المصطلحة لأهل السنة وهي بمعنى القدوة في الدين مرادة ، وهو غير محل النزاع ، قال الله تعالى ] وجعلناهم أئمة يدهون بأمرنا لما صبروا [ وقال
] ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر [ إلى غير ذلك .

ومنها قوله تعالى ] وقفوهم إنهم مسئولون [ قالت الشيعة في الاستدلال بها : روى عن أبي سعيد الخدرى مرفوعاً أنه قال : وقفوهم إنهم مسئولون عن ولاية على بن أبي طالب . ولا يخفى أن نحو هذا التمسك في الحقيقة بالروايات لا بالآيات ، وهذه الرواية واقعة في فردوس الديلمى الجامع للأحاديث الضعيفة الواهية ، ومع هذا قد وقع سندها الضعفاء ، والمجاهيل الكثيرون بحيث سقطت عن قابلية الاحتجاج بها ، لا سيما في هذه المطالب الأصولية . ومع هذا فإن نظم الكتاب مكذب لها ، لن هذا الحكم في حق المشتركين بدليل ] وما كانوا يعبدون من دون الله [ والكفار والمشركون يكون السؤال لهم أولاً عن الشرك وعبادة غير الله تعالى لا عن ولاية علي ! وأيضاً نظم الكتاب يدل على أن السؤال يكون لهم بمضمون هذه الجملة الإستفهامية
] مالكم لا تناصرون ؟ [ توبيخاً وزجراً لا عن شئ أخر . ولهذا أجمع القراء على ترك الوقف على ] مسئولون [ ولئن سلمنا صحة الرواية وفك النظم القرآني يكون المراد بالولاية المحبة ، وهي لا تدل على الزعامة الكبرى التى هي محل النزاع . ولو كانت الزعامة الكبرى مرادة أيضاً لم تكن هذه الرواية مفيدة للمدعى ، لأن مفاد الآية وجوب اعتقاد إمامة الأمير في وقت من الأوقات وهو عين مذهب أهل السنة ، وقد أورد الواحدى في تفسيره هذه الرواية وفيها المتن هكذا عن ولاية علي وأهل البيت ، وظاهر أن جميع أهل البيت لم يكونوا أئمة عند الشيعة ، فتعين عند الشيعة ، فتعين حمل الولاية على المحبة إذ الولاية لفظ مشترك ويتعين أحد المعنيين أو المعاني
---------------------------

( 1 ) تقدم في ص 142 أن الثعلبي حاطب ليل . وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيميه في ص 15 من رده على البكرى على طائفة من المفسرين الذين لا يميزون بين الصحيح والضعيف والغث والسمين وذكر أسماءهم وأولهم الثعلبي ثم قال : (( فهؤلاء لا يعرفون الصحيح من السقيم . ولا لهم خبرة بالمروى المنقول ، ولا لهم خبرة بالرواة النقلة ، بل يجمعون فيما يروون بين الصحيح والضعيف ، ولا يميزون بينهما ، لكن منهم من يروى الجميع ويجعل العهدة عل الناقل كالثعلبي ألخ ))

للمشترك بالقرائن الخارجية ، وبالجملة إن السؤال عن محبة الأمير وإمامته قائل به أهل السنة ولا نزاع فيه بين الفريقين ، وإنما النزاع في ان الأمير كان إماماً بلا فصل ولم يكن أحد من الصحابة مستحقاً للإمامة ، ولا مساس لهذه الآية بهذا المطلب ، فالتقريب غير تام .

ومنها ] السابقون السابقون أولئك المقربون [ قالت الشيعة : روى عن ابن عباس مرفوعاً أنه قال : السابقون ثلاثة ، فالسابق إلى موسى يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى صاحب ياسين ، والسابق إلى محمد r علي بن أبي طالب t . ولا يخفى أن هذا أيضاً تمسك بالرواية ، ومدار إسناد هذه الرواية على أبي الحسن الأشقر وهو ضعيف الإجماع ، قال العقيلى : وهو شيعي متروك الحديث ، ولا يبعد أن يكون هذا الحديث موضوعاً إذ فيه من إمارات الوضع أن صاحب ياسين لم يكن أول من آمن بعيسى بل برسله كما يدل عليه نص الكتاب ، وكل حديث يناقض مدلول الكتاب في الأخبار والقصص فهو موضوع كما هو المقرر عند المحدثين . وأيضاً أنحصار السباق في ثلاثة رجال غير معقول فإن لكل نبي سابقاً بالإيمان به لا محالة . وبعد اللتيا والتى أية ضرورة أن يكون كل سابق صاحب الزعامة الكبرى وكل مقرب إماماً ؟ وأيضاً لو كانت هذه الرواية صحيحة لكانت مناقضة للأية صراحة ، لأن الله تعالى قال في حق السابقين ] ثلة من الأولين وقليل من الآخرين [ والثلة هو الجمع الكثير ولا يمكن ان يطلق على الأثنين جمع ولا على الواحد قليل أيضا ، فعلم أن المراد بالسبق من الآية عرفى أو إضافى شامل للجماعة الكثيرة لا حقيقي بدليل أن الآية الأخرى ] السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار [ والقرآن يفسر بعضه بعضاً . وأيضاً ثبت بإجماع أهل السنة والشيعة أن أول من آمن حقيقة خديجة t ، فلو كان مجرد السبق بالإيمان موجباً لصحة الإمامة لزم أن تكون سيدتنا المذكورة حرية بالإمامة ، وهو باطل بالإجماع . وإن قيل إن المانع كان متحققاً في خديجة وهو الأنوثة قلنا كذلك في الأمير فقد كان المانع متحققاً قبل وصول وقت إمامته ، ولما أرتفع المانع صار إماماً بالفعل ، وذلك المانع هو إما وجود الخلفاء الثلاثة الذين كانوا أصلح في حق الرياسة بالنسبة إلى جنابة عند جمهور أهل السنة ، أو إبقاؤه بعد الخلفاء الثلاثة وموتهم قبله عند التفضيلية ، فإنهم قالوا : لو كان إماماً عند وفاة النبي r لم ينل أحد من الخلفاء الإمامة وماتوا في عهده وقد سبق في علم الله تعالى أن الخلفاء أربعة فلزم الترتيب على الموت . وبالجملة تمسكات الشيعة بالإيات من هذا القبيل .

وأما الأحاديث التى تمسك بها الشيعة على هذا المدعى فهي اثنا عشر حديثاً :

الأول : حديث غديرخم المذكور عندهم بشأن عظيم ويحسبونه نصاً قطعياً في هذا المدعى ، حاصله أن بريدة بن الحصيب الأسلمى روى أنه r لما نزل بغديرخم حين المراجعة عن حجة الوداع – وهو موضوع بين مكة والمدينة – أخذ بيد علي وخاطب جماعة المسلمين الحاضرين فقال : يا معشر المسلمين ألست أولى من انفسكم ؟ قالوا بلى . قال : من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . قالت الشيعة في تقرير الاستدلال بهذا الحديث : إن الموالى بمعنى الأولى بالتصرف ، وكونه أولى بالتصرف عين الإمامة ولا يخفى أن أول الغلط في الاستدلال هو إنكار أهل العربية قاطبة ثبوت ورود (( الموالى )) بمعنى (( الأولى )) بل قالوا لم يجئ قط المفعل بمعنى أفعل في موضع ومادة اصلاً فضلاً عن هذه المادة بالخصوص ، إلا أن أبا زيد اللغوى جوز هذا متمسكاً فيه بقول أبي عبيدة في تفسير ] هي مولاكم [ أولى بكم لكن جمهور أهل العربية خطأوه في هذا التجويز والتمسك قائلين بأن هذا القول لو صح لزم أن يقال مكان فلان أولى منك مولى منك وهو باطل منكر بالإجماع . وأيضاً قالوا : إن تفسير أبي عبيدة بيان الحاصل لمعنى يعنى النار مقركم ومصيركم والموضع اللائق بكم ، لا أن اللفظ المولى ثمة بمعنى الأولى . الثاني أن المولى لو كان بمعنى الأولى أيضاً لا يلزم أن تكون صلته بالتصرف ، كيف تقرر الصلة ومن أية لغة ؟ إذ يحتمل أن يكون المراد : أولى بالتصرف ، كما في قوله تعالى ] إن أولى الناس بإبراهيم للذين أتبعوه وهذا النبي والذين أمنوا [ وظاهر أن أتباع إبراهيم لم يكونوا أولى بالتصرف في جنابة المعظم . الثالث أن القرينة البعدية تدل صراحة على أن المراد من الولاية المفهومة من لفظ (( المولى )) او (( الأولى )) المحبة ، وهي قوله (( اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه )) ، ولو كان المراد من المولى المتصرف في الأمور أو الأولى بالتصرف فقال : اللهم وال من كان في تصرفه وعاد من لم يكن كذلك ، وذكر المحبة والعداوة دليل صريح على ان المقصود إيجاب محبته والتحذير عن عداوته ، لا التصرف وعدمه . وظاهر أن النبي r علم الناس ولقنهم أدنى الواجبات بل السنن والآداب بحيث يفهم المعانى المقصودة من ألفاظها الواردة في قوله الشريف كل من كان حاضراً أو غائباً بعد معرفته بلغة العرب من غير تكلف ، وهذا في الحقيقة هو كمال البلاغة ، وهو المقتضى لمنصب الإرشاد والهداية أيضاً . ولو أكتفى في مثل هذه المقدمة العمدة بنحو هذا الكلام الذى لا يحصل المعنى المقصود أصلاً بطبق القاعدة اللغوية ووفقها لثبت في حق النبي r قصور البلاغة في الكلام بل المساهمة في التبليغ والهداية وهو محال والعياذ بالله تعالى ، فعلم أن مقصوده r بهذا يعني محبة على فرض كمحبته u ، وعداوته حرام كعداوته u ، وهذا هو مذهب أهل السنة ومطابق لفهم أهل البيت في ذلك ، كما أورد أبو نعيم ( 1 ) عن الحسن المثنى ابن الحسن السبط الأكبر سألوه عن حديث (( من كنت مولاه )) هل هو نص على خلافة علي ؟ قال لو كان النبي r أراد خلافته بذلك الحديث لقال هكذا : يا أيها الناس هذا ولي أمرى والقائم عليكم من بعدي فأسمعوا وأطيعوا . ثم قال الحسن : أقسم بالله أن الله تعالى ورسوله لو اثر علياً لأجل هذا الآمر ولم يمتثل علي لأمر الله ورسوله به . قال رجل : أما قول رسول الله r (( من كنت مولاه فعلي مولاه ؟ )) قال الحسن : لا والله ، إن رسول الله لو أراد الخلافة لقال واضحاً وصرح بها كما صرح بالصلاة والزكاة وقال : يا أيها الناس إن علياً ولي أمركم من بعدي والقائم في الناس بامرى . وأيضاً في هذا الحديث دليل صريح على إجتماع الولايتين في زمان واحد ، إذ لم يقع التقييد بلفظ (( بعدي )) بل سوق الكلام لتسوية الولايتين في جميع الأوقات من جميع الوجوه كما هو الأظهر ، وشركة الأمير للنبي r في التصرف ممتنعة فهذا أدل على ان المراد وجوب محبته ، إذ لا محذور في إجتماع محبتين ، بل إحداهما مستلزمة للأخرى ، وفي إجتماع التصرفين محذورات كثيرة كما لا يخفى . وإن قيدتموه بما يدل على إمامته في المآل دون الحال فمرحباً بالوفاق ، لأن أهل السنة أيضاً قائلون بذلك في حين إمامته . واما وجه تخصيص الأمير بالذكر دون غيره فلما علمه النبي u بالوحي من وقوع الفساد والبغي في زمن خلافته وإنكار بعض الناس لإمامته . وكذلك فسر بعض الشيعة (( الأولى )) الواقع في صدر الحديث بالأولى بالتصرف ، وهو باطل ، والمراد الأولى في المحبة ، يعني ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم في المحبة ؟ لتتلائم أجزاء الكلام ، ولفظ الأولى قد ورد في غير موضع بحيث لا يناسب أن يكون معناه الأولى بالتصرف أصلاً كقوله تعالى ] النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم [ ، ] وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله [ فإن سوق هذا الكلام لنفي نسب الأدعياء عمن يثبتونه ، وبيانه أن زيد بن حارثة لا ينبغي أن يقال في حقه زيد بن محمد لأن نسبة النبي r إلى جميع المسلمين كالأب الشفيق بل أزيد ، وأزواجه أمهات أهل الإسلام ، والأقرباء في النسب أحق وأولى من غيرهم ، وإن كانت الشفقة والتعظيم للأجانب أزيد ، ولكن مدار النسب على القرابة في الأدعياء ، وهي مفقودة في الأدعياء ،و حكم ذلك في كتاب الله ، ولا دخل ههنا لمعنى الأولى بالتصرف في المقصود اصلاً . وقد أورد بعض المدققين

------------------------

( 1 ) واورده الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 4 : 166 ) عن الحافظ البيهقى من حديث فضيل بن مرزوق . أنظر تعليقنا على ( العواصم من القواصم ) ص 185 – 186 .

 منهم دليلاً على نفي المحبة ، وهو ان محبة الأمير أمر مفاد حيث كان ثابتاً في ضمن آية
] والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى ايضاً كان لغواً ، ولا يخفى فسداه ، أو لم يفهموا أن بيان محبة أحد في ضمن عموم شئ وإيجاب محبته بخصوص أمر آخر فرق بينهما لا يخفى على العقلاء . مثلاً لو آمن أحد بجميع أنبياء الله ورسله ، ولم يتعرض لاسم محمد r بخصوصه في الذكر ، لم يكن إسلامه معتبراً . وفي هذا تكون محبة الأمير بشخصية مقصودة بالوجوب ، وفي الأية يكون وجوبها مفاداً بوصف الإيمان الذى هو عام . ولو فرضنا أتحاد مضمون الآية والحديث لا يلزم اللغو أصلاً لأن وظيفة النبي أن يؤكد مضامين القرآن لإلزام الحجة وإتمام النعمة . ومن تدبر الكتاب والسنة لا يتكلم بمثل هذا الكلام . وإلا فتأكيدات النبي وتقريراته في أبواب الصلاة والزكاة وتلاوة القرآن ونحو ذلك كلها تصير لغواً والعياذ بالله . وعند الشيعة ايضاً دعوى التنصيص على إمامة الأمير وتأكيده ثابتة ، فيلزم على تقدير صحة هذا القول أن يكون ذلك كله حشواً . وسبب هذه الخطبة الذى ذكره المؤرخون وأهل السير يدل على أن المقصود منها كان إلزام المحبة للأمير ، ولأن جماعة الصحابة الذين كانوا متغيبين مع الأمير في سفر اليمن كبريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما من المشاهير بعد ما رجعوا من سفرهم من الأمير ، فتكلم النبي r في حقه هكذا ، وقد أورد هذه القصة محمد بن إسحق وغيره من اهل السير مفصلة .

الحديث الثاني : روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أنه r لما أستخلف الأمير في غزوة تبوك على اهل بيته من النساء وتركه فيهن وقد توجه هو إلى تلك الغزوة ، قال الأمير : يا رسول الله اتخلفني في النساء والصبيان ؟ فقال النبي r له : (( أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هرون من موسى ؟ إلا أنه لا نبي بعدي )) . قالت الشيعة : إن المنزلة اسم جنس مضاف إلى العلم فيعم جميع المنازل لصحة الاستثناء ، وإذا أستثني مرتبة النبوة فثبت للأمير جميع المنازل الثابتة لهرون ، ومن جملتها صحة الإمامة ، وافتراض الطاعة أيضاً لو عاش هارون بعد موسى ، لأن هارون كانت له هذه المرتبة في عهد موسى ، فلو زالت عنه بعد وفاته لزم العزل ، وعزل النبي r ممتنع للزومه الإهانة المستحيلة في حقه فثبتت هذه المرتبة للأمير ايضاً وهي الإمامة .

والجواب عن ذلك بوجوه : الأول – أن أسم الجنس المضاف إلى العلم ليس من ألفاظ العموم عند جميع الأصوليين ، بل هم صرحوا بأنه للعهد في غلام زيد وأمثاله ، لأن تعريف الإضافة المعنوية باعتبار العهد أصل ، وفيما نحن فيه قرينة موجودة وهي قوله (( اتخلفنى في النساء والصبيان )) يعنى ان هارون كما كان خليفة لموسى حين توجه هو إلى الطور كذلك صار الأمير خليفة للنبي r إذ توجه إلى غزوة تبوك ، والاستخلاف المقيد بهذه الغيبة لا يكون باقياً بعد أنقضائها كما لم يبق في حق هرون ايضاً . ولا يمكن ان يقال انقطاع هذا الاستخلاف عزل موجب للإهانة في حق الخليفة لأن أنقطاع العمل ليس بعزل ، والقول بانه عزل خلاف العرف واللغة ، ولا تكون صحة الاستثناء دليلاً للعموم إلا إذا كان متصلاً ، وههنا منقطع بالضرورة ، لأن قوله (( إنه لا نبي بعدي )) جملة خبرية ، وقد صارت تلك الجملة بتأويلها بالمفرد بدخول إن في حكم (( إلا عدم النبوة )) وظاهر ان عدم النبوة ليسمن منازل هرون حتى يصح أستثناؤه لأن المتصل يكون من جنس المستثني منه وداخلاً فيه والنقيض لا يكون من جنس النقيض وداخلاً فيه ، فثبت أن هذا المستثني منقطع جداً ، ولأن من جملة منازل هرون كونه أسن من موسى وأفصح منه لساناً وكونه شريكاً معه في النبوة وكونه شقيقاً له في النسب ، وهذه المنازل غير ثابتة في حق الأمير بالنسبة إلى النبي r إجماعاً بالضرورة ، فإن جعلنا الاستثناء متصلاً وحملنا المنزلة على العموم لزم الكذب في كلام المعصوم .

الثاني – أنا لا نسلم أن الخلافة بعد موت موسى كانت من جملة منازل هرون ، لان هرون كان نبياً مستقلاً في التبليغ ، ولو عاش بعد موسى أيضاً لكان ولم تزل عنه هذه المرتبة قط ، وهي تنافى الخلافة لأنها نيابة للنبي ولا مناسبة بين الأصالة والنيابة في القدر والشرف ، فقد علم أن الاستدلال على خلافة الأمير من هذا الطريق لا يصح ابداً . وأيضاً أن النبي r لما شبه الأمير بهارون – ومعلوم أن هرون كان خليفة في حياة موسى بعد غيبته ، وصار يوشع بن نون وكالب بن يفنه خليفة له بعد موت موسى – لزم أن يكون المير أيضاً خليفة في حياة النبي r بعد غيبته لا بعد وفاته ، بل يصير غيره خليفة بعد وفاته حتى يكون التشبيه على وجه الكمال ، إذ حمل التشبيه في كلام الرسول على النقصان غاية عدم الديانة والعياذ بالله ، وإن تنزلنا قلنا ليس في هذا الحديث دلالة على نفي إمامة الخلفاء الثلاثة ، غاية ما في الباب أن أستحقاق الإمامة يثبت به للأمير ولو في وقت من الأوقات ، وهو عين مذهب اهل السنة ، فالتقريب به ايضاً غير تام .

الحديث الثالث : رواه مرفوعاً أنه قال (( إن علياً مني وانا من علي ، وهو ولي كل مؤمن بعدي )) وهذا الحديث باطل ، لأن في إسناده أجلح وهو شيعي متهم في روايته . وأيضاً غير مقيد بالوقت المتصل بزمان وفاته r ، ولفظ (( بعدي )) يحتمل الاتصال والانفصال وهو مذهب اهل السنة القائلين بأن الأمير كان إماماً مفترض الطاعة بعد النبي r في وقت من الأوقات .

الحديث الرابع : رواه أنس بن مالك أنه كان عند النبي r ائر قد طبخ له وأهدى إليه فقال (( اللهم أئتنى بأحب الناس إليك يأكل معي هذا الطير )) فجاءه علي . وهذا الحديث قد حكم أكثر المحدثين بأنه موضوع ، وممن صرح بوضعه الحافظ شمس الدين الجزرى ، وكذلك الذهبي في تلخيصه ، ومع هذا فهو غير مفيد للمدعى أيضاً ، لأن القرينة تدل على أن المراد بأحب الناس إلى الله في الأكل مع النبي r . ولا شك أن الأمير كان أحبهم إلى الله في هذا الوصف ، لأن أكل الولد ومن حكمه مع الأب يكون موجباً لتضاعف اللذة بالطعام . وإن سلمنا أن يكون المراد بأحب الناس مطلقاً فإنه لا يفيد المدعى أيضاً ، إذ لا يلزم أن يكون أحب الخلق إلى الله صاحب الرياسة العامة ، فكاين من أولياء وأنبياء كانوا احب الخلق إلى الله ولم يكونوا ذوى رياسة عامة ، كزكريا ويحيى وشمويل الذى كان طالوت في زمنه صاحب رياسة عامة بنص إلهي ، وأيضاً يحتمل أن أبا بكر لعله لم يكن في ذلك الحين حاضراً في المدينة المنورة والدعاء كان خالصاً بالحاضرين دو الغائبين بدليل قوله (( اللهم أئتنى )) لأن إحضار الغائب من مسافة بعيدة في آن قصير لا يعقل إلا طريق خرق العادة ، والآنبياء لا يسألون الله خرق العادة إلا في وقت التحدي ، وإلا لما أحتاجوا في الحرب والقتال إلى تهيئة الأسباب الظاهرة . ويحتمل أن يراد التبعيض بذلك كما في قولهم فلأن أعقل الناس وأعلمهم وافضلهم . وعلى تقدير دلالته على المدعى لا يقاوم الأخبار الصحاح الدالة على خلافة أبي بكر وعمر ، مثل (( أقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر )) وغير ذلك .

الحديث الخامس : رواية جابر عن النبي r أنه قال : (( أنا مدينة العلم وعلى بابها وهذا الخبر أيضاً مطعون فيه ، قال يحيى بن معين : لا أصل له ، وقال البخارى : إنه منكر ، وليس له وجه صحيح . وقال الترمذى : إنه منكر غريب . وذكره ابن الجوزى في الموضوعات . وقال ابن دقيق العيد : لم يثبتوه . وقال النووى والذهبي والجزرى : إنه موضوع . فالتمسك بالأحاديث الموضوعة مما وجه له ، إذ شرط الدليل اتفاق الخصمين عليه . ومع هذا ليس مفيداً لمدعاهم إذ لا يلزم أن من كان باب مدينة العلم فهو صاحب رياسة عامة بلا فصل بعد النبي r ، غايته أن شرطاً من شروط الإمامة قد تحقق فيه بوجه أتم ، ولا يلزم من تحقيق شرط واحد وجود المشروط بالشروط الكثيرة ، مع أن ذلك الشرط كان ثابتاً في غيره أيضاً أزيد منه برواية أهل السنة مثل
(( ما صب الله شيئاً في صدرى إلا وقد صببته في صدر أبي بكر )) ونحو (( لو كان بعدي نبي لكان عمر )) فإذا أعتبرت روايات أهل السنة فليتعبر كلها ، وإلا فلا ينبغي أن يقصد إلزامهم برواية واحدة من رواياتهم .

الحديث السادس : وهو ما رواه الإمامية مرفوعاً أنه r قال (( من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في بطشه ، وإلى عيسى في عبداته ، فينظر إلى علي بن أبي طالب )) . وجه التمسك بهذا الحديث أن مساواة الأمير للأنبياء في صفات قد علمت به ، والأنبياء أفضل من غيرهم ، والمساوى للأفضل أفضل فكان على أفضل من غيره ، والأفضل متعين للإمامة دون غيره . ولا يخفى فساد هذه المقدمات والمبادئ الواقعة في الاستدلال من وجوه :

الأول – أن هذا الحديث أورده الحلى في كتبه وقد نسبه إلى البيهقي مرة إلى البغوي أخرى وليس في تصانيفهما أثر منه . ولا يتأتى إلزام أهل السنة بالافتراء . مع أن عند أهل السنة التي تذكر في كتبهم إذا لم يصرح بصحتها لا يحتج بها .

الثاني – أن ما ذكر محض تشبيه لبعض صفات الأمير ببعض صفات أولئك الأنبياء الأسلوب كما تقرر في علم البيان أن من أراد أن ينظر القمر ليلة البدر فلينظر إلى وجه فلان . فهذا القسم داخل أيضاً في التشبيه ولو تجاوزنا عن ذلك لكان استعارة مبناها على التشبيه ، وفهم المساواة بين المشبه والمشبه به من كمال السفاهة وقد روى في الأحاديث الصحيحة لأهل السنة تشبيه أبي بكر بإبراهيم وعيسى وتشبيه عمر بنوح وتشبيه أبي ذر بعيسى ولكن لما كان لأهل السنة حظ عظيم من العقل لم يحملوا ذلك التشبيه على المساواة أصلاً بل أعطوا كلا مرتبته .

الثالث – أن المساواة بالأفضل في صفة لا تكون موجبة لأفضلية المساوى لأن ذلك الأفضل له صفات أخر قد صار بسببها أفضل . وأيضاً ليست الأفضلية موجبة للزعامة الكبرى كما مر .

الرابع – ان تفضيل الأمير على الخلفاء الثلاثة من هذا الحديث يثبت إذا لم يكن أولئك الخلفاء مساوين للأنبياء المذكورين في الصفات المذكورة أو في مثلها ودون هذا خرط القتاد ولو تتبعنا الأحاديث الدالة على تشبيه الشيخين بالأنبياء لبلغت مبلغاً لم يثبت مثله لمعاصريهما ولهذا ذكر المحققون من أهل التصوف أن الشيخين كانا حاملين لكمالات النبوة وكان الأمير حاملاً لكمالات الولاية ومن ثمة صدر من الشيخين الأمور التي تصدر من الأنبياء من الجهاد بالكفار وترويج أحكام الشريعة وإصلاح أمور الدين بأحسن أسلوب وتدبير وظهر من الأمير ما يتعلق بالأولياء من تعليم الطريقة والإرشاد لأحوال . السالكين ومقاماتهم والتنبيه على غوائل النفس والترغيب بالزهد في الدنيا ونحوها أكثر من غيره وقد دل على هذه التفرقة حديث رواه الشيعة في كتبهم وهو قوله r (( إنك يا علي تقاتل الناس على تأويل القرآن كما قاتلتهم على تنزيله )) لأن مقاتلات الشيخين كلها كانت على تنزيل القرآن فكان عهدهما من بقية زمان النبوة وزمن خلافة الأمير كان مبدأ لدورة الولاية وإليه تنتهي سلاسل جميع الفرق من أولياء الله تعالى كما تصل سلاسل الفقهاء والمجتهدين في الشريعة بالشيخين ونوابهما كعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وزيد ابن ثابت وعبدالله بن عمر وأمثالهم رضي الله تعالى عنهم ويكون فقه أولئك الفقهاء رشحة من بحار علومهم وكان معنى الإمامة التي بقيت في أولاد الإمام وجعل بعضهم بعضاً وصياً له فيها هي قطبية الإرشاد ولهذا لم يرو إلزام هذا الأمر من الأئمة الأطهار على كافة الخلائق بل جعلوا بعض أصحابهم الممتازين المنتخبين مشرفين بذلك الفيض الخاص ووهبوا لكل واحد منهم هذه الكرامة العظيمة بقدر استعداده . وهذه الفرقة السفيهة قد أنزلوا تلك الإشارات كلها على الرياسة العامة واستحقاق التصرف في أمور الملك والمال فوقعوا في ورطة الضلال ومن أجل ما قلنا يعتقد كل الأمة الأمير وذريته الطاهرة كالشيوخ والمرشدين .

الحديث السابع : روى عن أبي ذر الغفاري أنه قال (( من ناصب علياً في الخلافة فهو كافر )) وهذا الحديث لا أثر له بوجه في كتب أهل السنة أصلاً بل نسب ابن المطهر الحلى روايته إلى خطب الخوارزمي والحلى خوان في النقل والأخطب كان من الغلاة الزيدية ومع هذا لم يرو هذا الحديث في كتابه المؤلف في مناقب أمير المؤمنين ولو فرضنا كونه في كتابه فلا اعتبار له لكونه مخالفاً للأحاديث الصحاح الموجودة في كتب الإمامية منها قوله u في نهج البلاغة (( أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج (1) )) . ولئن اعتبرنا هذا الحديث لا يتحقق مضمونه أيضاً إلا إذا طلب الأمير الخلافة وانتزعها الآخر من يده وهذا المعنى لم يقع في عهد قط ، لأن الأمير لم يطلب الخلافة في زمن الخلفاء الثلاثة ، كما ذكر في كتب الإمامية أن الرسول r كان وصى الأمير بالسكوت ما لم يجد أعواناً فسكت الأمير في عهد الخلفاء الثلاثة لأجل هذه الوصية ! وحين صار طالباً لها لم يقصد أحد – من أم المؤمنين والزبير وطلحة – نزع الخلافة من يده أصلا ، بل إنما سأل هؤلاء الأمير تنفيذ حكم القصاص على قتلة عثمان رضي الله تعالى عنه ثم انجز الأمر إلى القتال كما تشهد بذلك كتب السير (2) وخطب الأمير t . سلمنا ، ولكن المراد من (( الكافر )) كفران النعمة ، إذ خلافة أمير المؤمنين كانت نعمة في زمنها يدل عليه لفظ (( الخلافة )) إذ هي بالإجماع مشروطة بالتصرف في الأرض ، وذلك لم يكن للأمير في زمن الخلفاء الثلاثة ولهذا لم يقع في الحديث لفظ (( الإمامة )) . سلمنا ، ولكن الله تعالى قال في كتابه لمنكر خلافة الخلفاء الثلاثة في آية الاستخلاف كافر أيضاً كقوله تعالى ] ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [ والمعنى أن من أنكر خلافة أولئك المستخلفين بعد استماع هذه الآية الكريمة والعلم باستخلافهم الصادر من الله تعالى فأولئك هم الكاملون في الفسق ، والكامل فيه هو
-----------------------

( 1 ) تقدم في ص130 .

( 2 ) انظر التعليق على ( العواصم من القواصم ) ص150-152 .

الكافر كما لا يخفى . مع أن روايات الأخطب الزيدي عند أهل السنة كلها ضعيفة وكثير منها موضوعة يحتج بها ؟!

الحديث الثامن : رواه الشيعة أن الرسول r قال (( كنت أنا وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزءين : فجزء أنا ، وجزء علي بن أبي طالب )) . وهذا الحديث موضوع قطعاً بإجماع أهل السنة ، وفي إسناده محمد بن خلف المروزي قال يحيى بن معين : هو كذاب . وقال الدار قطني : متروك ن ولم يختلف أحد في كذبه . ويروي من طريق آخر وفيه جعفر بن أحمد وكان رافضياً غالياً كذاباً وضاعاً ، وكان أكثر ما يضع في مدح الصحابة وسبهم . وعلى تقدير صحته معارض بالأخبار الأخر نحو قوله (( أول من خلق الله نورى )) وقوله (( أنا من نور الله وكل شيء من نورى )) فإنه إن كان الأمير من نوره فلا وجه للتخصيص وإن كان مستقلاً مثله فيلزم التكذيب . ومع هذا فقد ثبت اشتراك الخلفاء الثلاثة معه r في عالم الأرواح بالرواية الأخرى التي هي أحسن من تلك الرواية إذ ليس في إسنادها متهمون بالكذب والوضع وهي ما روى الشافعي بإسناده إلى النبي r أنه قال : (( كنت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بألف عام فلما خلق أسكننا ظهره ولم نزل ننتقل في الأصلاب الطاهرة حتى نقلني إلى صلب عبدالله ونقل أبا بكر إلى صلب أبي قحافة ونقل عمر إلى صلب الخطاب ونقل عثمان إلى صلب عفان ونقل علياً إلى صلب أبي طالب )) ويؤيد هذه الرواية حديث (( الأرواح جنود مجندة : ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف )) وبعد اللتيا والتي لا يدل حديثهم على المدعي أصلاً لأن اشترك الأمير في نور النبي مستلزماُ لوجوب إمامته بلا فصل وأية ملازمة بينهما فليبينوها بحيث لا يتوجه إليه المنع ودونه خرط القتاد ولا بحث لنا في قرب النسب وإلا لكان العباس أولى بالإمامة لكونه عم النبي والعم أقرب من ابن العم عرفاً وشرعاً فإن قالوا : عن العباس لحرمانه من اتحاد النور لم يحصل له لياقة للإمامة لأن نور عبد المطلب انقسم في عبد الله وأبي طالب ولم يصب أبناؤه الآخرون قلنا : إن كان مدار التقدم في الإمامة على قوة النور وكثرته فالحسنان أحق بالإمامة من الأمير للقوة والكثرة معاً أما القوة فلأن النور لما انقسم وصلت حصة الرسول إلى جنابه فانشعب من تلك الحصة السبطان الكريمان بخلاف الأمير فإنه كان شريكاً في أصل النور لا في حصة النبي r وحصة النبي r من النور كانت أقوى من حصة غيره.

وأما الكثرة فلأن الحسنين كانا جامعين لنورى النبي r والأمير معاً والاثنان أكثر من الواحد قطعاً .

الحديث التاسع : رواه عمر بن الخطاب t أن النبي r قال يوم خيبر (( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه )) وهذا الحديث أصح وأقوى من غيره ، ولكن مدعى الشيعة غير حاصل منه إذ لا ملازمة بين كونه محباً لله ورسوله ومحبوباً لهما وبين كونه إماماً بلا فصل أصلاً ، على انه لايلزم من أثباتهما له نفياً عن غيره ، كيف وقد قال الله تعالى في حق أبي بكر ورفقائه ] يحبهم ويحبونه [ وقال في حق أهل بدر ] إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص [ ولاشك ان من يحبه الله يحبه رسوله ومن يحب الله من المؤمنين يحب رسوله ، وقال في شأن أهل مسجد قبا ] فيه رجال يحبون أن يتطهروا ، والله يحب المتطهرين [ وقال النبي r لمعاذ (( يا معاذ إنى أحبك )) ولما سئل : من أحب الناس إليك ؟ قال : (( عائشة )) قيل : ومن الرجال ؟ قال : (( أبوها )) . وإنما نص على المحبية والمحبوبية في حق الأمير مع وجودهما في غيره لنكتة دقيقة تحصل من ضمن قوله (( يفتح الله على يديه )) وهي أنه لو ذكر مجرد الفتح لربما توهم أن ذلك غير موجب لفضيلته لما ورد (( إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر )) فأزال ذلك التوهم بإثبات هاتين الصفتين له فصار المقصود منه تخصيص مضمون (( يفتح الله على يديه )) وما ذكر من الصفات لإزالة ذلك التوهم .

الحديث العاشر : (( رحم الله علياً ، اللهم أدر الحق معه حيث دار )) وهذا الحديث يقبله أيضاً أهل السنة ، ولكن لا مساس له بمدعى الشيعة وهو الإمامة بلا فصل ، وقد جاء في حق عمار بن ياسر (( الحق مع عمار حيث دار )) وفي حق عمر أيضاً (( الحق بعدي مع عمر حيث كان )) بل في هذين الحديثين إخبار بملازمة الحق لعمر ولعمار ، بخلاف الحديث عن الأمير فإنه دعاء في حقه ، والفرق بين الإخبار والدعاء غير خاف ، خصوصاً على ما قرره الشيعة من أن استجابة دعاء النبي لازمة عندهم ، فقد روى ابن بابويه القمي أن رسول الله r دعا ربه أن يجمع أصحابه على محبة علي فلم يكن ذلك . وزاد في حق عمر لفظ (( بعدي )) ليكون دليلاً على صحة إمامته من رآه عمر إماماً . وعلى مذاق الشيعة يكون هذا الحديث دليلاً على عصمته ، لكن مذهب أهل السنة لا يكون غير النبي معصوماً . وقد تمسك بعض ظرفاء أهل السنة بحديث على المذكور على صحة أبي بكر وعمر وعثمان ، لأن علياً كان معهم وبايعهم وتابعهم وصلى معهم في الجمع والجماعات ونصحهم في أمور تتعلق برياستهم ، فيصح قياس المساواة ههنا : الحق مع علي ، وعلي مع أبي بكر وعمر ، فالحق معهما ، لأن مقارن المقارن مقارن . وهذه المقدمة الأجنبية التى هي مدار صحة النتيجة في هذا القياس صادقة لا محالة ، وهذا القياس لروايات الشيعة ، فإنه يثبت في ( نهج البلاغة ) أن عمر بن الخطاب لما أراد أن يخرج إلى دفع فتنة نهاوند أستشار علي أبن أبي طالب فقال له الأمير : (( إن هذا الآمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة وهو دين الله الذى أظهره ، وجنده الذى أوعده وأمده ، حتى بلغ ما بلغ ، وطلع حيث ما طلع ، ونحن على موعود من الله ، والله منجز وعده ، وناصر جنده . قال الله تعالى
] وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كم أستخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم امناً [ . ومكان القيم من الإسلام مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه ، فإن أنقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع أبداً والعرب وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام ، عزيزون بالإجتماع ، فكن قطباً ، وأستدر الرحى بالعرب )) إلى آخر خطبته المذكورة في نهج البلاغة . فعلم بالصراحة أن الأمير كان معنياً وناصراً أميناً لعمر بن الخطاب ، ولو كان بينهما نفاق والعياذ بالله لأشار عليه بالذهاب إلى العجم ، وإذا أشتغل عمر وأهل عسكره بالقتال تصرف الأمير بالحجاز التى كانت دار الإسلام وأتبعه الناس طوعاً أو كرهاً . وأيضاً قد علم أن الأمير عد نفسه في زمرة أبي بكر وعمر حيث أدخل نفسه فيهم وقال (( نحن على موعود من الله )) وأيضاً قد ذكر في ( نهج البلاغة ) أن الأمير قال لعمر بن الخطاب حين أستشاره في غزوة الروم (( إنك متى تسير إلى هذا العدو بنفسك فتكسر وتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون اقصى بلادهم ، وليس بعدك مرجع يرجعون إليه . فأرسل إليهم رجلاً مجرباً وأحفز معه أهل البلاء والنصيحة ، فإن أظهره الله فذلك ما تحمد ، وإن تكن الآخرى كنت ردءاً للناس ومثاباً للمسلمين )) والعجب من الشيعة كيف يتركون مثل هذه الروايات الثابتة في أصح الكتب عندهم كأنهم لو يروها ولم يسمعوها ، ويذعنون بالمخالفة فيما بينهم بما شاع عندهم من الروايات الموضوعة والمفتريات ، ثم يتخبطون إذ يرون هذه الروايات الصحيحة ، فقد يقولون إن هذه كلها – من متابعة الأمير ومبايعته للشيخين – كانت لمحض قلة الأعوان والأنصار ، ثم يفحمون فيما قالوا بروايات ثقاتهم الدالة صراحة على قوة الأمير وغلبة أعوانه وكثرة انصاره كما روى أبان بن عياش عن سليمان بن قيس الهلالي وغيره أن عمر قال لعلي : والله لئن لم تبايع أبا بكر لنقتلنك . قال له علي : لولا عهد عهده إلى خليلى لست أخونه لعلمت اينا أضعف ناصراً وأقل عدداً . فهذه الرواية تدل بالصراحة على أن سكوت الأمير كان بسبب أمر سمعه من النبي r وهو أن الخلافة حق ابي بكر بلا فصل ثم حق عمر ، وههنا البرهان العقلي الموافق لأصول الشيعة قائم على أن العهد المذكور كان هذا ، لأن الإمامة لو كانت حق الأمير وكان النبي أوصاه بترك المنازعة للشيخين مع كثرة الأعوان والأنصار المستفادة من هذه الرواية صراحة للزم أن النبي أوصاه بتعطيل امر الله ، ونحوها ، معاذ الله من ذلك ، كيف وقد قال الله تعالى ] يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال [ في زمان كان الواجب أن يقاتل مسلم واحد عشرة كفار ، فجاهد النبي وكلف الناس بالجهاد بهذه التأكيدات مع كثرة المشقة والصعوبة ، وفي زمان تم فيه الدين وكملت النعمة يأمر مثل هذا الذى هو أسد الله بالجبن والخوف وترك التبليغ لأحكام الله ويجوز الفتن والفساد وتحريف كتاب الله وتبديل دينه ] أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ؟ [ حاشاه ثم حاشاه ، أولئك مبرأون مما يقولون ، وشأن النبوة والرسالة مناف لهذه الوصية أشد منافاة . وقد يقول الشيعة إن ترك الأمير للمنازعة وإظهاره الموافقة والمناصحة مع الخلفاء الثلاثة كان لمحض الأقتداء بأفعال الله تعالى وهي إمهال الجانى والتأنى في المؤاخذة ، وقد أستخرج هذا التوجيه ابن طاوس سبط أبي جعفر الطوسي ، وقد أرتضى به الآخرون من إخوانه غاية ارتضاء ، مع أنه تأويل باطل ، لأن الاقتداء بأفعال الله تعالى فيما يخالف الشرع غير جائز للناس فضلاً عن أن يكون واجباً ، إذ البارى تعالى قد ينصر الكفرة في بعض الأحيان ويخذل المسلمين ويميت الصالحين ويحيى الفساق ويرزقهم بغير حساب ويقدر الرزق على الصلحاء وغير ذلك على ما علمه من المصالح والحكم ، ولا يجوز لأحد من العباد نصرة الكافر وقتل المسلم بغير حق وإعانة الفاسق على فسقه وخذلان الصالح ، بل لابد للعباد من الامتثال لأوامر الله تعالى ونواهيه ، وهذا هو شان العبودية أن يتلقى بالقبول حكم الله ، ويعمل بالجد على وفقه ، لا أنه يقتدى بأفعال المالك . واما ما قيل (( تخلقوا بأخرق الله )) فبابه المكارم دون الأحكام ، وإلا فمن لم يصل ولم يؤت الزكاة ولم يحج البيت مع الاستطاعة أقتداء بالله تعالى فهل يعذر في الدنيا والآخرة ؟ ومن قال أنى التأني وترك العجلة محمود فليس مطلقاً ، بل التأخير والتأني في الأمور الحسنة غير محمود البتة ، لأن المالك إذا أمر رسله وعباده بتعجيل امر فإن لم يسارعوا إلى امره يكونوا عصاة لا محالة كما قال الله تعالى ] وإن منكم لمن ليبطئن [ وقال تعالى في مدح عباده المتعجلين في أمتثال أوامره ] أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [ ولهذا صار المثل المشهور (( لا حاجة إلى الاستخارة في امر الخير )) و (( خير الخير ما كان عاجله )) والإمام الذى له منصب هداية الخلق وإرشاد الضالين كيف يجوز له التاني إذ يفوت منه فيه واجبات كثيرة ، وأيضاً يكون للتأني حد ، وهل يمضى أحد في التأني خمسة وعشرين عاماً ؟ ولو قال : إن تأني الأمير كان بامر الله تعالى قلا يلزم ترك الواجبات ، قلنا : فقد علم أن إمامة الأمير لم تكن متحققة في ذا الزمن ، وإلا فنصبه للإمامة ثم امره بالتأني وترك لوازم الإمامة متناقضان فيما بينهما ، ويشبه ذلم أن السلطان قلد أحداً القضاء وأمره بالأختفاء مدة ذلك قائلاً له : لا تظهر قضاءك في تلك المدة ، وامتنع ان تقام قضية بحضورك ، ولا تتكلم بين المتخاصمين . فهذا يدل صريحاً على ان السلطان يعده القضاء ، لا انه نصبه بالفعل للقضاء ، ولو حملنا على الظاهر يلزمه التناقض الصريح وتفويت الغرض من نصب القاضي ، بل هو محض السفاهة . ولا يخفى قبحه ، والله تعالى منزه عن ذلك . وأيضاً إذا كان الأمير مأموراً من الله بالتأني وإخفاء الإمامة وترك دعواها يكون المكلفون في ترك متابعته وإطاعة الأمر معذزرين ، فلو خالفوا ونصبوا غيره لحفظ دينهم ودنياهم وتمشيه مهماتهم في هذه المدة لا يكون للعقاب والعتاب عليهم محل أصلاً إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها .

الحديث الحادي عشر : رواه أبو سعيد الخدري أنه قال : قال النبي r لعلي (( إنك تقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله )) . ولا يخفى أن هذا الحديث لا مساس له بمدعاهم ، إذ مفاده : إنك تقاتل فيحين من الأحيان على تاويل القرآن . وهذا هو مذهب أهل السنة أن الأمير في مقاتلاته حين قاتل كان على الحق ومصيباً لا ريب فيه ، ومخالفوه كانوا على الخطأ ولو بالاجتهاد . ولا دلالة في هذا الحديث على أن الأمير إمام بلا فصل ، إذ لا ملازمة بين المقاتلة على تأويل القرآن والإمامة بلا فصل بوجه من الوجوه ، فإيراد هذا الحديث في مقابلة على تأويل القرآن والإمامة بلا فصل بوجه من الوجوه ، فإيراد هذا الحديث في مقابلة أهل السنة غاية الجهل ، بل لو أستدل به على نذهب أهل السنة لأمكن ، لأنه يفهم منه بالصراحة أن الأمير قد يكون إماماً في عصر يقاتل فيه على تأويل القرآن ووقت قتاله معلوم متى كان ، وهو من دلائل أهل السنة على أن الحق كان في جانب الأمير وكان مقاتلوه على الخطأ حيث لم يفهموا معنى القرآن وأخطأوا في أجتهادهم ، وإنكار تاويل القرآن ليس بكفر إجماعاً ، وغن أنكر أحد معنى القرآن الظاهر بسوء فهمه ففي كفره تامل ، فضلاً عن ان ينكر المعنى الخفى الذى هو التأويل . وعقيدة الشيعة أن محاربيه كفرة كما ذكر في ( تجريد العقائد ) للطوسي . ولا وجه لكفرهم على أصول الشيعة ايضاً.

الحديث الثاني عشر : رواه زيد بن ارقم عن النبي r أنه قال : (( إنى تارك فيكم الثقلين ، فإن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي : أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله وعترتي )) وهذا الحديث أيضاً كالأحاديث السابقة لا مساس له بمدعاهم ، وإذ لا يلزم أن يكون المتمسك صاحب الزعامة الكبرى . سلمنا ، ولكن قد صح الحديث ايضاً (( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنوجذ )) . سلمنا ، ولكن (( العترة )) في لغة العرب هم الأقارب ، فلو دل الحديث على الإمامة لزم أن يكون جميع أقاربه r أئمة واجبي الإطاعة وهو باطل . وأيضاً قال r (( وأهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد ، واعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل )) خصوصاً قوله (( أقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر )) البالغ درجة الشهرة والتواتر المعنوي ، فلزم من هذه الأحاديث أن يكون أولئك الأشخاص ائمة ، وأن يدل هذا الحديث على إمامة العترة ، فكيف يصح الحديث المروى عن الأمير بالتواتر عند الشيعة (( إنما الشورى للمهاجرين والأنصار )) وكذلك لا يدل حديث (( مثل أهل بيتى فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق )) إلا أن الفلاح والهداية منوطان بمحبتهم ومربوطان باتباعهم ، والتخلف عن محبتهم وأتباعهم موجب الهلاك . وهذا المعنى بفضل الله تعالى مختص بأهل السنة ، لأنهم هم المتمسكون بحبل وداد جميع أهل البيت ، كالإيمان بكتاب الله كله لا يتركون حرفاً منه ، وبالأنبياء أجمعين بحيث لا يفرقون بين أحد من رسله وأنبيائه ، ولا يخصمون بعضهم بالمحبة دون بعض ، لأن الإيمان ببعض الكتاب بحكم ] تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض [ وببعض الأنبياء بدليل ] إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض [ الآية كفر غليظ ، بخلاف الشيعة لأنهم ما من فرقة منهم إلا وهي لا تحب جميع أهل البيت ، بل يحبون طائفة ويبغضون أخرى .

ولبعض الشيعة ههنا تقرير عجيب حيث قال : تشبيه أهل البيت في هذا الحديث يقتضى أن محبة أهل البيت واتباعهم كلهم غير ضرورى في النجاة ، لأن أحداً لو تمكن من زاوية من السفينة تحصل له النجاة من الغرق بلا شبهة ، بل كذلك الدوران في السفينة بأن لا يجلس في مكان واحد ، فالشيعة إذا كانوا متمسكين ببعض أهل البيت ومتبعين لهم يكونون ناجين بلا شبهة فقد أندفع طعن أهل السنة عليهم بإنكارهم لبعض أهل البيت .

واجاب عنه أهل السنة بوجهين : الأول بطريق النقض بان الإمامية لابد لهم ان لا يعتقدوا على هذا التقرير ان الزيدية والكيسانية والناوسية والأفطحية وامثالهم من فرق الشيعة ضالون هالكون في الآخرة ، بل ينبغي أن يعتقدوا فلاحهم ونجاتهم ، لأن كلاً من هذه الفرق وامثالهم آخذون زاوية من هذه السفينة الوسيعة ، ومتخذون فيها مكانهم والزاوية الواحدة من تلك السفينة كافية لنجاة عن الغرق ، بل التعيين بالأئمة الأثني عشر صار مخدوشاً على هذا التقرير ، إذ الكفاية بزاوية واحدة من السفينة في النجاة من الغرق مفروضة ، ومعنى الإمام هو هذا ان أتباعه يكون موجباً للنجاة في الآخرة ، ففسد مذهب الأثني عشرية بل الإمامية كلهم فلا يصح لكل فرقة من فرق الشيعة ذلك بل لابد لهم ان يعلموا جميع المذاهب حقاً وصواباً ، مع أن بين مذاهبهم كثير من التناقض والتضاد الواقع ، والحكم في كلا الجانبين المتناقضين بكونهما حقاً في غير الاجتهادات قول باجتماع النقيضين وهو بديهي الاستحالة .

الثاني بطريق الحل : بأن التمكن في زاوية من زوايا السفينة إنما ينجى من الغرق لو لم يخرق في زاوية أخرى منها ، وإلا فيحصل الغرق قطعاً . وما من فرقة من فرق الشيعة متمكنين في زاوية من هذه السفينة إلا وهم يخرقون في زاوية أخرى منها .نعم أهل السنة وإن كانوا يدورون في كل الزوايا المختلفة ويسيرون فيها ، لكنهم لم يخرقوها في زاوية منها ليدخلوا من ذلك الطرف موج البحر ليغرقها . والحمد لله .

وأما الدلائل العقلية للشيعة فهي كثيرة جداً ولنذكر قاعدة يمكن الحل بها لكل دلائلهم فنقول : إن الدليل على هذا المدعي لا يخلو عن ثلاثة اقسام : لأنه إما جميع مقدماته عقلية ، أو جميعها نقلية ، أو بعضها عقلية وبعضها نقلية ، وهذا الاصطلاح غير الاصطلاح المشهور في الكلام ، فإن الدليل العقلي يطلق فيه على ما كان مركباً من العقليات الصرفة ، والدليل النقلي يطلق على ما كانت إحدى مقدماته موقوفة على النقل . وهذه الأقسام الثلاثة من الدليل لابد أن تكون مأخوذة من شرائط الإمامة او من توابعها أو من طريق تعينها . وأصل هذه الدلائل كلها هي مباحث الإمامة ، ومباحثها فرع لمباحث النبوة ، لأن الإمامة نيابة للنبوة ، ومباحث النبوة فرع الإلهيات ، لن النبوة والرسالة من الله تعالى . فإذا فسدت أصول الشيعة ومقرراتهم في هذه المباحث الثلاثة بمخالفة الكتاب والعترة والعقل السليم صارت دلائلهم كأنها أخذت تحت المنع في ثلاث مراتب . ولنبين هذا الاجمال بمثال واضح : مثلاً مقدماتهم المأخوذة في الدلائل الكثيرة عندهم (( الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه )) أصله (( ان نصب الإمام واجب على الله تعالى )) وأصل هذا الأصل إن بعث المبنى واجب على الله )) ولما ابطلنا مذهبهم في هذه المباحث بشهادة العدول – الكتاب ، والعترة ، والعقل السليم ( 1 ) – لم يبق شبهة ولا شك في بطلانه .

ولنذكر بعضاً من دلائلهم العقلية ، وإن كان يستغنى عن ذكرها بما ذكرنا . فنقول : الأول من دلائلهم أنهم قالوا : (( إن الأمام يجب أن يكون معصوماً ، وغير الأمير من الصحابة لم يكن معصوماً هو إماماً لا غيره )) ، وهو المدعى . ولا يخفى أن تقرير الاستدلال ناقص لا يفيد المدعى ، لأن الدعوى مركبة من ثبوت الإمامة للأمير وسلبها عن غيره . والدليل المذكور لا يلزم منه إلا سلب مفهوم كل أحد غير الأمير من الصحابة عن ذات متصفة بالإمامة فقط ، وهو غير مطلوب ، فالاستدلال الصحيح بعكس ترتيب هذا القياس المذكور ، وضم قياس آخر إليه من الشكل الأول فيفيد مجموعهما المدعي ، وهو هكذا : (( لم يكن أحد غير الأمير من الصحابة معصوماً ، وكل إمام يجب ان يكون معصوماً )) على الضرب الثاني من الشكل الثاني ، ونتيجة هذا القياس
 -----------------------

( 1 ) انظر ص 99 – 100

سالبة كلية وهي (( لم يكن أحد غير الأمير منهم إماماً )) فيحصل منه سلب الإمامة عن غير الأمير من الصحابة . والقياس الآخر (( إن الأمير كان معصوماً ، وكل معصوم يكون إماماً ، فالأمير يكون إماماً )) فيلزم منه ثبوت إمامته ، فمجموع هذين القياسين تثبت به الدعوى وهو المطلوب . ويجاب عن الأول بمنع الكبرى أعني (( كل إمام يجب أن يكون معصوماً )) وبمنع استثناء الأمير منهم في الصغري ، وأسنادهما أقوال الأمير الآتية ، وبهذا المعنى يرد المنع على الصغرى التى جعلها المستدل كبرى قياسه ، وإلا فهي مسلمة بالضرورة فلا يصح منعها ، ويجاب عن الثاني بمنع الصغرى وسنده سند منع الاستثناء ، وبفوات بعض الشروط من كلية كبراه لأن المعصوم عام فإن الأنبياء والملائكة وفاطمة ( 1 ) معصومون وليسوا بأئمة بالمعنى المتنازع فيه ، فحمل (( الإمام )) على جميع أفراده لا يمكن ، وعلى بعض أفراده يجعل القضية جزئية وهي لا تصلح لكبروية الشكل الأول لاشتراط كليتها ، فافهم .

وقال المؤلف ( 2 ) : وفي هذا الدليل تكون الصغرى والكبرى ممنوعتين ، أما الصغرى فلأن الأمير نص بقوله (( إنما الشورى للمهاجرين والأنصار )) إلخ على أن الشورى لهم فقط ، وبديهي أن الجماعة الذين جعلهم المهاجرون والأنصار خلفاء لم يكونوا معصومين ، فعلم قطعاً أن العصمة ليست بشرط في الإمامة أصلاً . وأيضاً لما سمع الأمير ما قال الخوارج (( لا إمرة )) قال (( لابد للناس من أمير أو فاجر )) كذا في ( نهج اليلاغة ) . سلمنا . ، ولكن العلم بأنه معصوم لا يمكن حصوله لغير النبي ، لأن أسباب العلم كلها ثلاثة أشياء : الحواس السليمة ، والعقل ، وخبر الصادق . ولا سبيل لأحد منها إلى تحصيله . أما الأول فظاهر إذ العصمة هي الملكة النفسانية المانعة من صدور الذنوب والقبائح غير المحسوسة ، وأما الثاني فلأن العقل ايضاً لا يدرك تلك الملكة إلا بطريق الاستدلال بالأفعال أحد بخصوصه وآثاره خصوصاً نيات القلب ومكنونات الضمائر – من العقائد الفاسدة والحسد والبغض والعجب والرياء وغيرها من ذمائم الأخلاق – لا يمكن أولاً حصوله ، ولو سلمنا أنه حاصل ولكن يجوز حصول ما هو حاضر من جميع الأفعال والآثار الحسنة الباقية فإنها يمكن العلم بها ، وأما ما مضى وما سيأتى من تلك الأفعال والآثار فلا سبيل لأحد إلا الله إلى العلم بها ، لأن أحوال بنى آدم كثيراً ما تتغير آناً فآناً يمكر الشيطان وإغواء النفس وقرناء السوء فيصبح الرجل مؤمناً ويمسى كافراً ويمسى مؤمناً ويصبح كافراً . أما سمعت قصة برصيصاء الراهب وبلعم بن باعورا وهي كافية للعبرة في هذا الباب ، والدعاء المأثور
-----------------------

( 1 ) أي في أعتقاد الخصم .

( 2 ) أي شاه عبد العزيز الدهلوي ابن شاه ولى الله الدهلوي رحمهما الله .

(( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وطاعتك )) دواء شاف لداء الشبهة والشك في هذا الامر . ولو فرضنا أنها علمت ، ولكن كيف تدرك حقيقة العصمة التى هي امتناع صدور الذنب ؟ غاية الأمر فيه أنا نعلم عدم الصدور منه وهي مرتبة المحفوظية ، ولا يجزئ هذا القدر من العلم في إدراك العصمة ما لم يوجد العلم بالامتناع . واما الثالث فلأن خبر الصادق قسمان : إما متواتر ، وإما خبر الله ورسوله . وظاهر أن المتواتر لا دخل له ههنا لأن المتواتر يشترط انتهاؤه إلى المحسوس في إفادة العلم الضرورى ، فلا يكون في غير المحسوسات – مثل ما نحن فيه – مفيداً وإلا يكن خبر الفلاسفة بقدم العالم مفيداً للعلم الضروري وهو باطل بالإجماع ، وخبر الله ورسوله لا يكون موجباً للعلم في هذا الباب على أصول الشيعة : أما أولاً فلأن البداء في الإخبار جائز عندهم ( 1 ) ، فيجوز أن يخبر في وقت بعصمة رجل ثم بفسقه في وقت آخر ، وأحد الخبرين وصل إلينا دون الآخر ، وبجوز البداء في الإرادة أيضاً إجماع الشيعة فيحتمل أن تتعلق الإرادة في وقت بعصمة رجل وفي وقت آخر بفسقه ، فارتفع الاطمئنان بأن هذا الرجل يبقى على عصمته إلى آخر العمر . وأما ثانياً : فلأن وصول خبر الله ورسوله إلى المكلفين إما بواسطة معصوم أو بواسطة تواتر ، ففي الشق الأول يلزم الدور الصريح ، وفي الشق الثاني يلزم خلاف الواقع ، لأن كل تواتر ليس مفيداً للعلم القطعي عند الشيعة ، كتواتر المسح على الخف ، وغسل الرجلين في الوضوء ، وإلى المرافق ، وأمه هي اربى من أمة في كلمات القرآن ، وصيغة التحيات في قعدة الصلاة ، وأمثال ذلك . فلابد من أن يعين تواتر خاص . وذلك أيضاً غير مفيد ، إذ حصول العلم القطعي من التواتر يكون بناء على كثرة الناقلين وبلوغهم إلى ذلك المبلغ فقط ، ولما كذب الناقلون في مادة أو مادتين أرتفع الاعتماد عن اقسامه كلها . ولا يمكن أن تجرى هذه الوجوه في عصمة الأنبياء لأن ثبوتها باخبارهم الصادقة ، وقد ثبت صدقهم في كل ما أدعوا بظهور المعجزات الباهرة ، فلا يقاس عليهم من عداهم من العباد ولو إماماً فإنه أيضاً تابع والتابع دون المتبوع لا محالة ، فلا يستقيم بها النقض على ما قاله السائل لاختلاف المادة ، مع أنه سند منع بصورة الاستدلال عن مقالة بحق أو مشورة بعدل ، فإنني لست بفوق أن اخطئ ، ولا آمن من ذلك في فعلي )) كذا في ( نهج البلاغة ) وظاهر أن هذا القول لا يصدر من المعصوم ، خصوصاً إذا كانت واقعة في أخر الكلام (( إلا أن يلقى الله في نفسى ما هو أملك به مني )) فإنه دليل صريح على عدم العصمة . لأن المعصوم بملكه الله نفسه كما ورد في الحديث (( إنه كان أملكم لأربه )) . وأيضاً مروى في دعاء الأمير (( اللهم أغفر لي ما تقربت به إليك ثم خالفه قلبي )) كذا أورده
-----------------------

( 1 ) أنظر الكلام على (( البداء )) في ص 16 و 21 .

الرضى في ( نهج البلاغة ) .

الدليل الثاني ( 1 ) : أن الإمام لابد من أن لا يرتكب الكفر قط ، لقوله تعالى ] لا ينال عهدي الظالمين [ والكافر ظالم لقوله تعالى ] والكافرون هو الظالمون [ ولقوله تعالى ] إن الشرك لظلم عظيم [ وغير الأمير من الصحابة كلهم كانوا عبدوا الأصنام في الجاهلية فيكون هو إماماً دون غيره .

ولا يذهب على العارف ان هذا الدليل – مع كونه ناقصاً ما مر – فاسدة بالمرة ، فلابد أن يغير بوجه آخر صحيح . وذلك أن يقال : لم يكن أحد من الصحابة غير الأمير مؤمناً من بدء التكليف ، وكل إمام يجب أن يكون مؤمناً كذلك . والقياس الآخر : إن الأمير كان مؤمناً كذلك ، وكل من يكون مؤمناً كذلك فهو إمام ، ويجاب عن الأول بمنع الكبرى ، وسنده الإجماع على عدم الاشتراط في الإمامة بهذا الشرط ، وعن الثاني بالنقض لأنه يلزم منه أن يكون كل من هو كذلك من آحاد الأمة إماماً ، ولا أقل من لزوم إمامة نحو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، لا يقال أشتراط العصمة يدفعه لأنا نقول إن ذلك الاشتراط بعد تسليمه لا يعتبر في هذا الدليل فالتعدد باطل ، بل الثاني يصير حشواً محضاً أولاً فالانتقاض ضرورى لا مرد له .

وقال المؤلف : وأجيب بان هذا الشرط لم يذكره في بحث الإمامة أحد من اهل السنة والشيعة ، ولكن خرط الشيعة هذا الشرط حين عمدوا إلى نفي الخلافة عن الخلفاء الثلاثة ، ولهذا لم يذكر في آية ولا حديث ، بل من اسلم بعد كفره مائة سنة ومن كان مسلماً من سبعين بطناً متساويان في الدين والإسلام ، ولم يعتبر هذا الشرط فإنه لغو وحشو ، والتمسك بآية ] لا ينال عهدي الظالمين [ ههنا ليس إلا من المغالطة ، إذ مفاد الاية أن الرياسة الشرعية لا تنال الظالم ، لأن العدالة في جميع المناصب الشرعية – من الإمامة الكبرى والقضاء والاحتساب والإمارة وغيرها – شرط لتحقيق فائدة ذلك المنصب ، ونصب الظالم في أى رياسة موجب لفسادها ، فبين الكفر والظلم والإمامة منافاة ، ولا يجتمع التنافيان في وقت واحد في ذات أصلاً ، وهذا هو مذهب جميع أهل السنة أن الإمام لابد أن يكون وقت الإمامة مسلماً عادلاً ، لا أنه لم يكن قبل الإمامة كافراً وظالماً ، ومن كفر أو ظلم ثم تاب عنه من بعد ذلك واصلح فلا يصح أن يطلق عليه أنه كافر أو ظالم أصلاً في لغة وعرف وشرع ، إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفي غيره مجاز ، ولا تكون المجاز أيضاً مطروداً بل حيث يكون متعارفاً ينبغي أن يطلق هنالك ، كما تقرر في محله ان المجاز لا يطرد وإلا لجاز (( نخلة )) لطويل غير الإنسان ،
 ---------------------

( 1 ) أي من أدلتهم العقلية .

و (( صبي )) لشيخ ، وهي سفسطة قبيحة ، كذا النائم للمستيقظ والفقير للغني والجائع للشبعان والحي للميت وبالعكس . وقد روى الزاهدي في حديث طويل أن أبا بكر قال للنبي r بمحضر من المهاجرين والأنصار (( وعيشك يا رسول الله ، إني لم اسجد للصم قط ، فنزل جبريل وقال : صدق أبو بكر )) وكذلك ذكر أهل السير والتواريخ في أحوال أبي بكر أنه لم يسجد لصم قط ، فصحت إمامته بملاحظة هذا الشرط أيضاً وصارت إجماعاً والحمد لله .

الدليل الثالث ( 1 ) : أن الإمام لابد أن يكون منصوصاً عليه ، ولا يوجد نص في غير الأمير ، فغيره لا يكون إماماً بل هو الإمام .

والجواب بعد أن نذكر ما اسلفنا في تصحيح الدليل الأول من عكس الترتيب وضم قياس آخر معه ان المقدمتين ممنوعتان : أما منع الصغرى فلما مر من قول الأمير : إنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن أختاروا رجلاً وسموه إماماً كان لله رضا . وأما منع الكبرى فلأنه لو وجد النص في علي ، فأما في القرآن أو الحديث فقد مر الأمران جميعاً . ولأنه لو وجد النص لكان ماتواتراً إذ لا عبرة للأحاد في الأصول ، ولا أقل من أن يعرفه أهل بيته ، وهم قد انكروه ( 2) ، ولآنه لو وجد النص في الإمام لوجد في كل الأئمة ، وقد أختلف أولاد كل إمام بعد موته في دعوى الإمامة ، ولأنه لو وجد النص لما وقع الاختلاف بينهم ، ولأنه لو وجد النص فإما أن يبلغه النبي r إلى عدد التواتر أو لا ، وعلى الأول إما أن يكتموه عند الحاجة إلى إظهاره أو يظهروه ، ولا سبيل إلى الثاني بالإجماع ، والأول يرفع الأمان عن التواتر ويستلزم كذب المتواترات ، وإن لم يبلغه النبي r إلى عدد التواتر لم تلزم الحجة فيه على المكلفين فتنتفى فائدة النص ، بل يلزم ترك التبليغ في حق النبي وهو محال .

الدليل الرابع : أن الأمير كان متظلماً ومتشكياً من الخلفاء الثلاثة دائماً في حياته ، وبين أنه مظلوم ومقهور ، وما ذاك إلا لغضب الإمامة منه ( 3 ) فتكون الإمامة حقه دون غيره ، إذ الأمير صادق بالإجماع .

وانت تعلم ان هذا الدليل غير مذكور بتمامه ، فإن كبراه مطوية وهي (( وكل من كان كذلك فهو إمام )) فيلوم من بعد تسليمه أن يكون كل ما أوذوا وظلموا حقيقة أئمة ، وهذا خلف ، واعتبار القيود الآخر يبطل التعدد ويجعله حشواً .

 

---------------------------

( 1 ) أي من الدلائل العقلية التي يستدل بها الشيعة .

( 2 ) كما تقدم النقل في ص 161 عن الحسن المثني ابن الحسن السبط رضوان الله عليهما .

( 3 ) أي فيما يزعمه الشيعة وتدعى أنه من أدلتها على ما تذهب إليه .

وأجيب عن هذا الدليل بمنع صحة تلك الروايات ، لأن أهل السنة لم يثبت عندهم إلا روايات الموافقة ، والمناصحة ، والثناء بالجميل ، ودعاء الخير فيما بينهم ، والمعاونة والإمداد ونحوها . وأكثر روايات الإمامية في هذا الباب موافقة لروايات كما تقدم نقله عن الأمير في نهج البلاغة في قصة عمر ، ومن ثنائه عليهم بالخير في حياتهم وبعد موتهم ، وارتضائه بأعمالهم وشهادته لهم بالنجاة والفوز . وروايات أهل السنة في هذا الباب أكثر من أن يحصى . ولنذكر منها هنا رواية واحدة رواها الحافظ ابو سعيد ابن السمان في ( كتاب الموافقة ) وغيره من المحدثين عن محمد بن عقيل بن أبي طالب أنه لما قبض أبو بكر الصديق وسجى عليه أرتجت المدينة بالبكاء ، كيوم قبض رسول الله r ، فجاء علي باكياً مسترجعاً وهو يقول (( اليوم أنقطعت خلافة النبوة )) فوقف على باب البيت الذى فيه أبو بكر مسجي فقال (( رحمك الله أبا بكر ، كنت إلف رسول الله وأنيسه ومستروحه وثقته وموضع سره ومشاورته ، كنت أول قومه إسلاماً وأخلصهم إيماناً ، وأشدهم يقيناً ، وأخوفهم لله ، وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل ، أحوطهم لرسول الله وأشفقهم عليه ، وأخد بهم الإسلام ، وأمنهم على أصحابه ، وأحبهم صحبة ، وأكثرهم مناقب ، وأفضلهم سوابق ، وأرفعهم درجة ، وأشبههم برسول الله r هدياً وسمتاً ورحمة وفضلاً وخلقاً ، وأشرفهم عنده منزلة ، أكرمهم عليه ، وأوثقهم عنده . جزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيراً . كنت عنده بمنزلة السمع والبصر ، صدقت رسول الله حين كذبه الناس فسماك الله في تنزيله صديقاً فقال عز وجل ] والذى جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون [ فالذى جاء بالصدق محمد r ، وصدق أبو بكر . وأسيته حين بخلوا ، وقمت معه عند المكاره حين عنه قعدوا وصحبته في الشدة أحسن الصحبة ثاني الاثنين وصاحبه في الغار والمنزل عليه السكينة ورفيقه في الهجرة وخليفته في دين الله عز وجل . أحسنت الخلافة حين ارتد الناس وقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي . نهضت حين وهن أصحابك وبرزت حين استكانوا وقويت حين ضعفوا ولزمت منهاج رسول الله r في أصحابه إذ كنت خليفته حقاً ولم تنازع ولم تقذع برغم المنافقين وكيد الكافرين وكره الحاسدين وضغن الفاسقين وزيغ الباغين قمت بالأمر حين فشلوا ونظفت حين تعتعوا ومضيت نفوذاً إذ وقفوا فاتبعوك فهدوا وكنت أخفضهم صوتاً وأعلاهم قوة وأقلهم كلاماً وأصوبهم منطقاً وأطولهم صمتا وأبلغهم قولاً وأكبرهم رأياً وأشجعهم وأعرفهم بالأمور وأشرفهم عملاً . كنت والله للدين يعسوبا حين نفر الناس عنه وآخراً حين فشلوا .

كنت للمؤمنين أباً رحيماً إذ صاروا عليك عيالاً تحملت أثقال ما ضعفوا عنه ورعيت ما أهملوه وحفظت ما أضاعوا وعلوت إذ هلعوا وصبرت إذ جزعوا وأدركت أوطار ما طلبوا ورجوا . أرشدتهم برأيك فظفروا ونالوا بك ما لم يحتسبوا وجليت عنهم فأبصروا . كنت على الكافرين عذاباً واصباً وللمؤمنين رحمة وأنساً وخصباً فطرت والله بعبابها وفزت بجنابها وذهت بفضائلها وأدركت سوابقها لم تفلل حجتك ولم نضعف بصيرتك ولم تجبن نفسك ولم يزغ قلبك كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف . كنت كما قال رسول الله r : أمن الناس عليه في صحبتك وذات بلدك . وكما قال : ضعيفاً في بدنك قوياً في أمر الله متواضعاً في نفسك عظيماً عند الله جليلاً في أعين المؤمنين كبيراً في أنفسهم لم يكن لأحد فيك مغمز ولا لقائل فيك مهمز ولا لأحد فيك مطمع . الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه والقوي العزيز عندك ضعيف حتى تأخذ منه الحق . والقريب والبعيد عندك سواء . أقرب الناس إليك أطوعهم لله وأتقاهم له شأنك الحق والصدق والرفق وقولك حكم وجزم وأمرك حلم وحزم ورأيك علم وعزم حتى بلغت والله بهم السبيل وسهلت العسير وأطفأت النيران واعتدل بك الدين وقوي الإيمان وثبت الإسلام والمسلمون وظهر أمر الله ووكره الكافرون ، فسبقت والله سبقاً بعيداً وأتعبت من بعدك إتعاباً شديداً وفزت بالخير فوزاً مبيناً فجللت عن البكاء وعظمت رزيتك وهدت مصيبتك الأنام فإنا لله وإنا إليه راجعون )) . وهذه خطبة واحدة من الأمير في مدح أبي بكر ولو أحصينا جميع خطب الأمير وكلماته في فضائل أبي بكر وعمر ومدحهما المروية في كتب أهل السنة بالطرق الصحيحة لبلغت مفرداً كنهج البلاغة بل أطول منه .

فإن قلت إن روايات الشيعة في باب تظلم الأمير وشكايته إن كانت كلها موضوعة من رؤسائهم فإن مما يستبعده العقل أن جمعاً كثيراً اجتمعوا على الافتراء على الأمير فلا بد من منشأ للغلط فذلك المنشأ ما هو ؟ قلت : إن رواتهم كما كذبوا على الأئمة كانوا يكذبونهم كما ورد ذلك عنهم فيما تقدم ، وكذبوا عليهم أيضاً في المطاعن على الصحابة . وغاية ما في الباب أن مكذبات تلك الروايات وصلت إلى الشيعة أيضاً بطرقهم الأخر ومكذبات روايات المطاعن على الصحابة ما وصلت من طرق الشيعة إليهم أو وصلت ولم يفهموا منها للتكذيب الصريح لتلك الروايات كما نقل من الصحيفة الكاملة ونهج البلاغة ولما اجتمعت فرق الشيعة على بغض الصحابة واعتقاد السوء في حقهم لم يرووا ما يكذب تلك الروايات ولم يظهروه بل قصدوا تأييد كذب أوائلهم حيث صار هذا التأييد أهم المطلوب عندهم فمن ثمة صار هذا الكذب إجماعياً لهؤلاء الفرق وأما الأكاذيب الأخر التي في العقائد الإلهية فرواها بعضهم وكذبها بعضهم .

الدليل الخامس : أن الأمير ادعى الإمامة وأظهر المعجزة على وفق دعواه كقلع باب خيبر وحمل الصخرة العظيمة ومحاربة الجن ورد الشمس بعد غروبها فكان في دعواه صادقاً فكان إماماً (1) .

وهذا الطريق في تقرير الكلام مأخوذ من استدلال أهل السنة في إثبات نبوته r ولكن بينهما مشابهة في صورة الكلام دون صحة المقدمات فإنها ممنوعة منعاً ظاهراً أما أولاً فلأن ذكر المعجزة في إثبات الإمامة إنما هو خطأ محض فكيف يسلم ؟ إذ المعجزة لإثبات النبوة دون الإمامة وغيرها من المناصب الشرعية كالقضاء والإفتاء والاجتهاد وسلطنة الناحية وإمارة العسكر والوزارة وأمثالها . ووجهه أن بعثة النبي r لما كانت من قبل الله تعالى بلا واسطة لم يمكن إثبات نبوته بدون تصديق الله تعالى بخلق المعجزة على يده حين التحدي بخلاف هذه المناصب فإنها تثبت بقول النبي أو بتفويضها إلى الأمة وأيضاً دلالة المعجزة منحصرة في حق الأنبياء عليهم السلام فلو استدل أحد من غيرهم بها لم يكن استدلاله معتبراً في الشرع . ولما كانت الإمامة متعينة بتعيين النبي أو باختيار أهل الحل والعقد لم يجز أن تكون المعجزة دليلاً عليها على أن روايات الإمامية مكذوبة لقول من يقول بادعاء الأمير للإمامة في خلافة الخلفاء الثلاثة وكذلك ما يقولون من وجوب التقية ومن أن الرسول أوصى الأمير بالسكوت كما تقدم وظهور خوارق العادات والكرامات من الأمير مسلم الثبوت ولكن ليس ذلك مخصوصاً فيه لصدور مثل ذلك من الخلفاء الثلاثة والصحابة الآخرين وصلحاء الأمة أيضاً على أن قلعة لباب خيبر وقع في زمن النبي r وإظهار المعجزة قبل الدعوى غير محتاج إليه ولا تثبت به الدعوى . ومحاربة الجن لا أثر لها في كتب أهل السنة بل هي مروية بمحض رواية الشيعة هكذا : إن النبي r لما خرج إلى غزوة بني المصطلق أخبره جبريل في أثناء الطريق بأن الجن اجتمعت في البئر الفلانية وتريد أن تكيد لعسكركم فأرسل النبي الأمير عليهم فقتلهم ! فلو صحت هذه الرواية يكون ذلك من معجزات النبي r وكذا رفع الصخرة العظيمة ليس موجوداً في كتب الشيعة أن الأمير لما توجه إلى صفين عطش يوماً أصحابه في أثناء المرور بفقد الماء فأمر الأمير بأن يحفروا موضعاً قرب صومعة راهب فظهرت في أثناء الحفر صخرة عظيمة عجزوا عن نقلها فأخبروا بها الأمير فنزل فرفعها من هنالك ورماها إلى مسافة بعيدة وظهرت تلك الصخرة عين الماء فشرب أهل العسكر فلما شاهد راهب تلك الصومعة هذا الأمر أسلم وقال : نحن وجدنا في الكتب القديمة أن رجلاً كذا وكذا ينزل
-----------------------

( 1 ) هذه الخوارق المنسوبة إلى أمير المؤمنين قد نبه حفاظ الحديث على ضعفها ووضعها منهم السخاوي في المقاصد وملا على القارى في موضوعاته لذلك لا يصح الاستدلال بها وأمير المؤمنين أهل لكل كرامة ولكن صحة الروايات ضرورية لقبول الأخبار .

 

قرب هذا الدير ويرفع هذه الصخرة ويكون على الدين الحق . وبالجملة إن ثبتت هذه الكرامة تكون كسائر كراماته t ، وليست دعوى الإمامة مذكورة هنا ، ولم تقع هذه القصة في مقابلة أهل الشام أيضاً . وأما رد الشمس فأكثر محدثي أهل السنة كالطحاوي وغيره صححوه وعدوه من معجزات النبي بلا شبهه إذ أرجع الشمس بعد غروبها ليحصل وقت صلاة العصر للأمير بدعاء النبي r ، ولتكون صلاته أداء . وأين كانت في ذلك دعوى الإمامة ؟ ومن كان حينئذ منكراً ومقابلاً له ( 1 ) ! .

          الدليل السادس أن الشيعة قالوا : ما روى أحد من الموافق والمخالف ما يوجب الطعن والقدح في الأمير ، بخلاف الخلفاء الثلاثة فإن الموافق والمخالف رويا القوادح الكثيرة في حقهم بحيث يسلب أستحقاق الإمامة عنهم ، فالأمير الذى هو سالم عن قوادح الإمامة يكون متعيناً لها .

          ولا يخفى أن هذا الدليل – على ما بيناه في تصحيح دلائلهم سابقاً – ليس على ما ينبغي من طريق القياس الذى يستدل به على المطلوب ، فإن ما ذكره المدعى ههنا إنما هو بيان لإثبات الصغرى في كلا القياسين اللذين يستدل بمجموعهما على المطلوب ، وهما هذا : أن كلاً من الخلفاء الثلاثة دون الأمير مقدوح فيه ومطعون عليه بما يسلب عنهم استحقاق الإمامة ، وكل من كان كذلك فليس إماماً ، والأمير سالم من ذلك ، وكل من كان كذلك فهو إمام ، لأن كلاً من الموافق والمخالف روى في حقهم ولم يروا في حقه القوادح الموجبة لسلب استحقاق الإمامة . ويجاب بأنا لا نسلم السلامة من القوادح ، ولا الطعن بها ، في حقه وحقهم مطلقاً ، ولا رواية الموافق تلك القوادح ايضاً ، ولا سلب ماروى المخالف الاستحقاق عنهم ، ولا كونها حقه ، وكل ذلك ممنوع منعاً ظاهراً ، لأن الخلفاء الثلاثة كما روى المخالفون ( وهم الشيعة وإخوانهم ، لا الموافقون الذين هم أهل السنة وامثالهم ) القوادح الباطلة في حقهم ، كذلك رواها في حق الأمير مخالفوه من الخوارج وغيرهم دون من يوافقونه من أهل السنة والشيعة ، فلا سلامة ولا قدح من كل وجه ، ولا ضير بالقوادح الباطلة من المخالف في الجانبين ، فقد تبين أن حالة كحالهم مطلقاً . وأما كبرى القياسين فالأولى منقوضة بالأنبياء  عليهم السلام لأنهم قد قدح فيهم وطعن عليهم المبطلون ، وكل ما يمنع تحقق العالم يمنع تحصل الخاص بالضرورة . والأخرى بمن سلم منها باتفاق الفريقين كابن عباس وأبي ذر وعمار وأمثالهم ، وإذا دريت هذا فأنظر أن الذين قالوا
---------------------------

( 1 ) الظاهر في مسألة رد الشمس أن الشيعة سمعوا من علماء أهل السنة أحتجاجهم بأن ذلك في زمن النبي r يعد من المعجزات المحمدية ، فتمادوا بعد ذلك في أختراع أن الشمس ردت لعلي مرتين . ولما كان الإمام ابن حزم يناظر الرهبان الاسبانيين في صحة الاناجيل أحتجوا عليه بأن الشيعة يطعنون في صحة القرآن ، فروى في كتابه ( الفصل في الملل والنحل ) ج 2 ص 78 طبعة 1321 أنه قال لهم : (( إن الروافض ليسوا من المسلمين ، وأقلهم غلوا يقولون إن الشمس ردت على علي بن أبي طالب مرتين ، فقوم هذا أقل مراتبهم في الكذب ، أيستشفع منهم كذب يأتون به ؟ ! ))

بامامة الخلفاء الثلاثة وهم اهل السنة والمعتزلة لم يرووا من قوادحهم قط ، بل قرر الشيعة بسبب بغضهم وعنادهم للخلفاء الثلاثة بعض الشياء بطريق المطاعن والقوادح ، ليست تلك الأشياء في الحقيقة محلاً لطعن وقدح أصلاً كما سيأتي في المطاعن ، ولو كانت محلاً لها لكانت على الأنبياء والأئمة أيضاً مطاعن ، بل من يطالع كتب الشيعة بالتأمل يجدها مملوءة بالمطاعن في الأنبياء والأئمة ، وما قالوا من أن أحداً من الموافق والمخالف لم يروا ما يقدح في حق الأمير فحبط آخر ، لأنهم إن أرادوا بالمخالف أهل السنة فلا يجدى لهم نفعاً ، فإن أهل السنة لما كانوا معتقدين بصحة إمامته لم يروا قوادحه ، وإن أرادوا به الخوارج وأمثالهم فكذب صريح فإنهم قد سودا الدفاتر الطويلة والزبر الكثيرة في هذا الباب ( 1 ) ، ومن جملة من ذكر المطاعن الأمير عبد الحميد المغربي الناصبي في كتابه ، وقد دفع كثيراً منها ابن حزم من علماء أهل السنة في كتابه ( الفصل ) والشريف من علماء الشيعة في ( تنزيه الأنبياء والأئمة ) وأعرضنا عن ذكر تلك المطاعن عنها لأن ذكرها مما لا يليق بنا في هذا الكتاب .

          تتمة لبحث الإمامة : أعلم أن القدر المشترك في جميع فرق الشيعة المجمع عليه بينهم إنما هو كون الأمير t إماماً بلا فصل ، وإمامة الخلفاء الثلاثة باطلة ولا أصل لها . وقد تبين باوضح البيان إبطال أهل السنة عليهم هذا القدر المشترك ، وأتضح حق الأتضاح مخالفة هؤلاء الفرق كلهم في ذلك القدر بجميع وجوهه لنصوص الكتاب المجيد وأقوال العترة الطاهرة . وأما بعد هذا القدر المشترك فلهم أختلاف كثير فيما بينهم بحيث أن بعضهم يضللون ويكفرون ويبطلون بعضاً آخرين ويشنعون عليهم ، وكفى الله المؤمنين القتال ، فقد سقط عن أهل السنة عبء تلك المجادلة الباطلة فلا حاجة بذكر الاختلافات في هذا الكتاب الذى الف لما بين أهل السنة والشيعة خاصة .

ولنذكر قليلاً من أقوالهم في شروط الإمامة ومعناها وتعيين الأئمة وعددهم تنبيهاً على ان كثرة الاختلاف في شئ دليل على كذبه ، ليتقلب عليهم طعنهم الوارد منهم على أهل السنة باختلاف الفروع ، لأن أختلافهم في الأصول ، وظاهر أن أديان الأنبياء السابقين كانت مختلفة في الفروع فقط ومتفقة في الأصول كما قال الله تعالى ] شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً [ الآية . فالدين الذى تكون أصوله مختلفاً فيها هو أعجب الأديان بال هو باطل كملة الكفر إذ هو حينئذ لا يشبه بدين من أديان الأنبياء الماضيين فضلاً عن دين الإسلام .

 

-----------------------------------

( 1 ) ولا سيما في مراثيهم لقتلى النهروان . والخوارج كانوا اصحاب علي وجنده في صفين والجمل .

ثم لا يخفى ان معنى الإمامة عند الغلاة ( 1 ) محض الحكومة وإجراء الأحكام والأوامر والنواهي وشان من شئون الألوهية ، وعند غيرهم معناها نيابة عن النبي ، في امور الدين والدنيا . والزيدية  قاطبة لا يشترطون العصمة في الإمامة ، ولا يحسبون النص في حقه ضرورياً ايضاً ، بل الأفضلية عندهم لازمة ايضاً ، وإنما معنى الإمامة عندهم الخروج بالسيف ، ويعتقدون الإظهار من عمدة شرائط الإمامة . والإسماعيلية – إلا النزارية – يشترطون العصمة ، وأما النزارية فهم لا يثبتونها بل يقولون : إن الإمام غير مكلف بالفروع ، ويجوز له كل ما اراد من السوء والفحشاء كاللواطة والزنا وشرب الخمر ونحوها . ونقل شيخ الطائفة ( 2 ) أبو جعفر الطوسي في ( التهذيب ( 3 ) ) عن شيخه الملقب بالمفيد أنه قال : إن أبا الحسين الهاروني كان اولاً شيعياً قائلاً بالإمامة ثم لما ألتبس عليه امر التشيع بسبب كثرة اختلاف الإمامية ، ووجد أخبارهم متناقضة متعارضة بغاية الكثرة والشدة رجع عنه وصار شافعياً ومن كانوا استفادوا وتلمذوا منه في مدة عمره هذه اتبعوه في الرجوع وتبرأوا من المذهب . والحق أن من تأمل في هذا المذهب تاملاً صادقاً وعثر على أخبار أصحابه واختلاف أقوالهم كا ينبغي فقد علم باليقين ان سبيل النجاة في هذا المذهب مسدود ، وطريق الخلاص من مضيق التعارض فيه مفقود ، فبالضرورة يتركه ويرجع إلى المذاهب الأخرى إن كان من أهل الحق . وتفصيل ذلك أن الشيعة لهم روايات كثيرة متعارضة عن أئمتهم ، بحيث يررون عن كل إمام كلاماً مخالفاً للإمام الآخر ومخالفاً لكتاب الله وسنة رسوله ، واحتمال النسخ هنا منتف البتة ، إذ ناسخ كلام النبي لا يكون إلا نبياً آخر ، ولا يجوز للإمام أن ينسخ أحكاماً إلهية أو سنن النبي ، وإلا فالإمام لا يكون إماماً ، إذ الظاهر أن الإمام نائب لا مخالف له ولا نبي مستقل . وأيضاً لو قلنا بالنسخ لقلنا بالضرورة : إن الإمام المتأخر ناسخ لكلام الإمام المتقدم ، فصار لو قلنا بالنسخ لقلنا بالضرورة : إن الإمام المتأخر ناسخ لكلام المتقدم ، فصار مدار العمل على روايات الإمام المتأخر مع أن هؤلاء الفرقة قد أجمعوا في كثير من المواضع على العمل بروايات المتقدم . وأيضاً يمتنع النسخ في الأحكام

-----------------------------

( 1 ) نبه المامقاني في غير موضع من كتابه ( تنقيح المقال في أحوال الرجال ) وهو أعظم كتب الشيعة في الحرج والتعديل على ان الذين كان قدماء الشيعة بأنهم من غلاة الشيعة ويجرحون رواياتهم بسبب ذلك وصاروا يعدون الآن عند الشيعة المتأخرين بانهم غير غلاة ، لأن ما كان يسميه قدماء الشيعة غلواً في التشيع هو الآن من اصول العقيدة الإمامية ، والشيعة في العصور المتأخرة كلهم على عقيدة الغلو ، وليس لهم عقيدة غيرها : لذلك ذهب المامقاني إلى ضرورة العدول عن جرح روايات الذين كانوا يعدون غلاة ، وافتى بوجوب تعديلهم ، لأن التشيع نفسه تطور وصار أهله الآن كلهم على مذهب الغلاة القدماء .

( 2 ) أي الطائفة الأثني عشرية .

( 3 ) كتاب ( التهذيب ) احد الكتب الأربعة التى عليها مدار مذهب الشيعة . وهذه العبارة بشأن أبي الحسين الهاروني في خطبة كتاب التهذيب مع الإسهاب في الاعتراف بأن الشيعة أشد الفرق أختلافاً في مسالئلهم وأحكامهم وأن ذلك دليل على فساد الأصل .

المؤبدة ايضاً فزال أحتمال الناسخ بالكلية . ووجوه ترجيح أحد الخبرين على الأخر لتوثيق رواتهم مطلقاً مسدودة ، لأن عدة كتب في مذهبهم قرروها كالوحي المنزل من السماء وما أتى به أحد يحسبه الآخر من تراب الأرض ، فلو وثقناهما كلها بزعم علمائهم لا يمكن ترجيح بعضها على بعض ، وإذا قلنا ما قال بعض الإخباريين في حق بعضهم وشرعنا في الطعن والجرح عليهم بناء على قولهم يصيرون كلهم مطعونين ومجروحين فلم يظهر سبيل للترجيح اصلاً ، فبالضرورة لزم تساقط رواياتهم ، انجز الأمر إلى تعطيل الاحكام . وهذه كلها في روايات فرقة واحدة منهم كالأثني عشرية مثلاً ، إذ كل عالم منهم يروى مخالفاً لرواية الآخر ، مثلاً جمع منهم رووا باسانيد صحيحة أن المدى لا ينقص الوضوء ، وجمع أخرون رووا كذلك أنه ينقض الوضوء . وجماعة روت ان سجدة السهو لا تجب في الصلاة  وجماعة روت أنها تجب فيها ، والأئمة أيضاًُ سجدوا للسهو . وبعضهم يروون أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء ، وبعضهم يروون أنه لا ينقضه وجمع يروون أن المصلي إن لعب عبث بلحيته أو بأعضائه الآخر لا تفسد صلاته ، وجمع يرون أن المصلي أن يلعب بخصيتيه وذكره تجز صلاته . وهذه الأحوال توجد في جميع اخبارهم كما يشهد بذلك كتاب الفقيه . ومن تصدى من علمائهم للجمع بين الروايات فقد أتى باعمال عجيبة ، وقد قدموا في هذا الآمر شيخ طائفتهم صاحب التهذيب ( 1 ) وغاية سعيه هو الحمل على التقية ، وقد حمل في بعض المواضع على التقية شيئاً ليس ذلك مذهب أحد من المخالفين أو كان مذهباً ضعيفاً بأن المخالفين لم يذهبوا إليه إلا احد أو أثنان أختاروه ، وظاهر أن الأئمة العظام لم يكونوا جبانين خائفين بهذا القدر حتى يبطلوا عباداتهم بتوهم أنه لعل أحداً أختار هذا المذهب ويكون حاضراً في هذا الوقت ، معاذ الله من سوء الاعتقاد في جناب الأئمة ! وفي بعض المواضع حمل جملة من الخبر على التقية ، وترك مدلول الجملة الثانية منه الذى هو مخالف لمذهب أهل السنة على حاله ، ولو كانت التقية فلا معني في أختيار التقية في جملة غير مخالفة ، والإظهار في جملة أخرى هي مخالفة لمذهب اهل السنة ، فهل هم يعتقدون أن الأئمة كانوا – معاذ الله – براء من العقل والفهم ؟ مثاله خبر علي t أن النبي r امره بغسل الوجه مرتين وبتخليل أصابع الرجلين حين غسلهما ، مع أن غسل الوجه مرتين مذهب الشيعة لا مذهب اهل السنة فإنهم قد اجمعوا على كون التثليث مسنوناً فلزم الجمع بين الإظهار والتقية ! وقد ارتكب في بعض المحال تأويلات ركيكة بحيث اسقط كلام الإمام عن علو مرتبة البلاغة فمن تاويلهم لكلام السجاد الوارد عنه في
--------------------------

( 1 ) هو محمد بن حسن الطوسي المتوفي سنة 381 ، وتقدم ان ( التهذيب ) أحد الكتب الأربعة التى عليها مدار مذهبهم ، وهو نفسه مؤلف كتاب ( من لا يحضره الفقيه ) أراد أن يكون في الفقيه للشيعة ككتاب ( من لا يحضره الطبيب ) في الطب لمحمد بن زكريا الرازي .

 

دعائه أنه قال (( إلهي عصيت وظلمت وتوانيت )) وهذا الدعاء عن الأئمة الآخرين أيضاً في كتبهم الصحيحة ، وعلى كل من تقديري الصدق والكذب هو مناف للعصمة ، وليس المحل محل التقية إذ حالة المناجاة لا تسعها وهم يقولون : إن مراد الأئمة أن شيعتنا عصوا وظلموا وتوانوا ولكن رضينا بهم شيعة ورضوا بنا ائمة فحالنا حالهم وحالهم حالنا ! سبحان الله ، لو ثبت هذا الاتحاد في الأحوال بين الشيعة والأئمة كيف سرى عصيان الشيعة وظلمهم وتوانيهم في نفوس الأئمة ولم تسر طاعة الأئمة وعدلهم وعباداتهم في ذوات الشيعة ؟ فحينئذ يلزم أن تغلب أحوال الشيعة على أحوال الأئمة وهي صارت مغلوبة ، بل يلزم في ذوات الأئمة على هذا التقدير أجتماع أمور متناقضة كالفسق والصلاح والعصمة والمعصية والظلم والعدل ، ولا يمكن ان تحمل أحوال الشيعة في حق الأئمة بالمجاز فإنه يمتنع في مثل هذه الأدعية التى يكون الحقيقة فيا من الكلام مقصودة كما هو الأظهر معاذ الله من سوء الاعتقاد ! ولم يوجد قط في محاورة العرب والعجم نظير لنحو هذه التأويلات أصلاً. وما يلزم – باعتبار علم الإعراب – من ركاكة الألفاظ ههنا غير خاف كحمل ضمير المتكلم الواحد على جمع الغائب وصيغة المتكلم على الغيبة . وباعتبار فن البلاغة من قباحة المعاني كإضافة المتكلم فعل الغير إلى نفسه من غير علاقة صارفة إلى المجاز من السبية والأمرية والمحلية والحالية وغير ذلك مما ذكر في موضعه ، ومع ذلك ينسبون مثل هذا الكلام الفاسد إلى من بلغ الدرجة العليا من البلاغة . وما الذي يحمل الأئمة على أن ينسبوا ظلم شيعتهم وعصيانهم إلى أنفسهم فيلوثوا أذيالهم الطاهرة بتلك النسبة حتى جعلوا لمنكري عصمتهم سنداً قوياً ن وأضلوا جمعاً كثيراً من الأمة بتلك الكلمات التي لم تكن ضرورية لهم حاشاهم ثم حاشاهم . وأيضاً الأظهر والأجلى أن المسائل الفروعية قد وقعت فيها اختلافات القرون الأولى ولأهل السنة أيضاً اختلافات فيما بينهم ولا يحسبونها في الفروع نقصاناً للمختلفين فيها ولا يطاعنون ولا يعاتب فيها بعضهم بعضاً وكان كل واحد منهم في الزمن الأول يناظر ويحاجج في الفروع ويظهر مذهبه فيها ويقيم الدلائل عليه ويستنبط ويجتهد بلا مخافة ويضعف دلائل مخالفة جهراً فأي شيء كان حاملاً للأئمة على التقية في مسائل الفروع ؟ ولقد ناظر الأمير في زمن الخليفة الثاني والثالث مناظرات كثيرة في بيع أمهات الأولاد وتمتع الحج ومسائل أخر حتى انجر الأمر من الجانبين إلى العنف ولم يتنفس أحد منهم ولا سيما الخليفة الثاني فإنه كان بزعم الشيعة في هذا الباب أكثر انقياداً بحيث إذا ذكر أحد دليلاً من الكتاب أو السنة بين يديه اعترف حتى ألزمته امرأة من نساء العوام في المغالاة بالمهر وهو صار معترفاً وقائلاً (( كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال )) وعد الشيعة هذه القصة في مطاعنه فالأمير لم يكن ليستعمل التقية في المسائل الفروعية ويترك إظهار الحكم المنزل من الله الذي كان واجباً عليه إظهاره في ذلك الحين . وأيضاً إن الأئمة المتأخرين كالسجاد والباقر والصادق والكاظم والرضا رضي الله تعالى عنهم كانوا قدوة أهل السنة وأسوة لهم وعلماؤهم كالزهري وأبي حنيفة ومالك أخذوا العلم منهم وقد روى محدثو أهل السنة عنهم في كل فن لا سيما في التفسير أحاديث كثيرة فأي حاجة لهؤلاء الكرام أن يرتكبوا التقية مخافة هؤلاء الناس !؟ وهذا الكلام وقع في البين ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول :

اعلم أن الإمامية قائلون بانحصار الأئمة ولكنهم مختلفون في مقدارهم فقال بعضهم خمسة وبعضهم سبعة وبعضهم ثمانية وبعضهم اثنا عشر وبعضهم ثلاثة عشر وقالت الغلاة الأئمة آلهة أولهم محمد رسول الله r إلى الحسين ثم من صلح من أولاد الحسين إلى جعفر بن محمد وهو الإله الأصغر وخاتم الآلهة ثم من بعده نوابه وهم من صلح من أولاد جعفر وذهبت فرقة منهم إلى أن الإمام في هذه الأمة اثنان : محمد r وعلى ابن أبي طالب وغيرهما ممن كان لائقاً لهذا الأمر من أولاد علي فهم نوابهما وقالت الحلولية : إن الإمام من يحل فيه الإله وجرى بينهم اختلاف فقال الكيسانية : إن الإمام بعد النبي r علي ثم محمد بن الحنفية . وقالت المختارية منهم : إن الإمام بعد علي الحسن ثم الحسين ثم محمد بن الحنفية وكل فرقة من فرق الشيعة ينقلون عن إمامهم المزعوم أخباراً وروايات في أحكام الشريعة ويدعون تواترها : فالفرقة الأولى من الكيسانية تقول : إن محمد بن الحنيفة ادعى الإمامة بعد موت أبيه وقد نص أبوه على إمامته .

والفرقة الثانية أعني المختارية يقولون : إن ادعاء محمد بن علي للإمامة قد وقع بعد شهادة الإمام الحسين ، ويروون الخوارق الكثيرة على وفق دعواه . والإمامية قاطبة يقولون بادعاء محمد بن علي الإمامة بعد شهادة الحسين ولكن رجع في الآخر عن تلك الدعوى وأقر بإمامة ابن أخيه على بن الحسين رضي الله تعالى عنهم أجمعين . وروى الراوندى في ( معجزات السجاد ) عن الحسين بن أبي العلاء (1) وأبي المعزي حميد بن المثنى (2) جميعاً عن أبي بصير (3) عن أبي عبد الله u قال : جاء محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين فقال : يا علي ألست تقرأ أني إمام عليك ؟ فقال : يا عم لو علمت ذلك ما خالفتك وإن طاعتي عليك وعلى الخلق مفروضة يا عم أما علمت أن أبي وصى ؟ وتشاجرا ساعة فقال علي بن الحسين : بمن ترضى حتى يكون حكماً بيننا ؟ فقال محمد : بمن شئت . فقال : ترضى أن يكون بيننا الحجر الأسود !؟
-------------------------

( 1 ) هو أبو علي الحسين بن أبي العلاء ( واسم أبي العلاء خالد ) الخفاف الزندجي الأعور وهو أحد إخوة ثلاثة يشربون من مشرب واحد : الحسين وعلي وعبد الحميد ، والحسين هذا هو أوجههم له ترجمة في تنقيح المقال .

( 2 ) أبو المعزي حميد بن المثنى العجلي الصيرفي له ترجمة في تنقيح المقال .                    ( 3 ) انظر هامش ص 65 .

فقال : سبحان الله ! أدعوك إلى الناس وتدعوني إلى حجر لا يتكلم ؟! فقال علي : بلى يتكلم ، أما علمت أنه يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان وشفتان يشهد على من أتاه بالموافاة فندنو أنا وأنت فندعو الله عز وجل أن ينطقه سبحانه لنا أينا حجة الله على خلقه فانطلقا ووقفا عند مقام إبراهيم ودنيا من الحجر الأسود وقد كان محمد بن الحنفية قال : لئن لم يجبك إلى ما دعوتني إليه إنك إذن لمن الظالمين فقال علي لمحمد : تقدم يا عم إليه فإنك أسن مني . فقال محمد للحجر : أسألك بحرمة الله وحرمة رسوله وحرمة كل مؤمن إن كنت تعلم أني حجة الله على علي بن الحسين إلا ما نطقت بالحق فلم يجبه ثم قال محمد لعلي : تقدم فاسأله فتقدم علي فتكلم بكلام خفي ثم قال : أسألك بحرمة الله وحرمة رسوله وحرمة أمير المؤمنين علي وبحرمة الحسن والحسين وفاطمة بنت محمد إن كنت تعلم أني حجة الله على عمى إلا ما نطقت بذلك وتثبت له حتى يرجع عن رأيه . فقال الحجر بلسان عربي مبين : يا محمد بن علي اسمع وأطع لعلي بن الحسين لأنه حجة الله عليك وعلى جميع خلقه فقال ابن الحنفية عند ذلك : سمعت وأطعت وسلمت (1) .

والكيسانية يصدقون هذه الدعوى ولكنهم ينكرون شهادة الحجر بل يقولون بوقوع الشهادة على العكس فإن الحجر شهد بدعاء محمد بن الحنفية وأعترف علي بن الحسين بإمامته ويؤيدون ذلك بسكوت علي بن الحسين عن الإمامة بعد هذه الواقعة وشروع محمد ابن الحنفية بإرسال رسائله وكتبه إلى المختار وشيعة الكوفة الذين كانوا مشتغلين بقتال المروانية وكانوا يرسلون الهدايا والتحف والخمس إلى محمد بن علي لا إلى علي بن الحسين وما دعاهم علي بن الحسين إلى نفسه ( 2 ) وذكر القاضي نور الله التسترى في ( مجالس المؤمنين ) أن محمد بن الحنفية لما

----------------------

( 1 ) هذه الخرافة من مخترعات الخفاف الزندجي الأعور وزميله أبي المعزي وقد أرادا باختراعها أن يكذبا على التاريخ وعلى آل بيت الرسول صلى الله عليهم بأن هناك وصية بإمامة قبل زمن شيطان الطاق ، والحقيقة هي أن آل بيت رسول الله r لم يدعوا ذلك ولم يعرفوه ، ولكن شيطان الطاق أخترعه لهم . فقد نقل المامقاني في تنقيح المقال ( ج 1 ص 470 ) أن إمامهم الكشي نقل في ترجمة شيطان الطاق محمد بن علي أن هذا الشيطان قال : (( كنت عند أبي عبد الله ( يعني جعفراً الصادق ) فدخل زيد بن علي ( الإمام الذى يرجع إليه مذهب الزيدية في اليمن وهو عم جعفر الصادق ) فقال الإمام زيد لشيطان الطاق : يا محمد بن علي إماماً مفترض الطاعة معروفاً بعينه ؟ قال شيطان الطاق قلت : نعم ، أبوك أحدهم . قال له زيد : ويحك ، وما منعه أن يقول لي ؟ فوالله لقد كان يؤتي بالطعام الحار فيقعدني على فخده ويتناول البضعة فيبردها ثم يلقمنيها ، أفتراه كان يشفق علي من حر الطعام ولا يشفق على من حر النار ؟ ! قال شيطان الطاق : قلت كره أن يقول لك فتكفر فيجب عليك من الله الوعيد ، ولا يكون له فيك شفاعة ، فتركك مرجئاً لله فيه المسالة ، وله فيك الشفاعة )) وهكذا أخترع شيطان الطاق أكذوبة الإمامة التى صارت من أصول الديانة عند الشيعة ، وأتهم الإمام علياً زين العابدين بن الحسين بأنه كتم أساس الدين حتى عن أبنه الذى هو صفوة آل محمد ، كما أتهم ابنه الإمام زيداً بأنه لم يبلغ درجة أخس الروافض في قابليته للإيمان بإمامة أبيه . ولو أن غير الكشي من صناديد الشيعة روى هذا الخبر لشككنا في صحته ، ولكن الشيعة هم الذين يروونه ، ويعلنون فيه أن شيطان الطاق يزعم بوقاحته أنه يعرف عن والد الإمام زيد ما لا يعرفه الإمام زيد من والده مما يتعلق بأصل من أصول الدين عندهم . وليس هذا بكثير على شيطان الطاق الذى روى عنه الحافظ أنه قال في كتابه عن افمامة إن الله لم يقل ] ثاني اثنين إذ هما في الغار [ أنظر ( الفصل ) لابن حزم 4 : 181 .

( 2 ) وبهذا الخبر الثاني تعارض ما تقوله الكيسانية مع الذى تقوله الأثنا عشرية فسقطا جميعاً . والخبران مخترعان من رواة كذبة لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً .

مات أعتقد شيعته بإمامة أبنه أبي هاشم ، وكان عظيم القدر ، والشيعة متبعين له وأوصى محمد بن الحنفية بإمامته ، فقد علم صريحاً أن محمد بن الحنفية لم يرجع عن أعتقاده حتى فوض الإمامة إلى أولاده ( 1 ) وأيضاً نقل القاضي كتاب محمد بن الحنفية الذى كان أرسله إلى المختار وشيعته الكوفة بهذه العبارة : أيها المختار أذهب أنت من مكة إلى الكوفة وقل لشيعتنا أخرجوا وأطلبوا ثأر الإمام الحسين ، وخذ البيعة من أهل الكوفة . قالوا إن أكثر أهل الكوفة قد تولوا عن سليمان بعد إظهار المختار كتاب محمد ابن الحنفية ، فقال سليمان لشيعته : إن خرجتم من قبل محمد بن الحنفية فلا بأس به ، ولكن إمامي علي بن الحسين . أنتهى كلامه . ويدل بالصراحة ما نقله القاضي من الكتاب وقوله (( تولوا عن سليمان )) على أن محمد بن الحنفية لم يكن رجع عن أعتقاده . وايضاً نقل القاضي عن أبي المؤيد الخوارزمي الزيدي أن المختار أرسل إلى محمد بن الحنفية رءوس أمراء الشام مع كتاب الفتح وثلاثين ألف دينار إلى الإمام علي بن الحسين ، وقد صلى هو ركعتين شكراً على هذه الموهبة ، وأمر أن يعلقوا رءوس أهل الشام ، وقد منعه ابن الزبير من التعليق وأمر بدفنها فدفنوها . أنتهى كلامه . فقد تبين أن المختار كان معتقداً بإمامة محمد بن علي ، ولا يحمل اعتقاده على التقية إذ لا ضرورة له عليها . وينبغي أن يستمع الآن كلام القاضي نور الله الآخر ، ويفهم منه المدعي ، فإنه نقل في أحوال المختار عن العلامة الحلي ( 2 ) انه قال لا كلام للشيعة في حسن عقيدته ، غاية الأمر أنهم كانوا يعترضون على بعض أعماله ويذكرونه بالسوء فاطلع الإمام الباقر على ذلك فمنع الشيعة من التعرض للمختار وقال : (( إنه قتل قتلتنا ، وأرسل نقوداً كثيرة )) فلابد للعاقل أن يتأمل ههنا إذ يعلم من هذا الكلام أن إنكار إمامة إمام الوقت لا يكون سبباً للسب والشتم في حق ذلك المنكر ( 3 ) .

 

-------------------------

( 1 ) محمد بن الحنفية كان أعقل وأتقى لله من أن يدخل نفسه في هذه الفتن التى صرح هو بانها تخالف الشرع عند ما دعاه ابن مطيع في المدينة إلى أقل من ذلك ( أنظر البداية والنهاية للحافظ ابن كثير ) ج 8 ص 233 .

( 2 ) من كبار شيوخ الشيعة وعلمائهم .

( 3 ) والواقع أن إمامة الوقت لم تكن أخترعت بعد ، والإمام الباقر وأبوه على زين العابدين عاشا وماتا وهما لا يعرفان أنفسهما أنهما إماماً الوقت ، وكل ما يعرفانه أنهما من بيت النبوة وأن الإمامة تستمد من بيعة المسلمين لمن بايعونه ، بل إن جدهما امير المؤمنين علياً نفسه لما بويع يوم الخميس 24 ذي الحجة سنة 35 ( كما ورد في تاريخ الطبري ج 6 ص 157 ) أرتقى في يوم الجمعة 25 منه أعواد منبر رسول الله r وقال : (( أيها الناس عن ملأ وأذن . إن هذا أمركم ، ليس لأحد حق إلا أن أمرتم . ودق أفترقنا في الأمس على أمر ( أي على البيعة له ) فإن شئتم قعدت لكم ، وإلا فلا أجد على احد . فهو يعلن على رءوس الأشهاد في مسجد رسول الله r وعلى منبره وبعد البيعة له أنه لا يستمد الخلافة من حق يدعيه ولا من شئ سبق ، بل يستمدها من البيعة إذا أرتضها الأمة ، وإلا فإنه – كاخوانه الثلاثة الذين سبقوه – أرفع من أن يجعلها أكبر همه وغرض نفسه . هذا هو الذي وقع ، وهذه الحقائق صدرت من فم علي بن أبي طالب نفسه ، ومن سنة 35 إلى اليوم الذى تحاور فيه الإمام زيد بن علي بن الحسين مع شيطان الطاق لم يخطر على بال أحد من آل البيت 0 لا على ، ولا الحسن ، ولا الحسين ، ولا علي بن الحسين ، ولا محمد بن الباقر ، ولا غيرهم – أن هناك إمامة لآل البيت كما أخترعها شيطان الطاق فأساء بذلك إلى الإسلام وإلى آل البيت ، وإلى أمة محمد جميعاً ، فالله حسبه .

بل يلاحظ محبته لأهل بيت الرسول ، وجهاده أعداء الله ، وإذلال الكفرة والآنتقام منهم ( 1 ) وإعلاء كلمة الله تنجيه وتوجب فلاحه ، وما يصدر منه من ( الشنائع ) يجب علينا أن نستره ونستغفر الله له . وهذا هو مذهب أهل السنة في حق من ينكر إمامة إمام وقته ولكنه متصف بهذه الصفات المذكورة .

وقالت ( الزيدية ) : إن الإمام بعد الإمام الحسين زيد بن علي ، ولا يقولون بإمامة علي بن الحسين لأن الخروج بالسيف شرط للإمامة عندهم ، والسكوت منافيان لها ويررون أن زيد بن علي على نقل عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين نصوصاً وبشارات في حق إمامته ، وكان زيد بن علي منكراً لجميع معتقدات الإمامية كما روى الزيدية والإمامية معاً إنكاره .

          و ( الباقرية ( 2 ) ) يعتقدون أن الإمام الباقر مهدي موعود ، وحي لا يموت .

          وكذلك ( الناووسية ( 3 ) ) في حق الإمام الصادق ، ويروون نصاً صريحاً بزعمهم عن الصادق وهو قوله (( لو رأيتم راسي تدهده – أي تدحرج – عليكم من هذا الجبل فلا تصدقوا ، فإن صاحبكم صاحب السنين )) .

          وروى ( المهدوية ( 4 ) ) من الإسماعيلية في حق إسماعيل بن جعفر نصه بالتواتر أن هذا الأمر في الأكبر ، ما لم تكن به عاهة . ويكذبون الإمام الكاظم في دعوى الإمامة ويذكرونه بالسوء فإنه أنكر النص المتواتر بزعمهم كأبي بكر في حق علي .

] قال رب أرجعون لعلى اعمل صالحاً فيما تركت ، كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [ ولا يخفى أن مناط التمسك ومحطه إنما هو قوله ] من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [ فلا يمكن للشيعة أن يقولوا إن الرجعة تستحيل للعمل الصالح لا للقصاص وإقامة الحد والتعزير لما وقع المنع من الرجعة آخر الآية مطلقاً . وقال الشريف المرتضى في
( المسائل الناصرية ) : إن أبا بكر وعمر يصلبان على شجرة في زمن المهدي ! قيل : إن تلك الشجرة تكون رطبة قبل الصلب فتصير يابسة بعده ، فهذا الأمر سيضل به جمع ، وهم يقولون : إن هذين البريئين قد ظلما ، ولذا صارت الشجرة الخضراء يابسة . وقيل تكون تلك الشجرة يابسة قبل الصلب ثم تصير رطبة خضراء بعد الصلب ، وبهذا السبب خلق كثير ( 1 ) والعجب ان هؤلاء الكذابين مختلفون بينهم في هذا الكذب أيضاً ، فقال جابر الجعفي هو من قدماء هذه الفرقة : إن
-------------------------

( 1 ) الدكتور غوستاف لوبون تحقيق عن التحزب والتشيع وتاثيره على العقول فيكون الإنسان بنفسه من أهل العقول حتى ينقاد إلى تشيع الأشياع وتخرب الأحزاب فيتخلي عن عقله وينساق وراء الجمهور الذى تحزب له . وهذا المعني قد خطر لنا عند قراءة هذا النص من كلام المرتضى ، فقلنا إذا كان هذا الرجل يبلغ به ضعف العصبية والتشيع إلى أن ينزلق فيصدر عنه مثل هذا السخف ، فكيف بمن هم أقل منه علماً واضعف عقلاً من سائر طائفته ! فالحمد لله الذى عافانا مما أبتلى به كثيراً من خلقه .

أمير المؤمنين يرجع إلى الدنيا ودابة الأرض المذكورة في القرآن عبارة عنه معاذ الله من سوء الأدب ( 1 ) والزيدية كافة منكرون للرجعة إنكاراً شديداً ، وقد ذكر في كتبهم رد هذه العقيدة بروايات الأئمة وكفى الله المؤمنين القتال . وقد قال الله تعالى ] وهو الذي أحياكم [ أي أنشأكم من العدم الفطري ] ثم يميتكم [ عند انقضاء آجالكم ] ثم يحييكم [ أي يوم القيامة للجزاء . وقال ] وكنتم أمواتاً فأحياكم [ في الدنيا ] ثم يميتكم [ بعد انقراض آجالكم ] ثم إليه ترجعون[ .

          والدليل العقلي الموافق لأصول الإمامية على بطلان هذه العقيدة أنهم لو عذبوا بسوء أعمالهم بعد ما رجعوا في الحياة الدنيا ثم يعاد عليهم العذاب في الأخرة لزم الظلم الصريح ، فلابد أن يكون في الآخرة معذبين ، فحصل لهم تخفيف عظيم عن العذاب المستمر الدائم وراحة أبدية ، وذلك مناف لغلط الجناية وعظم الجرم ، قال الله تعالى ] ولعذاب الآخرة أشد وأبقى [ . والدليل الآخر على بطلانها ان الخلفاء الثلاثة لم يرتكبوا  ما يوجب تعذيبهم إلا غصب الخلافة وبعض حقوق أهل البيت على زعم الشيعة ، وذلك الغصب بعد تسليمه غايته أن يكون فسقاً كما عليه متأخروا أو كفراً كما زعم متقدموهم ، ولا شئ من الكفر والفسق يوجب الرجعة في الدنيا بعد الموت قبل البعث ، وإلا يلزمهم أن يعتقدوا رجعة الكفرة والفسقة من أهل الأديان كلهم أجمعين ، ولا اختصاص لهذا الكفر والفسق بالرجعة ، وإلا يلزمهم أن يقولوا بكونها أكبر من الشرك بالله تعالى والكفر به – نعوذ بالله من ذلك – ومن تكذيب الأنبياء وقتلهم بغير حق وإيذائهم ونحوها معاذ الله من كلها . وهذه اللوازم باطلة محضاً عندهم ، فقد تبين للعارف المنصف أن هذه العقيدة الخبيثة باطلة على اصولهم والقول بها ضلالة . وأيضاً لو كان المقصود من تعذيبهم في الدنيا إيلامهم وإيذائهم يكون ذلك حاصلاً لهم في عالم القبر أيضاً ، فالأحياء عبث والبعث قبيح ، يجب تنزيه الله تعالى عنه . وإن كان المقصود إظهار جنايتهم عند الناس فقد كان الأولى بذلك الإظهار لمن كانوا معتقدين بحقية خلافتهم وناصرين لهم في زمنهم ، فكان لابد حينئذ أن يؤتى السبطان القدرة على الانتقام منهم حتى لا تضل بقية الأمة ويتبرأوا من أفعالهم . وهذا القدر في تأخير الانتقام بعد ما يمضي أكثر الأمة وياتى آخرون لم يطلعوا على فساد أعمالهم وبطلان أحوالهم اصلاً خلاف الحكمة والصلاح ، فقد لزم منه ترك الأصلح . وليت هذه الأمور تقع في اليوم

-----------------------

( 1 ) في مقالتنا ( تسامح أهل السنة في الرواية عمن يخالفونهم في العقيدة ) المنشورة في مجلة الأزهر ( ربيع الأول 1372 ) تعريف بجابر الجعفي . أما عقيدة أن علياً دابة الأرض فهي من مخترعات عدو الله رشيد الهجري ، وانتحلها جابر الجعفي لأنها وافقت هواه .

الآخر ( 1 ) حتى يطلع كل من الأولين والآخرين على هذا الجزاء والقصاص فيكون لها وجه في الجملة ، بخلاف وقوعها قبله إذا مضى أكثر عمر الأمة وبقيت الدنيا قليلاً فإن بعض الناس الذين يحضرون ذلك الوقت إن أطلعوا على جنايتهم وذنوبهم فلا فائدة فيه ، لأنه لم يكن في ذلك الوقت من يعرف أبا بكر وعمر ومعاوية فيميز أحدهم عن الآخر ، بل ينشا الاحتمال عند كلهم أن عدة ناس سموهم باساميهم كيزيد وشمر المجعولين في الأيام العشرة من المحرم للقتل توطئه لتشفيه قلوبهم . ولو كان يكفى قول المهدي والأئمة الآخرين إن فلانا أبو بكر وفلاناً عمر فلماذا لا يقبل قولهم في بطلان أمر خلافتهم وغضبهم وظلمهم وتعذيبهم في البرزخ ، معاذ الله ، حتى يحتاج إلى أحيائهم ؟ وايضاً يلزم على هذا التقدير أن النبي r والوصي والأئمة لابد لهم أن يذوقوا موتاً آخر زائداً على سائر الناس للزوم تعاقبه للحياة الدنيا ، وظاهر أن الموت أشد آلام الدنيا ، فلم يجوز الله سبحانه إيلام أحبائه عبثاً ؟ ! وأيضاً إذا أحيى هؤلاء الظلمة سيعلمون بالقرائن أنهم أحيوا للتعذيب والقصاص ، وأنهم كانوا على الباطل والأئمة على الحق فيتوبون بالضرورة توبة نصوحاً إذ التوبة مقبولة في الدنيا ولو بعد الرجعة ، فكيف يمكن حينئذ تعذيبهم ؟ وأيضاً يلزم على هذا التقدير إهانة الأمير والسبطين ، فإنهم كانوا عند الله أذل من كل ذليل حتى أن الله تعالى لم ينتقم من أعدائهم ولم يجعلهم قادرين عليهم إلا بعد مضى ألف وعدة مئات من السنين إذ يظهر المهدي لأغاثتهم بواسطته وينتقم من أعدائهم ويجعلهم قادرين عليهم ! وبالجملة فإن مفاسد هذه العقيدة أزيد من أن تحيط بها الكتابة والعبارة .

          العقيدة الثالثة – مذهب أهل السنة أن الله يعذب من يشاء ويرحم من يشاء من العصاة . ويعتقد الإمامية أن أحداً منهم لا يعذب بأي ذنب من صغيرة أو كبيرة لا يوم القيامة ولا في القبر . وهذه العقيدة إجماعية لهم ومسلمة الثبوت عندهم ، ويستدلون عليها بان (( حب علي كاف في الخلاص والنجاة )) كما تقدم في المقدمة . ولا يفهمون أن حب الله تعالى وحب رسوله r لما لم يكن كافياً في النجاة والخلاص من العذاب – بلا إيمان وعمل صالح – كيف يكون حب علي كافياً ؟ ! إن هذه العقيدة خلاف أصولهم ورواياتهم أيضا ، ولكن لما كان غرضهم الإباحة والعذر لترك الطاعة وإسقاط التكاليف تلقوها بالقبول ، وغلبت أنفسهم الأمارة بالسوء على العلم والعقل وقهرتها . أما المخالفة للأصول فلأنه إذا أرتكب إمامى الكبائر ولم يعاقبه الله على ذلك يلزم ترك الواجب على الله لأن عقاب العصاة واجب على الله عندهم ، واما المخالفة للروايات فلأن الأمير
---------------------------

( 1 ) والذين يكذبون على الله ، ويخترعون هذه السخافات مستبعد عليهم أن يكونوا مؤمنين باليوم الآخر ، وكيف يؤمن باليوم الآخر من ينتسب إلى الإسلام  ويكون في قلبه كل هذا الحقد الفاجر على مثل أبي بكر وعمر اللذين لم تنجب الإنسانية بعد أنبياء الله من بلغ شانهما ؟

والسجاد والأئمة الآخرين قد روى عنهم في أدعيتهم الصحيحة البكاء والاستعاذة من عذاب الله تعالى ، وإذا كان مثل الكرام خاشين هائبين ، فكيف يصح لغيرهم أن يغتر بمحبتهم ويتكئ عليها في ترك العمل ؟ ! .

          وفي الأصل هذه العقيدة مأخوذة من اليهود ، حيث قالوا ] لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون * فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [ وعمدة ما يتمسكون به في هذا الباب روايات وضعها رؤسائهم الضالون المضلون . منها ما روى ابن بابويه القمي عن المفصل بن عمرو قال : قلت لأبي عبد الله لم صار على قسيم الجنة والنار : لا يدخل الجنة وإنما خلقت الجنة لأهل الإيمان إلا مبغضون . والدليل على كذب هذه الرواية أن الأئمة ما كانوا ليقولوا بما يخالف القرآن والشريعة أصلاً ، وإلا فقد كذبوا أنفسهم وآباءهم .

وفي هذه الرواية مخالفة للقواعد المقررة في الشريعة بعد وجوه :

( الأول ) أن حب شخص أو بغضه لو كان إيماناً أو كفراً لا يلزم أن يكون ذلك الشخص قسيماً للجنة والنار ، لأن سائر الأنبياء والمرسلين والأئمة والسبطين لهم هذه الرتبة وليس أحد منهم قسيماً لهما .

( الثاني ) أن حب الأمير ليس كل الإيمان ، إلا يبطل التوحيد ، والنبوة ، والإيمان بالمعاد ، والعقائد الضرورية الآخر للشيعة كلها ، ولا تمام المشترك بينهما ، لأن التوحيد والنبوة اصل أقوى وأهم ، وعليه مناط تحصيل الإيمان . وأيضاً يلزم على ذلك التقدير أن يجوز سب الأئمة الآخرين وإيذائهم معاذ الله من ذلك ، فلما لم يكن كل الإيمان ولا تمام المشترك بينهما ، بل يثبت أنه جزء من أجزاء الإيمان لم يكن ليكفى وحده في دخول الجنة ، وهذا هو الأظهر .

( الثالث ) أن قولهم (( لا يدخل النار إلا مبغضوه )) يدل صراحة على انه لا يدخل النار أحد من الكافرين الذين لم يبغضوه كفرعون وهامان وشداد ونمرود وعاد وثمود وأضرابهم ، لوجود الحصر في العبارة ، لأن أولئك المذكورين لم يبغضوا علياً بل لم يعرفوه ، وهو باطل بالإجماع .

( الرابع ) أنا لو أسلمنا ذلك كله فليس لتلك العبارة مساس بمدعاهم ، لأن حاصلها أنه لا يدخل الجنة من لا يجب علياً ، لا ان كل من يحبه يدخلها . والفرق بينهما واضح ، لأن الأول يكون دخول الجنة مقصوراً على المحبين بخلاف الثاني فإن فيه كون المحب مقصوراً على الدخول فلا يوجد بما سواه ومدعاهم هذا دون الأول .

( الخامس ) لو تجاوزنا عن هذه كلها يلزم أن يكون جميع فرق الروافض ناجين ، وهو خلاف مذهب الإمامية . ولما لم تنطبق هذه الرواية على غرضهم روى ابن بابويه رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله r (( جاءني جبريل وهو مستبشر فقال : يا محمد ، إن الله الأعلى يقرئك السلام وقال : محمد نبيى ورحمتي ، وعلي حجتي ، لا أعذب من والاه و إن عصاني ، ولا أرحم من عاداه وإن أطاعني )) والدليل على كذب هذه الرواية أن معنى النبوة ههنا قد ثبت في الحقيقة لعلي لأن حبوط الطاعات إنما هو في حق منكر الأنبياء خاصة ، ولزم تفضيل علي على النبي لأنه لم يثبت له رتبة الحجية ، إذ منكره يكون من جملة العصاة والمقر به من جملة المطيعين ، ومع هذا لا خوف على العاصي ولو كان منكراً للرسول إذا كان محباً لعلي ، ولا منفعة ولو كان مؤمناً بالنبي إذا كان يبغض علياً . ولا يخفى أن ذلك مخالف لقوله تعالى ] ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [ وقوله ] ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالً مبيناً[ وقوله ] ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها أبدا [ وكل الروايات تخالف النصوص فهي موضوعة جزماً كما تقرر عند أصحاب الحديث . وأيضاً لزم منها نسخ الصلاة والصوم والطاعة والعبادة وحرمه المعاصي ، ولم يبق غير حب علي وبغضه مدار الجزاء ، ولزم أن نزول القرآن يكون ضلالة الخلق لا لهدايتهم ، إذ لم يذكر فيه حب علي وبغضه مع أنه لابد منه ، ولو كان مذكوراً يكون بنوع لا بفهمه كل أحد من المكلفين البتة ، وتكليف فهم اللغز لا يتحمله كل أحد ، فالقرآن كله يدعو إلى أمر لا يحتاج إليه في الآخرة أصلاً ، وما ينفع في الآخرة لا اثر له فيه ، معاذ الله من ذلك . هذا وقد رويت روايات أخر في كتبهم المعتبرة مناقضة لهذه الروايات ، منها ما روى سيدهم وسندهم حسن بن كبش عن أبي ذر قال : نظر النبي r إلى علي ابن ابي طالب فقال (( هذا خبر الأولين وخير الأخرين من أهل السماوات وأهل الأرض ، هذا سيد الصديقين ، هذا سيد الوصيين وإمام المتقين قائد الغر المحجلين . إذا كان يوم القيامة كان على ناقة من نوق الجنة قد أضاءت عرصه القيامة من ضوئها ، على رأسه تاج مرصع من الزبرجد والياقوت . فنقول الملائكة : هذا ملك مقرب ، ويقول النبيون : هذا نبي مرسل . فينادي المنادي من تحت بطنان العرش : هذا الصديق الأكبر ، هذا وصي حبيب الله علي بن أبي طالب ، فيقف على متن جهنم فيخرج منها من يحبه ويدخل فيها ن يبغضه ، ويأتي أبواب الجنة فيدخل فيها من يشاء بغير حساب )) . ولا يخفى أن هذه الرواية ناصة صريحاً على أن بعض العصاة فمن يحب الأمير يدخلون النار ثم يخرجهم الأمير ويدخلهم الجنة بعد ما يعذبون بقدر أعمالهم ، وبينها وبين الرواية الأولى تناقض صريح . ومنها ما روى ابن بابويه القمي عن جابر بن عبد الله t أنه قال : قال رسول الله r (( إن عبداً مكث في النار سبعين خريفاً كل خريف سبعون سنة ، ثم إنه سأل الله تعالى بحق محمد وآله أن يرحمه فأخرجه من النار وغفر له )) فإن كان الرجل محباً للأمير فلم عذب في النار هذه المدة المديدة ؟ وإن كان مبغضاً له فلم يدخل الجنة مغفوراً له ؟ والأظهر أن من كان منكراً لولاية السبطين والبتول والأئمة الأخرين ومحباً أن يكون من أهل الجنة ولا يمسه عذاب النار اصل ، مع أن ابن المعلم الملقب بالمفيد روى في كتاب
( المعراج ) له أن الله تعالى قال (( يا محمد ، لو أن عبداً عبدني حتى يصير كالشن البالي أتاني جاحداً لولاية محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ما أسكنته جنتي )) فالكيسانية مع جحودهم بولاية السبطين والغلاة مع مخالفتهم عقيدة الأمير لا بد أن يكونوا ناجين من أهل الجنة على ما رواه ابن بابوية . فإن قالت الإمامية : إن هذه الرواية ذكر فيها الجحود بولاية كل واحد من الخمسة فولاية الأمير من جملتها فلعل رد عبارات ذلك الرجل لكونه جحد ولاية الأمير بناء على كون النجاة بناء على كون منوطة بالولاية المطلقة فجحود إحدى الولايات مناف لها قلنا فعلى هذا جحود ولاية محمد
r المستلزم للكفر يكون كافياً بالإجماع في حبوط الأعمال من غير أن يكون لجحود ولاية على دخل فيه فعلم أن المقصود ههنا جحود ولاية كل واحد منهم منفردة وبه يثبت المدعى .

ولما انجر الكلام لزم أن نبين أن الاثنى عشرية يعتقدون أن جميع فرق الشيعة – سوى فرقتهم – مخلدون في النار وهم ناجون قال ابن المطهر الحلى في ( شرحه للتجريد ) : إن علماءنا لهم اختلاف في حق هؤلاء الفرق ، قال بعضهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنة وقال بعضهم يخرجون من النار ويدخلون الجنة وقال ابن نوبخت والعلماء الآخرون يخرجون من النار لعدم الكفر ولا يدخلون الجنة لعدم الإيمان الصحيح الذي يوجب استحقاق ثواب الجنة بل يمكثون في الأعراف خلوداً . وقال صاحب ( التقويم ) الذي هو من أجل علماء الإمامية إن الشيعة المحضة قد تفرقت على اثنين وسبعين فرقة والناجية منهم الاثنا عشرية والباقون يعذبون في النار مدة ثم يدخلون الجنة . فهم يثبتون جزماً في حق من يحب الأمير إما تعذيباً دائماً أو منقطعاً . وأيضاً قال صاحب التقويم : وأما سائر الفرق الإسلامية فكلهم مخلدون في النار فمن ههنا علم أن أهل السنة أيضاً مخلدون في النار عندهم مه أنهم يحبون الأمير ويعتقدون أن حبه جزء الإيمان فانتقضت قاعدة محبة الأمير طرداً وعكساً . ويخالف ذلك أيضاً ما رواه ابن بابويه عن ابن عباس عن النبي r أنه قال (( والذي بعثني لايعذب بالنار موحد أبداً )) وروى الطبرسي في ( الاحتجاج ) عن الحسن بن علي أنه قال : من أخذ بما عليه أهل القبلة الذي ليس فيه اختلاف ورد علم ما اختلف فيه إلى الله سلم ونجا من النار ودخل الجنة وروى الكليني بإسناده صحيح عن زرارة قال : قالت لأبي عبدالله : أصلحك الله (1) أرأيت من صام وصلى وحج واجتنب المحارم وحسن ورعه ممن لا يعرف ولا ينصب ؟ قال : إن الله يدخله الجنة برحمته فهذه الأخبار الثلاثة دالة بالصراحة على نجاة أهل السنة . وكذلك تدل على إبطال قول الجمهور من الروافض وقول صاحب التقويم . وكلام ابن نوبخت المنجم الذي كان في الأصل مجوسياً ولم يطلع على قواعد الإسلام بعد أيضاً باطل لا أصل له لأن الأعراف ليس دار الخلد بل أهله يمكثون فيه مدة قليلة ثم يدخلون الجنة كما هو الأصح عند المسلمين .

 

------------------------

( 1 ) ودعاؤه له بأن يصلحه الله اعتراف منه باحتمال أن يكون منه عكس ذلك وهو ينافي العصمة التي يدعونها لأبي عبدالله وآبائه .

 

 

 

 

الجزء الثاني